حتمية نهضة الأمم بعد الحروب

22-05-2021

حتمية نهضة الأمم بعد الحروب

 

1 

 

كما ينبعثُ "طائر الفينيق" من رماده، كذلك تنهضُ الأمم من رمادها، وتتجدد بعدما تخمد نيرانٌ الحروب، ويكون نهوضُها بحجم وعيها لأسباب الحرب وموعظة الدَّم الذي دفعته ثمناً للتَّجدُّد، ذلك أن التقدمَ العلميَّ يتواكب تاريخياً مع تطوير الصناعات الحربية وعمليات القتل المنظم التي يدير السِّياسيُّون معاركَها باسم الوطن... فكيف هو وعي المجتمعات العربية لحروبها الأخيرة، وهل ستكون باعثاً لنهضة اجتماعية واقتصادية، أم أنها ستراوح مكانَها معيدةً دورة الدَّمِ بعد بضعة عقود؟

القاعدةُ أنَّ آخرَ سنواتِ الحروبِ أسوأُ من بداياتها، وأن السنواتِ الأولى التي تلي الحروبَ هي أسوأُ من سنوات الحروب، وهذا ما نلاحظه اليوم في العراق ومصر وليبيا والسودان واليمن وسورية... وبالعودة إلى نهايات الحرب العالمية في أوروبا وآسيا وأفريقيا، يمكنُنا أن نستدلَّ على مدى وعي الشعوب من خلال نهضتها ، مع اختلاف تجارب الأمم، حيث إنَّ تجربة أمة قد لا تكون مناسبة لنهضة أخرى، ولكنها جميعاً تجاربُ يُعتَدُّ بها وتجب دراستُها من قبل كل أمة خارجة حديثاً من حربها...

 

2 

 

أنهت المجتمعاتُ الأوروبيةُ حروبَها الدينيةَ بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن التاسع عشر، حيث غيَّرت الحروبُ الدينية خلال ثلاثة قرون خارطةَ الدول الأوروبية وتفكيرَها، مستبدلةً العصبيات الدينية بالقومية، ثم اختتمت حروبها القومية بعد الحرب العالمية الثانية، واهتدت إلى دولة المواطنة التي ساوت بين جميع السكان على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم في الحقوق والواجبات، لهذا جاءت بداياتها صحيحة، حيث أعلت من قيمة الفرد في مقابل السلطة بغض النظر عن الدين والقومية، واعتبرت أنَّ السلطة تكتسب قيمتها من قدرتها على خدمة الفرد وحمايته ورعايته بكونه أهم ثروة وطنية، بينما بقيت السلطات الشيوعية مهيمنة في أوروبا الشرقية التي أصبحت محميات تابعة للكتلة الاشتراكية ضمن تفاهمات الدول المنتصرة، حيث خضعت لاستبداد الحزب الواحد، وبقيت كذلك حتى تفكك الاتحاد السوفياتي واستعادت هذه الدول سيادتها، غير أن ما تقدم أثَّر سلباً على نهضتها...

فبعد انتصار الحلفاء عسكرياً، نشب الخلاف بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، واستمرت الحرب باردة على الصعيد الاستخباري والسياسي والاقتصادي والعلمي، بينما تواكبت وتلاقحت العلوم الإنسانية في الثقافة والفنون، إذ أن النهضة الروحية أول شيء تحتاجه المجتمعاتُ المهشَّمةُ نفسياً، فازدهرت السينما والموسيقى والأزياء والرواية والمسرح والفلسفات الحديثة التي واكبت نهضة الشعوب، وساد التفكيرُ الوجوديُّ الماديُّ، مع تراجعٍ للحضور الديني الغيبي، خصوصاً في المجتمعات الاشتراكية التي فَصَلَتْ قَدَرَ الإنسان عن السماء وركَّزته بوجوده الأرضي، فكان عقد الستينات هو الأزهى على الصعيد الإنساني خصوصاً بالنسبة للمرأة والأقليات والعمال والفلاحين...

