جسدٌ ...بلا حسد
الجمل- غازي أبو عقل: قرأتُ في الاتحاد الثقافي (الحادي والعشرين من سبتمبر 2008) نبأً وتعليقاً على النبأ نفسه. أما النبأ فهو إعلان الشاعرة اللبنانية جومانا حداد عن قرب صدور مجلتها الفصلية الجديدة "جَسَد"، أما التعليق فكان بقلم الأستاذ عادل علي افتتحه قائلاً: "لا أحسد الشاعرة اللبنانية جومانة حداد على الموقف الذي وضعت نفسَها فيه فصاحبة الرأس الجميل قررت بعقلها الواعي أن تُصدر مجلة ورقية تحمل عنوان جسد..."
لفتَ نظري في النبأ والتعليق كتابة اسم صاحبة "جَسَد" بالواو، في حين يرى ابن منظور وغيره غير هذا الرأي ويقول: الجُمان: هنواتٌ تُتَّخذ على أشكال اللؤلؤ من فضة، فارسي معرَّب، وقال الجوهري: "الجمانة حبة تُعمل من الفضة كالدُّرة، وبه سميت المرأة، وربما سميت الدُرة جُمانة ... على أية حال لامناص من احترام حرية كل إنسان في اختيار اسمه على الأقل، طالما أن الحريات الأخرى دونها خرط القتاد.
تمنَّى الأستاذ عادل للمجلة "التوفيق والنجاح" دون التوقف عند معاييرهما في رأيه على الأقل. لن أخالفه أنا في ما تمنَّاه، غير أن معرفة من سيحمل العددُ الأول تواقيعَهم من الكتّاب يحملني على الظن بضرورة المبادرة من اليوم إلى تكثيف حَمْلةِ الدعاء بالتوفيق، للمجلة، في المعابد الأخرى بالإضافة إلى :"المعبد الوحيد الحقيقي على هذه الأرض وهو جسد الإنسان، على ما كتبَ يوماً الشاعر الألماني نوفاليس"...كما جاء في" البيان الجسدي" أسوةً بالبيان الشيوعي المعروف.
يضيفُ البيان الجسدي، بعد إدراج طقوس معبد الجسد بالتفصيل، أن المجلة ستكون: في تصميم مثقفٍ ورصينٍ وعارف وعنيد على كسر أغلال "التابو" توقاً إلى أعلى سماءٍ للحرية...
لا أريد أن أتجاوز البيان الجسدي وأسترسل في التوقعات لأن العبرة في قراءة المجلة لا في البيان، لذلك بادرت إلى تقديم الدعم إلى "جسد" حتى قبل صدورها عبر "تجنيد" قلم روائي فرنسي شهير اهتم بالجسد اهتماماً كبيراً، أعني لوي فردينان ديتوش Louis Ferdinand Destouches الذي كان يوقع ما يكتب باسم جدته لأمه: سيلين.
المقتطفات الموضَّحة لرأي سيلين في دور الجسد في الأدب، اخترتها من كتاب واحد من أكثر الناس اهتماماً بأدب سيلين، هو الأستاذ هنري ﭼودار المشرف على إصدار روايات سيلين في السلسلة الشهيرة التي تصدرها دار ﭼاليمار بعنوان "الثريا أو الكوكبة" La Pléade . وضع ﭼودار أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة باريس سوربون، منذ 1994 كتاباً عنوانه (سيلين .. الفضيحة) أعيدت طباعته مرات، وما أنقله هنا عن طبعة العام 2000.
الجسد..هذا المكان الذي يحتفل فيه الموت بالنصر...
يَفتتح ﭼودار الفصلَ الرابع من الكتاب وعنوانه:"الفاجع في الظرف البشري" بهذه السطور:
(يعود تأثير سيلين علينا_ من بين أسباب كثيرة أخرى_ إلى أنه يَرُدُّنا إلى جسدنا، فهو مع جُويْس Joyce الكاتب الذي يجلب هذا الجسد إلى حقل الأدب بعد قرون وضع خلالها خارج السياق سراً وبتحفظ في فرانسا أكثر مما في غيرها. ليس باردامو [اسم الراوي الذي اتخذه سيلين في روايته الأولى الشهيرة: رحلة إلى آخر الليل] ولا سيلين من قد يشك بأن له جسداً، كما يشك ديكارت [ نعرف أن ديكارت يشك في الجسد والأشياء المادية، ولكنه لا يشك في أنه "شيء مفكر".
