(جرمانا) عينة من حضارتنا الانفتاحية

28-07-2009

(جرمانا) عينة من حضارتنا الانفتاحية

في إطار الحديث المكرر عن الفساد ...هذا الذي صار بطل المواد الصحفية والجلسات الشعبية ومجالس أنصاف المثقفين والمثقفين النخبة الذين يطالعونا بكلامهم المبهم بحيث لا نستطيع نحن أي الشعوب المتلقية لكل نظرياتهم أن نستمد منه إدانة لأحد أو حلا من أحد ..
وفي إطار تسليط الضوء على ذلك رأينا أ ن نتبع أسلوب اختبار  العينات من أجل  استقراء الواقع بحيث يحالفنا الحظ  ببعض المصداقية , والأهم أن نجد من يسمع ويستجيب ...ووفق هذه الآلية اخترنا أن ننزل إلى شوارع إحدى البلدات التي أصبحت مدينة تبعا لعدد سكانها الكبير دون أن تحظى بما يناسب تسميتها الجديدة من الخدمات أو البنى المناسبة وأصبحت رمزا ومثالا لكل أشكال المخالفات المدفوعة الثمن أو المحمية من جهات مجهولة ووفقا لهذه المعطيات أستطيع أن أسمي  منطقة جرمانا مثالا واقعيا واضحا لكل أشكال الانتهاكات بحق الوطن والمواطن .
منذ أكثر من عامين أصبحت هذه المنطقة تجمعا سكانيا هائلا ينضح بالمهاجرين من داخل القطر ومن خارجه ووفقا لمعادلة الربح والاستفادة من كل أشكال السياحة البائسة ازدهرت أنواع من المقاولات وانتشرت كالفطر في مكان حجب عنه الضوء عمدا في الغالب ونادرا تسلل, وأصبح تهريب السطوح في ليلة خميس شعارا تلوح به المكاتب الفنية لعملائها كستار للفاعل والمتجاهل وشهدت بلدية جرمانا على مدى أعوام قليلة مضت حالات من الشد والرخي ومحاسبة تطال بعض موظفيها بوصفهم كروتا محروقة في حالات متعددة وأصبح سيناريو التجاوب مع الشكوى معروفا ..تشويه في السطح المخالف وأحيانا إزالة ولكن بعد حين وبعد أن تتم التسوية بين المشتكي الذي يقدم اسمه الموظف المتواطئ للمقاول ..يعود هذا الثاني ليكمل البناء المخالف بعد أن تمت المصالحة مع الجيران او الجار المعترض برعاية خفية من الموظف صاحب النوايا الطيبة ..وينحصر دور الجهة الرقابية الممثلة بلجان الهدم ومن خلفها بسحب اليد طالما كل الأتاوات مدفوعة والجار أصبح راضيا أما القانون فهو الوحيد الذي لا يريد أحد تنفيذه وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار ..
ليس ما أكتب محض اتهامات بلا أساس لأني اختبرت هذا الوضع شخصيا وأسكن في حي يختنق من سوء الخدمات و يتباهى بأبراجه المتهالكة على أساسات لا تحتمل نصف ما تحمل فعليا وبمعنى أدق الرخصة ثلاثة طوابق والبناء خمس أو ست طوابق وهذا مع تجاهل الفتحات السماوية والوجائب النظامية التي تصبح المطالبة بها ضربا من معاندة القدر ويحق للجميع أن يجعلوا منك بهذا الطلب عدوا لكل الطبقات الكادحة التي تحلم بمأوى وهكذا تسحب الجهات التي يفترض أن تنوب عن الدولة يدها من هذا الصراع لتحوله إلى جلسات ابتزاز بين الجيران بعد أن يكون مندوب الفساد قد أبرم الجزء الخاص بالشلة ...
ولكن وللأمانة فإن المجلس البلدي الأخير يدعي أنه  حد كثيرا من هذه المخالفات ولو أننا ( واعذروا سوء الظن فينا فهو ناجم عن خبرات سابقة ) لا نثق بالمكاتب الفنية ومهندسيها ..وقد ذكر أحد المواطنين أن أحد أبنية العقار 488 شهد صبة سطح طابق سادس بعد صدور القرارات الأخيرة المتعلقة بإزالة المخالفة إزالة كلية ..ولسنا نعادي من يريد السكن والمأوى في هذه الحالة وإنما نطالب بضبط هذا الوضع لنحظى بفرصة المعاملة البشرية والسكن بأقل ما يمكن من حماية بدلا من أشلاف الحديد الهزيلة التي تئن من ثقل ما تحمل فنحن إنما نطالب بأقل ما يضمن سلامتنا وكونهم يدركون أنهم لسبب أو لآخر سيغضوا الطرف عن المخالفين وفق تسوية ما فإننا نطالبهم بفرض أساس يحمل ما سيتجاهلونه من طوابق مخالفة كحد أدنى من الحرص على سلامة المواطن ولا ننتظر حتى تتساقط الأبنية كما يحدث في مصر فلا ينقصنا في هذا المكان سوى خيمة إيواء.
- يوم الخميس الماضي سبحت الطرقات بالمياه والوحول حين عبرت غيمة شاردة سماء دمشق ..المدهش أننا قلما نتساءل عن مصارف الشوارع وكأنها خارج ثقافة مساكننا المخالفة , والمبادرة دائما حاضرة سواء في كانون او في أيار ..فوق الوحل المخلوط بمياه المجرور المكسور في شوارع منذ سنين دفنت إسفلتها تحت مئات الحفريات..للمياه  للكهرباء للهاتف للمجرور ..لمئات المناقصات التي تستهدف مشاريعها مصلحة المواطن ثم يجني أرباحها وعمولاتها مواطن محظوظ  أو مدعوم أو بزنس مان ..