وقد تأثرت الثقافة والسياسة العربية بالثقافة والفنون والفلسفات الغربية الحديثة، وتوضحت معالم الصراع بين المجددين والمحافظين، وانتعشت آمال الناس بمستقبل عربي مشرق، غير أن قيام "دولة إسرائيل" اليهودية سنة 1948، رَهَنَ الثقافةَ والسياسةَ العربية بالثورة الفلسطينية، وقد استثمرت جميعُ القوى السياسية العربية والإسلامية والدولية في القضية الفلسطينية التي لم ولن يكون لها أيُّ حلٍّ سياسي عادلٍ لأنها دولة تم تصنيعها بالعقلية الاستعمارية التي سادت خلال الحرب العالمية الثانية، حيث فَبْرَكَتْ الحركةُ الصهيونية تاريخاً مزيفاً لليهود مبنياً على فكرة الشعب اليهودي، فجمعت يهوداً من أعراق مختلفة لا توجد ثقافةٌ مشتركةٌ بينها وإنما كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة تم تجميعها بناء على أساطيرَ توراتيةٍ لم يتمكن علماءُ الآثار من تأكيدها خلال مائة عامٍ من الحفريات في فلسطين... وقد عانت الشعوب العربية وحكوماتُها من تحدي الخطر الصهيوني، الذي فاقم حالة العسكرة على حساب الحياة المدنية، ومن خطر الجماعات السلفية الإسلامية التي رفضت ثقافة الحداثة وحاربتها... وكانت دول الجوار المعادية لإسرائيل الأكثر تضرراً، حيث رهنت اقتصادها للصراع الأزلي مع العدو الإسرائيلي، قبل أن يستسلم الجميع لها ويطلبون وِدَّها في معاهدات استسلام هدرت كل المقدرات التي قدمت من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية، باستثناء الدولة السورية التي ما زالت في حالة نزاع مع "إسرائيل"، هذا النزاع الذي اضطرها في النهاية، بعد تلاشي النزعة القومية، إلى التحالف مع بعض التيارات الإسلامية المعادية لإسرائيل، مما أثر سلباً على توجهاتها العلمانية، وسيبقى هذا الصراع مستمراً بوجود النفط والغاز العربي حتى تتفكك الولايات المتحدة الحامية "لإسرائيل"، أو تتوحد البلدان العربية في ولايات كونفدرالية.

 

3 

 

المنافسة والعلم والملكية والطب والاستهلاك وأخلاقيات العمل، هي ما شكَّلَ مقومات نهضة المجتمعات الرأسمالية بعد الحرب، إضافة إلى التمكين الاقتصادي للمرأة الذي ساهم في نمو إجمالي الناتج المحلي، إذ لم يكن مستوى المعيشة في الكثير من مناطق أوروبا والولايات المتحدة قبل القرن العشرين أفضلَ منه في باقي أنحاء العالم، قياساً إلى مدى توفر المياه والغذاء والتعليم والصحة.

 بعد الحرب العالمية الثانية نشأ أمام البرجوازية الغربية خطرٌ جديد كان لا بد من مواجهته، وهو خطر الشيوعية الذي بات يهدد أوروبا، فقد استيقظت الطبقات الكادحة على حقوقها، واستعاد شيوعيو أوروبا كارل ماركس بثوب سوفياتي، ووجدت البرجوازية نفسها أمام خطر استقطاب مجتمعاتها المنهكة والتحكم بسياساتها الرأسمالية، ومن هنا كان التحرك الأمريكي لأخذ زمام المبادرة عبر مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا اقتصادياً وتحصينها من المد الشيوعي. إضافة إلى أن الاقتصاد الأمريكي كان بحاجة لهذا المشروع لمعالجة ركوده وإنعاشه.