فلقد أكّدت تجربةُ الحرب ،لسيلين، مرة إضافية، ما لم يُتَح له الوقت كي ينساه منذ الطفولة والمراهقة: اندغامه بهذا الجسد الذي كفاه جذع شجرة لحمايته من الرصاصات، شرط الانتباه إلى ضرورة الوقوف جانبياً وراء ساق الشجرة [...] استَعدْنا مع سيلين الحضور الحسي، العضوي، لجسدنا بصفته الجوهر الدائم والركيزة المميزة لبقائنا. إن الجسد لايسمح بنسيانه أبداً: باحتياجاته الأساسية المتجددة على الدوام، بانفعالاته وقلقه، بمصائبه وعجزه، حتى بمجرد روائحه فقط. من هذه النقطة ينطلق سيلين. [...] يذكرنا بالإذلال الذي يفرضه علينا جسدُنا وبالمخاوف التي يوحي بها إلينا. نحن نحتفظ نوعاً ما بالسيطرة عليه، لكننا لا نجهل أنها سيطرة هشَّة وعابرة. فكيف لا نحقد على كاتب يواجهنا دورياً بمصائب جسده مُستعملاً عبارات دقيقة لا تُدحض، ويذكّر بمشاكل مفرزاته المبتذلة التي تصيبنا جميعاً ونسارع كلنا إلى نسيانها، وبواحد من أمراضه _على الأقل_ التي تجعلنا نعرف جيداً_ دون أن نعترف جميعاً لأنفسنا بهذه المعرفة _ بأن هذا الجسد سيصل به الأمر يوماً إلى خيانتنا نهائياً.[...] لن تَحتفظ ذاكرتُنا إلا بصور عجز هذا الجسد البشري وتداعيه، الحاضرة دوماً في أعمال سيلين، فهذه الإشارات المتكررة إلى الإنتان الداخلي، وإلى الخلايا التي تتكاثر والقلب الذي يلهث أو تتسارع نبضاته وكأن مساً قد أصابه، لا تنفك تخاطب خوفَنا الحميم وتفرض نفسَها بالتالي على ذاكرتنا.
يحرص سيلين على هذا الحضور الدائم والطاغي: لأن هذا الجسد هو المكان الذي يحتفل فيه الموت بالنصر...)
أكاد اقترح على الشاعرة مؤسسة مجلة جسد أن تجعل من هذه الجملة الأخيرة شعاراً لمجلتها، لا لشيء إلا لتذكير الذكور المغرورين الذين سيصدعون رؤوسنا، على ما أتوقع، بإنجازاتهم المدهشة في المخادع، تذكيرهم بضرورة التواضع أمام هذه الحقيقة التي لا تُراعي حرمةَ "المعبد الحقيقي الوحيد على هذه الأرض"، بصرف النظر عن تفاقم الكاتبات المنافسات في هذا الميدان.
الأدب والأخلاق
أتصور بين المصاعب التي سوف تواجه "جسد" مسألة الصلة بين الأدب والأخلاق، وهل هناك حدود بينهما. يوجد في كل مكان _ عندنا بخاصة_ من يضعون الأخلاق في أمكنة معينة من الجسد. فإذا احتلت الكتابة ذات الصلة بهذه الأعضاء صفحات من "جسد"- وهي لا بد لها من أن تفعل- فهل سيُشْهر في وجه المجلة سيف الأخلاق؟
عالج ﭼودار في كتابه هذه المسألة تحت عنوان الأدب والأخلاق طوال الفصل الخامس عشر، ورغم ضيق المجال وجدت ضرورة لنقل بعض السطور هنا، فهو يبدأ الفصل بهذه الجملة المدهشة:" الفضيحة الحقيقية الوحيدة التي يواجهنا بها سيلين هي فضيحة المتعة التي نستمدها من قراءة نتاج مؤلف عبّر عن أفكار ندينُها"... الأفكار التي يدينها ﭼودارعند سيلين لا صلة لها بالأمور الجسدية، غير أن هذا لا يمنع التساؤل عمّا إذا كنا سوف نقرأ في "جسد" نصوصاً نستمد المتعةَ منها رغم تضمنها أفكاراً ندينها؟ المسألة... يضيف ﭼودار قائلاً :" انقضى إلى اليوم قرنٌ ونصف على ما بدا من أن هذه المسألة القديمة، مسألة الأدب والأخلاق قد حُسِمت نهائياً بهذه السطور التي كتبها بودلير منذ 1857 : ( يسعى الإدراك المحض إلى الحقيقة، ويدلُّنا الذوق إلى الجمال، ويُعلّمنا الضمير الخلقي الواجبَ. صحيح أن التوازن وإدراك _معنى الوسط_ ذو ارتباطات جوهرية خاصة بالطرفين الأقصَيين، ولا يفصله عن المعنى الأخلاقي أو _الضمير_ إلا فارق زهيد جداً لم يتردَّد أرسطو في تصنيف بعض عملياته الحساسة بين الفضائل. لنَضَع "بادرة الإبداع " أو الحَدس بهذه البادرة مكان "الذوق" ونضع الإحساس بهذا الإبداع محل الجمال فلا يبقى هناك ما يُقال..."
أدب الجسد، نعم ولكن ...بأية لغة؟
قال سيلين في مقابلة سُجلت لإذاعة سويسرا بالفرنسية سنة 1955 ولم تُذع:" في البدء كان الانفعال..قال الكتاب المقدس في البدء كان الكلمة، نعم. ربما. لا..هذا الأمر لا يستقيم. في البدء كان الانفعال".