 نشر أحد المتطوعين قطعا من البلوك في المستنقع الدائم ووضع عليها قطعا من الكرتون بحيث يصبح القفز فوقه فيه متعة من قبيل برنامج الحصن الذي كان يقدمه رياض شرارة ..فالمواطن يعيش المتعة والمغامرة وحالات الأكشن في بلدنا ثم يتذمر ..
- حين تتمشى في شوارع جرمانا التي تعج بالقادمات من كل صوب واللواتي نشطن الحركة في البلد ( وخصوصا بالنسبة للشقق المفروشة وسائقي سيارات الأجرة ) في هذه المنطقة يتدافع المارة الهاربين من السيارات لأن أصحاب المحلات ألحقوا الأرصفة بممتلكاتهم سواء بنشر بضائعهم عليها أو خيمهم القرميدية  أو كراسيهم وطاولاتهم كما في عدد من المطاعم وخاصة التي يقال أنها مدعومة أو أن الجهات المعنية أجرتها لهم وهذا قيل عن قال لأني منذ أكثر من سنة سألت رئيس البلدية عن الأمر, أكد رغبته في محاربة هذه الظاهرة وأن هناك مخالفات تطبق عندما يكون الأمر متاحا وأكد أن منطقة الكشكول تحتاج إلى قوات حفظ النظام وإلا لا يمكن التدخل كمثال على المعوقات .. وأكد أن المخالفات كبيرة(6000) ليرة مخالفة إشغال أرصفة مع أن حال البلدية التي تشكو قلة الموارد المادية لا يدل على ذلك ..والأدهى أن عدد من أصحاب المحلات  يزرع أعمدة في الشوارع لمنع السيارات من التوقف مع أن سيريا باركينغ لم تستثمر بعد في جرمانا .و أحيانا تحدث مشاجرات كبيرة لمجرد محاولة أن تركن سيارتك أمام أحد المحلات ..
أما الظاهرة الأكثر جدلا فهي أنه بعد سقف فرع بردى الذي ابتلع عددا من الأطفال على مدى سنوات قام عدد من أصحاب المنازل الذين وجدوا أنفسهم على الشارع بعد أن تنشقوا روائح المجاري لسنين قاموا بعمليات زحف على هذا الشارع الجديد كنوع من محاولة اقتسام فتات من أملاك هذا البلد المتسامح وبدون أن تتدخل الجهات المعنية لصالح حقنا في الحصول على شارع عريض كجزء من حلم بفسحة آدمية يهرب فيها الهواء المخنوق بعد أن حجب الشمس جشع تجار البناء الصغار ..
- حكاية القمامة تلك مطب آخر فبالرغم من الشوارع التي تكاد تكون الأسوأ تطالعك أكوام الزبالة في كل شارع منها ويجتمع المنقبون عن النايلون والألمنيوم فيها وأحيانا باستنفار أفراد عائلة المنقب جميعا ليلتقطوا رزقهم بعد ان سجلوا رقما قياسيا في المساكنة مع الجراثيم والفطور والفيروسات التي تختلط في جرمانا بكل ما هو مخالف لإنسانية الإنسان ..وأما ضيوفنا العراقيون وهم أصحاب بلد فإنهم قدموا خدمات جلية لشركات الكولا التي أقترح أن تساهم بحملة للملمة الفوارغ المنتشرة في كل مكان في شوارع يتعامل أغلب المارة فيها على أنهم عابرون وينتظرون أول فرصة للرحيل ..
- تشكل وحدة مياه جرمانا مثلا حقيقيا في هذا المجال ففي أحد أحياء منطقة القريات تبقى الشوارع موحلة صيفا شتاء وكل جهة ترمي التهمة على الأخرى ثم تخرج قطرة المياه على شاشة التلفزيون لتعلمك أن تحلق ذقنك برشة مياه وتستحم بالسطل واللكن دون استخدام الدوش والبانيو بينما تتغافل عن هدر يطال شبكاتها المنفذة بأقل قدر من الرقابة ..
- تنتشر في جرمانا ظاهرة التطاول على وجائب الأبنية بتحويلها محلات تجارية عن طريق سقفها بالقرميد أو الأترنيت أو ألواح الزينكو وهناك أمثلة حية في حي الروضة والجمعيات وقد اخترتها بوصفها وفقا لتصنيفات جرمانا أحياء درجة أولى ونظامية افتراضا أما في بقية المناطق فما خفي أعظم وللحياد اخترنا منطقة القوس التي تعتبر منطقة وسط ليس من حيث الموقع وإنما من حيث تصنيفات سكان المنطقة ..
في أول جرمانا في منطقة القوس حيث تعج المنطقة بالمحلات التجارية والمطاعم الشعبية وقبل أن نتغلغل بعيدا عن الشارع العام استوقفتنا الظاهرة نفسها..
 دخلنا إلى منزل أحد المواطنين ومن النافذة التي يفترض أن تنفتح على فسحة سماوية وجدنا سقفا من التوتياء امتد على كامل الوجيبة التي تقاسمها مطبخ لأحد المطاعم الشرقية  ومحمصة معروفة بفروعها التي تحمل الاسم نفسه ومقهى يحمل اسما يفترض أن فيه شيئا من دمشق ..
- لم يفكر الجيران بالاعتراض على جيرانهم المتطاوليين على الوجيبة رغم حجبهم الجزء الأكبر من هواء التنفس وحرمان البناء بكامله من نسمة هواء متسربة بين الكتل الإسمنتية ..لكن الامور تفاقمت ووصلت إلى الحد الذي لا يمكن تحمله حين تحول جزء من هذه الوجيبة المخالفة إلى مقهى يسهر إلى أن يتعب الليل وتختنق الشبابيك برائحة النراجيل وتتطاير الكلمات البذيئة إلى آذان الأطفال الذين يناضل الأهل لحمايتهم ويحددون لهم خطواتهم ويعدون عليهم أنفاسهم ليحظوا بشئ من التربية في بلد أصبح الانحراف فيه ثقافة ومنهجا..
 لكن عبثا حين يجاورك مقهى انفتاحي لا يشبه النوفرة أيام زمان ولا يعتلي صهوة مجلسه حكواتي ليبث الحماس ويبعث النخوات ..وإنما تسهر مع صراخ المتناقشين حول تافهات العصر وتثقفك المهاترات الغوغائية ويرسل كل واحد من ابناء الشارع شيئا من قذارة الأرصفة مرة بشتيمة ومرة باقتتال مفرغ من الرجولة وأبناء الطبقة الوسطى الذين وجدوا يوما من الأيام في ضواحي دمشق الهادئة ملاذا لبقايا ثقافاتهم فتحوا عيونهم على جشع المقاولين الصغار المتعلقين بذيول بعض المسؤولين ليجدوا أنفسهم متكورين على أنفسهم في بيوتهم الضيقة لا يريدون أن يقتربوا من نافذة أو بلكونة فيرميهم الشارع بقذاراته بلا تمييز بين طفل أو امرأة.