 فبعد عقودٍ على موتهما، قام "كارل ماركس" و"آدم سميث" من مرقدهما ليتصارعا عبر شعبين، الروسي والأمريكي، فقد ساهمت أفكارُ هذين الفيلسوفين في أن يحتل الشعبان الروسي والأمريكي الصدارة بعدما كانا في المرتبة الثانية بين الأمم، حيث انشغل الأمريكيون بالتقدم العلمي والإقتصادي وتفريخ الأثرياء، بينما انشغل الرُّوسُ في صراع مع الظلم الطبقي من أجل عدالة الفقراء. وقد ساهم تنافس كلا الشعبين في تقدم العالم، وكان ذلك أحد إنجازات فلسفة الاقتصاد التي لم يتقنها العربُ المشغولون بخلافات "سقيفة بني ساعدة"، وخيانة "بني قريظة" للنبي، والمصارف الإسلامية التي تحتال على الرِّبا، حيث خلطوا بين تعاليم ماركس وسميث في إدارة بيت مال المسلمين فحصلوا على اقتصاد هجين ؟!

 

4


قيام الثورة العمالية في روسيا عام 1917 كان دليلا على ازدهار حركة الصناعة التي أنتجت هذا العدد الكبير من العاملين فيها، ذلك أن نهضة الروس ترجع إلى بداية القرن الثامن عشر على يد امبراطورها بطرس الأول الذي بدأ سياسته الإصلاحية (لتمدين مجتمعه المتوحش حسب تعبيره) بتحديث الجيش على النمط الأوروبي، كما أنشأ أسطولاً ليكمل قوته الضاربة، وضم رجالاً من كل الطبقات في الجيش، وصارت الترقية وفقاً للكفاءة. وساعده ذلك في حروبه التوسعية حيث مدَّ حدود روسيا إلى بحر البطليق والبحر الأسود. وكان بطرس قد قام برحلة عبر دول أوربا اطلع خلالها على الحضارة الأوربية واستقدم لبلاده خلال هذه الرحلة مجموعة من خيرة خبراء أوربا للأخذ بيد روسيا إلى ركاب الحضارة الأوربية ووفر لهم كل الإمكانات. ولم تكن الأرض في روسيا ممهدة تماماً  لتقبل الإصلاحات الجديدة، فقد عارضتها الكنيسةُ إضافة إلى تمسك الشعب الروسي بعاداته وتقاليد أجداده وغيرته من الأجانب. لكن بطرس أرغم شعبه على التقاليد الأوربية، ففتح المؤسسات لتعليم الشعب هذه العادات، ومنع إطلاق النبلاء لحاهم بخلاف توجيهات الكنيسة، ومنع لبس الرداء للعامل والفلاح حتى لا يعوقه عن العمل. كما أولى المرأة اهتماماً خاصاً باعتبارها المسؤولة عن غرس العادات والتقاليد في الأبناء، فحرر المرأة من التقاليد الشرقية التي تقضي بعزلتها عن اجتماعات الرجال، وجعل تعليم الأطفال إجبارياً لأبناء النبلاء، وأجبرهم علي إكمال تعليم أبنائهم في الخارج. وأمر بوضع أبجدية مبسطة للحروف الروسية، وأنشأ أكاديمية روسية للعلوم على النمط الأوروبي. وفي المجال السياسي ألغى مجلس العظماء والأعيان واستبدله بمجلس الشيوخ. وفيما يتعلق بإصلاح الكنيسة، فقد ترك منصب البطريرك الروسي شاغراً لما له من نفوذ يوازي نفوذ القصر، وأنشأ مكانه مجلساً مقدساً يتولى شؤون الكنيسة تحت إشراف البلاط، وأبعد هذا المجلس عن السياسة، ووضع أوقاف الكنيسة تحت الإشراف الإداري للدولة، وامتد التسامحُ ليشمل جميع الطوائف غير الأرثوذكسية، فيما عدا اليهود. وبنى مدينة سان بطرسبرج لتكون حلقة اتصال مع الغرب. ولكن بعد وفاة بطرس الأكبر لم يكمل ابنه حركة التحديث واستمرت روسيا بالتراجع حتى سقوط آخر حاكم من سلالة رومانوف على يد البلاشفة.