سَبق أن كتب جان جاك روسو في "دراسة حول أصل اللغات: إن الكلمات الأولى التي اختُرعت كانت: الصرخات والأنين والتنهدات. وهي انفعالات وليست لغة مُقنَّنة"...ففي أية لغة ينبغي نقل انفعالات "جسد"؟
لنقرأ ما كتبه ﭼودار عن سيلين الفضيحة: ( أقام الأدب الفرنسي منذ القرن السابع عشر حول غياب الجسد عمارةً كاملة من السيكولوجيا، كان الجناح الرئيس فيها التحليل النفسي للحب، هذا المعين الذي لا ينضب. وتنافسَ الكتّاب "الأخلاقيون" والمؤلفون المسرحيون ثم انضم إليهم الروائيون، على تقديم النصوص ذات الفطنة والدقة في هذا المجال. وكانوا قد زوَّدوا أنفسَهم بمعجم من المفردات التي تمكَّنتْ تجريديتُها من استبعاد هذا الجسد غير المرغوب فيه... سيلين في فرانسا هو الذي عدَّل المطابقةَ في نظرتنا وروَّضها...الجسد عند سيلين حاضر جداً دائماً، لكي لا نظن أو نفكّر لأكثر من لحظة أن الزمن مصنوع من السيكولوجيا: إنه قبل كل شيء، وحصرياً، في بعض الأحيان في الكيفية التي يشعر بها كل منا ويحس أنه في جسده...أية لغة كان بوسعها قول ذلك إلا اللغة الشعبية؟
من أجل هذا كان سيلين بحاجة إليها. إنها لغة الأفراد الذين لم يتعلموا توسيط حجاب لغوي بينهم وبين أجسادهم، بخاصة بين تلك الأعضاء من أجسادهم ووظائفها، التي تُعلِّم آدابُ السلوك البورجوازي الأولادَ باكراً "ألا يأتوا على ذكرها". إن إعادة إدخال اللغة الشعبية إلى الأدب، كما إعادة الجسد إليه، كانا عند سيلين على سوية واحدة. ما كانت هذه اللغة ضرورية إليه من أجل قدرته على الاحتجاج الاجتماعي فحسب، أو من أجل هذا الاستعمال الآخر لها الذي قَدمتْ إليه أنموذجه، بل كانت أيضاً الشرط اللازم لكي يتمكن بها من التعبير عن رؤيته للإنسان المبعوث مجدداً في جسده الخاص الذي يشكل واحداً من ملامح الثورة السيلينية... يلعب تَبنّي سيلين اللغةَ الشعبية في هذا المجال دوراً لا يسعنا تجاهله، هذه اللغة الثرية الملأى بالإمكانات التي تجدد من جانب آخر الاستعمال الأدبي للفرنسية. ترتبط الفرنسية "الصحيحة" بنظام اجتماعي للتهذيب يجعلها لا تذكر وظائفَ الجسد والأعضاء المستعملة لأداء هذه الوظائف عندما تجد نفسَها مُكرهةً فعلاً على ذكرها، إلا باللجوء إلى تعابير تشريحية أو طبية "تطهرها" تماماً. أما عندما يبدأ الإحساس بالحاجة إلى ذكر حقيقة ما تحمله تلك التعابير من رغبة أو من قرف فما لنا إلا اللغة الشعبية)...
كتبَ سيلين صفحات "مُبهجة" عن هذا الجسد الذي يُضمٍر خيانَتَنا، منها على سبيل المثال ما خص بها راقصات "الباليه" لا بل عقَدَ مقارنة بين الراقصة والكاتب، وتغنَّى بالأجساد الفتية وبجوانب الفتنة في مشي الصبايا، دون أن ننسى الجانب الغريزي في العلاقات الجسدية، ومنها تعليم فردينان كيفية المضاجعة( في رواية موت بالتقسيط ربما). غير أن الأمر الذي استرعى الاهتمام وما زال هو تلك اللغة التي ابتكرها من أجل التعبير عن الانفعالات المتنوعة بصورة عامة، وانفعالات الجسد على وجه الخصوص.
يلاحظ من يتتبع بعض الدوريات الأدبية المصرية نجاح كثير من القصائد المكتوبة باللغة الشعبية في أن تكون قراءتها ذات طلاوة وقريبة إلى القلب لأنها أكثر "صدقاً" ربما في نقل المشاعر والانفعالات من اللغة "الرسمية".. فكيف سوف تُعبّر "جسد" عن انفعالها؟ بعد أن قطعت على نفسها وعداً بأنها: "ستحمل إلى لغة الضاد ما لا تتوقعه ربما، أو لنقل ما لم تعد تألفه في أزمنة الانحطاط والتزمت والتشنّج والمحافظة"...ربما ستفاجئنا بكاتب "سيليني" لم تأتِ على ذكره مع من سيحمل العدد الأول تواقيعَهم... لن أدخر جهداً من جهتي في الدعاء الحار "بالتوفيق والنجاح" متمنياً أن تعتمد "جسد" على سيلين عربي أو أكثر، في محاولتها "كسر أغلال التابو توقاً إلى أعلى سماءٍ للحرية..." هذه الحرية التي نادَتها "نهاد حداد"...يا زهرة نارية يا طفلة وحشية...هل جمانة ونهاد قريبتان؟
الجمل
إضافة تعليق جديد