- لم نحلم يوما بكل هذا الكم من المقاهي والمطاعم التي خربت عيشنا وحرمتنا النوم ونشرت ثقافة النراجيل واحتضنت ما احتضنت من طلاب الأنس وجعلتنا نسجن أنفسنا في بيوتنا الضيقة بعد أن افتقدت الحارة الشعبية الأمان وحل محل سهرات الجيران زمامير سيارات المنتظرين تحت شقق كادحات الليل ومن في حكمهم من شباب لا يمتلكون من مظاهر الرجولة إلا وصفهم ذكورا في البطاقة الشخصية ..لم نحلم يوما بسيخ الشاورما المنقوع ثلاثة أيام بالخل في مخزن سري حتى لا تطاله الرقابة الصحية حين تقرر أن تنتخي لحمايتنا نخوة فجائية ..
ربما لايحق لنا ان نعترض على ثقافة الشاورما والبيتزا لأنها جزء من هوية اقتصادكم المفتوح الذي يهدد بسرقة خبزنا ويبصق الجوعى على الأرصفة ويشعرنا بالعجز أمام المرأة التي اختزنت برد الليالي في عظامها تحمل رضيعها لتستدر عطف المارة الذين تبلدوا كجزء من ثقافة الانفتاح أو تعبيرا عن عجزهم في جريهم المتسارع خلف اللقمة بإنجازات محدودة .. وابنتها المنكوشة الشعر بالكنزة المهترئة تتمسح بالمارة , تستجدي بعد أن أصبحت أوقح من أن تخشى الزجر والمنع ..
هذه عينة من بلادي وذلك لمن يهمه الأمر ..


ميس نايف الكريدي

المصدر: بورصات وأسواق

التعليقات

مادة جيدة وتقرأ وهي لسان حال بلد بأكمله ولكن ...؟شكرا

كل المذكور في المقال مظبوط . أنا بحس جرمانا دولة مستقلة حتى سرقات الكهرباء فيها عينك كنت عينك ,3/4 أهل البلد الكهرباء اللي عميستخدموه مسروقة و كمان نسيانة تحكي عن الابقار و اصواتهم المزعجة بالمناطق السكنية مثل الجناين -طريق المليحة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...