بعد وصول البلاشفة إلى السلطة عام 1917، بذلت السلطات السوفيتية الجديدة كل ما بوسعها للخروج بالبلاد من حالة الخراب التي عمّتها فوسعوا حركة التحديث التي بدأها بطرس لتشمل كل الشعب بعدما كانت مقتصرة على طبقة النبلاء، لكن الفقر تفاقم حيث تقلصت الأجور وارتفعت الأسعار. وقد اعترف الزعيم السوفيتي "نيكيتا خروشوف" بذلك حيث وصف تلك المرحلة بالقول: "لقد أطحنا بالقيصرية، والبرجوازية، وفزنا بالحرية، لكن الناس يعيشون أسوأ من ذي قبل". واستمر هذا الوضع حتى منتصف الثلاثينات حيث وصلت البلاد إلى مستوى عال من التنمية الصناعية، وتوفير السلع الأساسية للمواطنين. وأصبح الاتحاد السوفياتي الدولة الأولى في العالم من حيث التغلب على مشكلة البطالة.

في زمن الزعيم "جوزيف ستالين" تمكن الاتحاد من رفع مستوى الإنتاج الوطني، واحتل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية المرتبة الثانية بين الدول في العالم من حيث الناتج الصناعي الإجمالي، بعد الولايات المتحدة، متقدماً بفارق كبير عن الدول الأوروبية الكبرى. وبعد نهاية الحرب تمكن شعب السوفييت من التغلب على الدَّمار في وقت قصير، فمنذ عام 1946  ارتفعت أجور العمال والمهندسين العاملين في المؤسسات ومواقع البناء في الأورال وسيبيريا والشرق الأقصى بنسبة 20٪. وازدادت رواتب المواطنين ذوي التعليم الثانوي والعالي بالمقدار نفسه، بما في ذلك الأطباء والمعلمين والعاملين في مجال البحوث العلمية. وبلغ مستوى معيشة مواطني الاتحاد السوفياتي بحلول عام 1953 حداً موازياً، وأحياناً متفوقاً على مستوى نظرائهم الغربيين. وكان أكثر السكان حظاً في هذا المجال هم موظفو مؤسسات الصناعات الدفاعية، ومكاتب التصميم والهندسة، والمؤسسات العلمية، وأساتذة الجامعات، والأطباء، والفنانون، والمتطوعون في الجيش، وفقا لدراسات المكتب المركزي للإحصاء، ومنظمات المجتمع المدني...

تميز عهد الزعيم "خروشوف" بالطفرة العمرانية التي أحدثها، إذ انتقل بين عامي 1956 و 1960 أكثر من 50 مليون مواطن، أي ما يقارب ربع سكان الاتحاد السوفياتي للعيش في شقق صغيرة، وبعد وصول "ليونيد بريجينيف" إلى سدّة السلطة استقرت حياة المواطنين السوفيات، وغدا الاتحاد السوفييتي من بين البلدان الخمسة الأكثر تقدماً من حيث مؤشراتُهُ الاقتصاديةُ، حيث أتيحت الفرصة لتطوير المزارع الشخصية والفرعية وشاع ما يعرف بـ "الاقتصاد الشخصي" الذي كان شعار المرحلة. وقد اشترت الدولة الفائض من المنتجات الزراعية من خلال نظام التعاون الاستهلاكي بين السكان، كما تم بناء حوالي 1.6 مليار متر مربع من الشقق السكنية الفسيحة والمجهزة تجهيزا جيداً، انتقل إليها 162 مليون شخص من شققهم الضيقة التي بناها سلفه "خروشوف". وفي عام 1985 احتل الاتحاد السوفياتي المركز الأول في أوروبا والثاني في العالم (بعد الولايات المتحدة الأمريكية) من حيث الإنتاج الصناعي والزراعي، وكان متوسط الراتب لعام 1985 في جمهورية روسيا السوفياتية يعادل 199 روبلاً، فيما النفقات الشهرية العادية من دفع السكن والغذاء والنقل والخدمات الضرورية الأخرى لا تتجاوز 50٪ من الدخل.

