جوزيف سماحة: الديموقراطية هبة الاحتلال
في آذار/ مارس ٢٠٠٣ بدأت القوّات الأميركيّة بالزحف على بغداد، وفي التاسع من نيسان/ إبريل سقطت عاصمة العبّاسيين بيد جورج بوش الابن (وتابعه طوني بلير) تحت لواء تطبيق القوانين الدوليّة، وتحرير الشعب العراقي من الاستبداد. خلال تلك الأيّام العصيبة كان زميلنا الراحل جوزف سماحة، من موقعه في جريدة «السفير»، يواكب الحدث بنظرته النقديّة، مفكّكاً الأهداف الاستعماريّة للحملة الأميركيّة التي حوّلت «المشرق العربي إلى حقل رماية»، ومستشرفاً مستقبل العراق والمنطقة، في ضوء الصراع العربي ـــ الاسرائيلي وقضيّة العرب المركزيّة: فلسطين.
كتب مجموعة من الافتتاحيّات، طارحاً أسئلة الديمقراطيّة، واضعاً فئة من المثقفين أمام مسؤوليّتها لأنّها شهدت بالزور أمام التاريخ، وظنّت للحظة أن الجيش الأميركي سيحررها من الطغيان، ويهديها التقدّم والحريّة على طبق من فضّة: «إن القضية، اليوم، هي قضية الحرب.
الديموقراطية هبة الاحتلال
وثمة إشراف دولي، عبر صندوق النقد، على عدد من الاقتصاديات العربية بحيث يمكن الحديث عن انتقاص، ولو محدود، في السيادة.
وثمة علاقات ثنائية تربط بلدانا عربية بحلف شمال الأطلسي (الأردن، المغرب، تونس، الجزائر، مصر...) في ما يعرف بـ «المبادرة المتوسطية» التي تقضي بتبادل (!) الخبرات، والعمليات الإنسانية المشتركة، والمناورات، وأشكال أخرى من التعاون «الوديع».
وثمة نوايا معلنة لاحتلال العراق بالكامل وتهديدات إسرائيلية بالتعرض إلى سوريا والعودة إلى لبنان.
وأكثر من ذلك ثمة من يقول إن لا أمل بإحلال الديموقراطية في العالم العربي إلا بمزيد من الاحتلال وإلغاء السيادة الوطنية وفرض التغيير بالقوة ومن الخارج.
أن يكون الاحتلال هو المدخل الوحيد إلى التحرر والحرية والتقدم والازدهار فهذا ما لم يشاهده العالم منذ قرنين على الأقل. إلا أن هذه النظرية تكاد تصبح المعتمدة رسميا في ما يخص علاقة الولايات المتحدة وحلفائها بمنطقتنا العربية.
ففي فلسطين، مثلا، كان إجلاء السكان العرب من أراضي 48 شرطا لبناء الديموقراطية الإسرائيلية التي يهددها، اليوم، التكاثر الديموغرافي لمن بقي من أهل البلاد. وكذلك فإن عودة جيش الاحتلال إلى مناطق السلطة الوطنية يجري تصويرها وكأنها المهماز الذي حفز على «التطلب الديموقراطي». هذا، على الأقل، ما تقوله إسرائيل وتؤيدها فيه الولايات المتحدة. وهكذا يجب أن نفهم الدعوة البريطانية إلى مؤتمر الإصلاح الفلسطيني. إنها طريقة في القول إن الاحتلال نعمة وليس نقمة لأنه يطرح الديموقراطية على جدول الأعمال. وهكذا يصبح إصلاح المحتل لأوضاعه، أي مقاومته لأخطائه، طريقه إلى التحرر وبديلا عن مقاومة العدوان. ولا يخفي غلاة إسرائيليون طموحهم إلى ربط الانسحاب بحرب أهلية فلسطينية ينتصر فيها الجناح الأقدر على تأمين الشفافية في عمل المؤسسات المالية!
ويقال عن العراق ان لا أمل يرجى من هذا البلد إلا إذا جرت العودة إلى نقطة الصفر، أي إلى زمن الاستعمار المباشر. والمشكلة، في نظر أصحاب هذا الرأي، أن تنتفي أسباب الحرب فيخسر العراق والعرب والمسلمون فرصة تجربة نموذج ديموقراطي يشع على محيطه. إن الموقف المعادي للحرب يتحول إلى موقف معاد لحق الشعب العراقي في تقرير مصيره عن طريق الغزو الأميركي. ولا يمكن، والحالة هذه، إلا أن يكون معاديا للعراقيين ولجيرانهم وأبناء قومهم كل من يدعو إلى التريث قبل «فتح أبواب جهنم«. إن عرقلة الاندفاع الأميركي نحو الحرب هي عرقلة لمحاولة واشنطن التعبير عن رغبتها في رؤية العرب أحسن حالا، واستعدادها للتضحية في سبيل ذلك. تحاول واشنطن بناء إجماع دولي حول منطقها هذا. ولذلك فإن الكلام الفلسطيني عن أن الانسحاب شرط للانتخاب يبدو كلاما من زمن غابر، من زمن كان فيه الاستقلال مقدمة لممارسة السيادة، ونزع الاستعمار هو المدخل الضروري إلى الديموقراطية.
لقد أثبتت تجاربنا العربية أن التحرر الوطني شرط ضروري، ولو غير كاف، للبناء الذاتي. والنظرية التي يراد لها أن تسود، اليوم، تقول، بتواضع، إن الاحتلال شرط ضروري، ولو غير كاف، لبناء الديموقراطية. وهو غير كاف لأن المواد الأولية لهذا البناء (أي نحن)، غير جاهزة كفاية، وقد لا تكفيها حفنة الدولارات التي قررها لها كولن باول. ومع ذلك، فإن إسرائيل ستحاول وسعها مع الفلسطينيين، وستفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه مع العراقيين.
ولكن، بانتظار أن نرى مصير الحالة العراقية، فإن الوضع الفلسطيني يحمل أمارات سيئة: فباحتلال أو بدونه قد يعيد الفلسطينيون تجديد الثقة بقيادتهم في انتخابات حرة. وإذا فعلوا ذلك يكونون أنكروا فضل الاحتلال عليهم. فهو، إذ جعل الديموقراطية هبة من هباته، حق له أن يتوقع نتيجة تأتي بقيادة ممالئة ومطواعة. فالديموقراطية، في نظر الاحتلال، لفلسطين أو للعراق، ليست غاية في حد ذاتها. إن الطاعة هي الغاية.
نستطيع، من موقع عربي، أن نميز بين علاقة القيادة الفلسطينية بشعبها وعلاقة القيادة العراقية بشعبها. ولكن هذا التمييز ليس واردا، كما يبدو، عند الإسرائيليين والأميركيين. إن القيادتين، في نظر تل أبيب وواشنطن، هما «الاحتلال الأجنبي» الذي يفترض دعم حركة التحرر منه. إن وجدت لا بأس، والأوجب اختراعها. ولندن، بهذا المعنى، تكاد تتحول إلى مصنع لفبركة المعارضات والإصلاحات.
السفير 27/12/2002
إضافة تعليق جديد