لكن "بيروسترويكا" "ميخائيل غورباتشوف" هوت بالاقتصاد السوفياتي نحو الحضيض، حيث بدأ الخمول في الجهاز الإداري المتضخم، وبدأت نوعية حياة المواطنين بالانخفاض، وبحلول عام 1990 أصبح من الواضح، أن التحولات السياسية تجاوزت الأساليب الاشتراكية في إدارة الاقتصاد الوطني واعتبرت أنه عفا عليها الزمن: فالبلاد باتت على وشك إصلاحات "اقتصاد السوق الاجتماعي"، الذي تكررت حكايته الفاشلة في سورية بعد عقد من الزمان.

بعد مجيء "فلاديمير بوتين" عام 2000 والذي يلقبه معجبوه بالقيصر، تيمناً ببطرس الأكبر، كانت أول مهمة أعلن عنها "بوتين" هي توحيدُ المجتمع الروسي حيث قال: «العمل الإبداعي المثمر يحتاجنا بشدة ومن المستحيل إنجازه في ظل انقسامات داخلية وتشتت المجتمع.» كما أشار بوتين إلى حاجة الدولة لتحسين الكفاءة الاقتصادية بالإضافة إلى ضرورة تنفيذ خطط تنهض بالسياسات الاجتماعية وتهدف إلى محاربة الفقر مع الحاجة إلى توفير نمو مستقر للناس. ولم ينس "بوتين" قضية دعم الحكومة للعلوم والتعليم والثقافة والرعاية الصحية، ويبدو أن روسيا بدأت تستعيد دورها الأممي، ولكنها ما زالت متراجعة بالمقارنة مع دولة الصين الشعبية.

 

5 

 

لم تكن الصين دولة متخلفة كما يظن الجاهلون بتاريخها، ولم تأت نهضتُها من العدم، ففي كتابه «الأصول الشرقية للنهضة الغربية»، أظهر عالم الاقتصاد البريطاني جون هوبسون مدى تفوق الصين الاقتصادي والتكنولوجي على الحضارة الغربية بين القرنين الثاني عشر والتاسع عشر، قبل غزوها وتراجعها. وبين كيف أن قوة الصين التكنولوجية آنذاك، مهدت الطريق لبروز الغرب، وساهمت في نهضته، وإنَّ الغرب لم يكن ليتمكن من الانتقال إلى الاقتصادات الرأسمالية والإمبريالية الحديثة، إلا بعد استعارة واستيعاب الابتكارات الصينية. فقد كانت الصين أكبر منتج للصلب في العالم في بداية عام 1078. كما تصدرت الصين ريادة العالم في الابتكارات التقنية في صناعة المنسوجات قبل سبعة قرون من ثورة المنسوجات في بريطانيا في القرن الثامن عشر. وكانت الصين دولة تجارية رائدة وصلت تجارتها إلى جنوب آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، وتفوقت الثورة الزراعية والإنتاجية في الصين على أقرانها في الغرب حتى القرن الثامن عشر. فضلًا عن ذلك، أسهمت ابتكاراتها في إنتاج الورق، وطباعة الكتب، والأسلحة النارية، في أن تغدو قوة صناعية عظمى، تُنقل سلعها إلى جميع أنحاء العالم بواسطة نظام الملاحة المتقدم وامتلاكها أكبر السفن التجارية في العالم حينها. وفي أواخر عام 1750، وفي ظل جودة الخدمات المصرفية واستقرار اقتصاد النقود الورقية والعائد المرتفع من الزراعة والصناعة، ماثل دخلُ الفرد في الصين دخلَ الفرد في بريطانيا العظمى. ثم تراجع كل ذلك بسبب أطماع الدول الأوربية وفي مقدمتها بريطانيا وحروبها التي استمرت منذ القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين حيث اندحرت مع مجيء الثورة الشيوعية بقيادة "ماو تسي تونغ".

قضى الشعب الصيني النصف الأول من القرن العشرين في حروب داخلية وخارجية، وقد تأثر  "ماو تسي تونغ"، ابنُ الفلاح، الذي بدأ حياته مدرساً بكتب لينين وماركس وتجربة السوفييت أولاً، ثم في 1912 انخرط بدراسة الفلسفات الغربية، ليبدأ في 1915  بكتابة المقالات في مجلة "الشباب المعاصر" تحت اسم مستعار. وفي 1921 انعقد أولُ مؤتمر عام للحزب الشيوعي الصيني في شنغهاي وانتُخِبَ "ماو" أميناً عاماً للحزب لإقليم هونان. وفي عام 1926 نشر "ماو" أول مؤلفاته "تحليل للطبقية في المجتمع الصيني". في 1937 تعرضت الصين لغزو ياباني كاسح  فوقع الشيوعيون وخصومُهم من الحزب الوطني على ميثاق تشكيل جبهة مقاومة للاحتلال الياباني. في عام 1938 أصبح "ماو" الزعيمَ غيرَ المنازع للشيوعيين. وفي 1940 انفرط التعاون بين جيش الوطنيين (الكومينتانج) والجيش الشيوعي الأحمر. في 1946 أخفق الشيوعيون والوطنيون في الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية فاندلعت حرب أهلية بين الطرفين أطلق عليها الشيوعيون اسم "حرب التحرير". وفي 1948 انهزم جيش "الكومينتاج" المدعوم من أمريكا أمام الجيش الأحمرالمدعوم من السوفييت في "منشوريا"، وفر زعيمهم "تشيانغ كاي تشيك" الى تايوان ليسيطر الجيش الأحمر على كافة اراضي الصين. في 1949 دخل "ماو تسي تونغ" وباقي اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الى العاصمة "بكين" ليعلنوا رسمياً في الأول من تشرين الأول، تأسيسَ جمهورية الصين الشعبية.

عندما سيطر الحزب الشيوعي على الصين، كان الوضع سيئاً، ولم يكن هناك شركاء تجاريون، ولا علاقات دبلوماسية. كان الاعتماد على الاكتفاء الذاتي. ألغت الحكومة الشيوعية امتيازات المستعمرين الغربيين، وأنهت الإقطاعيات الإقليمية لأمراء الحرب، والعصابات الإقليمية، وطردت الأثرياء من مُلّاك بيوت الدعارة، وتجار النساء والمخدرات. وبدأ صعود الصين إلى صفوف القوى العالمية في عام 1949، بإزالة الطبقات الطفيلية، من العاملين في القطاعات المالية والمضاربين والمتواطئين الذين عملوا كوسطاء للمستعمرين الأوروبيين واليابانيين الذين استنزفوا ثروات الصين العظيمة.

بعد وفاة "ماو" عام 1976 واستلام الزعيم "دنغ شياو بينغ"، بدأت الصين سلسلة إصلاحات أخرجت البلاد من عزلتها الاقتصادية، وتسارع النمو في السنوات التي تلت ذلك، وبلغ متوسطه عام 1980 حوالي 10%. وعلى مدى العقود الثلاثة اللاحقة، فُتحت البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، وخصخصت آلاف الصناعات، وأطلقت عملية تركيز الدخل على أسس استراتيجية. وتبنت الطبقة السياسية الحاكمة في الصين فكرة استعارة المعرفة التقنية، والوصول إلى الأسواق الخارجية من الشركات الأجنبية، مقابل توفير العمالة الرخيصة.

المحرك الرئيسي وراء صعود الصين الاقتصادي شبكتُها الضخمةُ من المصانع، التي أنتجت كل شيء تقريباً للمستهلكين في جميع أنحاء العالم. كذلك، ساعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، في تعزيز مكانتها باعتبارها مُصنِّعاً وأكبر تاجر في العالم، حيث تعد الصين أكبر وجهة للصادرات لـ 33 دولة، وأكبر مصدر للواردات لـ 65 دولة. إضافة إلى هيمنتها على التجارة، كما أصبحت الصين مصدراً رئيساً في تدفقات الاستثمار العالمي. وفي الفترة من عام 2015 إلى عام 2017، كانت ثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر الصادر في العالم. وقد اعتمد صعود الصين الحديثة لتصبح قوة اقتصادية عالمية، على قدرتها الإنتاجية الضخمة، وسياسة عدم التدخل في العلاقات الداخلية لشركائها التجاريين، التي تحكم تعاملاتها التجارية والاستثمارية.

إن التطور الاقتصادي الذي شهدته الصين خلال السنوات الماضية، كان في الواقع نتيجة الإصلاحات. غير أن هذه الإصلاحات أدت إلى ظهور تفاوت اجتماعي، الأمر الذي يشكل مشكلة في مجتمع تشرب الثقافة الاشتراكية خلال نصف قرن، حيث مازال النظام الشيوعي يحكم حياة الصينيين اليومية بينما اقتصادهم يدار بعقلية رأسمالية تنافسية ناجحة. 

 

6

 

بعد الحرب العالمية الثانية اقتصر مفهوم التنمية على النمو الاقتصادي كمِعيار للتقدّم والتنمية، ومنذ العام 1990 تبنى برنامج الأُمم المتّحدة الإنمائي مفهوماً جديدا للتنمية البشريّة، عرّف بموجبه الإنسان "بأنّه صانع التنمية وهدفها، انطلاقاً من أنّ البشر هُم الثروة الحقيقيّة للأُمم، وأنّ قدرات أيَّة أمّة تكمن في ما تمتلكه من طاقات بشريّة مؤهَّلة ومُدرَّبة، وقادرة على التكيُّف والتعامُل مع أيّ جديد". وفي العام 2002، تبنّى البَرنامج مفهوماً للتنمية الإنسانيّة بديلاً عن التنمية البشريّة، حيث تمَّ تعريفها بأنّها "عمليّة توسيع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية"، وتهدف إلى "تنمية الناس، من أجل الناس، من قبل الناس"، وتشمل بناء القدرات الإنسانيّة عن طريق تنمية المَوارِد البشريّة.

ويتحدث تقرير البنك الدولي للعام 2018 عن الآفاق الاقتصاديّة العالَميّة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيقول إن الصراعات التي بدأت في العام 2011، تسببت بخسائر ماليّة واقتصاديّة كبيرة قُدِّرت بأكثر من تريليون دولار، وأثَّرت بشكل مباشر على نحو 87 مليون شخص في أربعة بلدان عربيّة هي: العراق، سوريا، ليبيا، واليمن. وأشار التقرير إلى أنّ نحو 45 مليون شخص في هذه البلدان يحتاجون إلى مُساعدات إنسانيّة (13,5 مليون في سوريا، 8,2 مليون في العراق، 21,1 مليون في اليمن، 2,4 مليون في ليبيا)، إضافة إلى ارتفاع معدّلات الفقر ونسب البطالة، وانعكاس تلك الصراعات بشكل سلبي على استقرار ملايين الأشخاص. وكان الضرر الأكبر على النساء. كما تفككت بنية الأسرة وتضرَّر أفرادها بشكلٍ متفاوت، وغدت الحاجة مُلحّة لتوفير أكثر من ستّة ملايين فرصة عمل، كما أنّ 50 في المئة من الوظائف الموجودة حاليّاً لن تكون متوافرة في المستقبل، في الوقت الذي تنحسر فيه الاستثمارات البَيْنيّة العربيّة و تستمر مشكلة البطالة في التفاقُم نتيجة لتحوّلات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، متأثِّرة بتداعيات الحروب والاضطّرابات الأمنيّة وما نتجَ عنها من نزوحٍ وهجرة، داخل المنطقة العربيّة وخارجها، وشملت ما لا يقلّ عن 20 مليوناً من أربعة بلدان ( العراق، سوريا، ليبيا، اليمن) وقد دعت اللّجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا (الأسكوا) التّابعة للأُمم المتّحدة، إلى إحياء فكرة التكامُل بين الدول العربيّة، على أنّها "السبيل الوحيد لتحقيق نهضة إنسانيّة"، وإنقاذ الوطن العربي، حيث تقول تجارب الأمم بعد الحروب والكوارث أن الإنسان بعد تعرضه للمصاعب المختلفة يستطيع أن يعيد بناء نفسه من خلال قدرته على الإبداع والتطور.

 

7 

 

 تبدو الحرب العالمية القادمة اقتصادية من دون أسلحة عسكرية، ذلك أن الأسلحة تطورت كثيراً بحيث سيكون التدمير متبادلاً بين المتصارعين والكل فيها خاسر، وبات الصراع اليوم بين أمريكا والصين بعدما كان مع الاتحاد السوفياتي، وسيكون لذلك علاقة بالتنافس على المنطقة العربية وحركة إعادة الإعمار، إذ قد تتكرر قصة مشروع مارشال بصياغات دولية جديدة، بحسب مصالح الدول المعمرة، كدول الخليج ومن خلفها أمريكا، وروسيا، والصين، وتركيا، وإيران. وبحسب ورقة عمل أصدرها معهد "كارنيغي" وأعدها مجموعة باحثين مصريين يتوقعون فيها أن الإرث الاقتصادي الذي ساد الدول العربية  قبل الحرب سيكون مؤثراً في تحديد ما إذا كانت إعادة الإعمار ستؤدّي إلى تعافٍ اقتصادي طويل الأمد بدلاً من مجرّد إعادة تأهيل مادية للدول المتضرّرة من الحرب. وأن هذا الإرث الاقتصادي سيشكل فرصة أو عائقًا في إعادة الإعمار من المنظورَين السياسي والاقتصادي، فقد يعزّز أو يعرقل مسار التنمية الشاملة التي يشارك فيها المواطنون في إنتاج وتوزيع القيمة للتأثير على آفاق إعادة الاندماج الوطني وبناء الدولة.

وتبدو آفاق عمليات إعادة الإعمار حاليا غير متفائلة في سورية وليبيا واليمن والعراق، إذ لا تبشّر التفاعلات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية بانتهاء النزاع فيها حتى بعد انتهاء الحرب. لذا، فإن إعادة الإعمار قد لا ترى النور قريباً بسبب نقص الموارد، والأمن المكثّف، والتشرذم السياسي، أو أنها قد تصبح امتدادًا للنزاع لكن بوسائل أخرى تشمل متنافسين محليين وخارجيين... وحتى الآن لا يوجد برنامج اقتصادي محدد لنهوض هذه الدول، وقد تشكل تجربة الروس والصينيين بعد الحرب درسا لهذه الجمهوريات باعتبار أن اقتصادها بني على النظام الاشتراكي قبل أن يدخل في نظام اقتصاد السوق، لهذا اقتصرنا بالحديث عن تاريخ النهضة الروسية والصينية دون غيرهما من الأمم الأوروبية واليابان.

 

نبيل صالح: عربي برس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...