حرب النفوذ في القوقاز: تركيا أيضاً من... الخاسرين
تقع تركيا في قلب الصراع على النفوذ الدائر الآن في القوقاز. فمنذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وأنقرة لاعب أساسي في المنطقة. فقد خلقت التحولات الاستراتيجية التي تمثلت في سقوط الاتحاد السوفياتي فرصة غير مسبوقة أمام الغرب وتركيا، المنافس التقليدي والتاريخي لروسيا في القوقاز، لإعادة تشكيل المنطقة بما يضمن تقليص جغرافيا النفوذ الروسي هناك.
ووجد الغرب وأنقرة ضالتهما في جورجيا وأذربيجان فعملوا عليهما، في ظل عدم القدرة على العمل على أرمينيا بسبب الخلاف التاريخي مع تركيا.
وإذ كان النجاح أسهل في أذربيجان لأسباب دينية وعرقية، فإنه وقع أيضاً في جورجيا في ظل احتضان الغرب وتركيا لها. وفي الواقع كانت هناك مصلحة إستراتيجية تركية قوية في جذب جورجيا إلى جانبها وإبعادها عن روسيا.
فللمرة الأولى منذ قرون تبرز فرصة لتكون روسيا دولة غير جارة لتركيا على الصعيد البري، وتكون جورجيا بالتالي دولة ـ حاجزا بين تركيا وروسيا.
وكسب جورجيا حليفا لتركيا يعزز موقع أنقرة وطموحها لاستكمال الحصار على أرمينيا من جميع الجهات التركية والاذرية والجورجية. ولا يخفى أن انهيار النظام الموالي للغرب في تبليسي سيكون طموحاً أرمنياً كبيراً.
وفي ظل سيطرة الأرمن على ناغورني قره باغ، بل أيضا احتلال أراض في أذربيجان وقطع الطريق البري المباشر بين تركيا وأذربيجان، يمكن إدراك أهمية الممر الجورجي البري لتركيا للوصول إلى أذربيجان.
ولا شك في أن منابع الطاقة المكتشفة والكامنة في أذربيجان وحوض قزوين تمثل أهمية كبيرة للغرب. وهنا يبرز الموقع المحوري الذي يكتسبه خط النفط الذي يمتد من باكو عبر تبليسي إلى ميناء جيهان التركي، والذي اعتبر مشروع العصر بالنسبة لتركيا يعزز مكانتها كبلد موزّع للطاقة في العالم. كذلك هناك الخط الحديدي الذي أقيم من باكو إلى تبليسي فأرضروم في تركيا.
وعلى هذا عززت أنقرة علاقتها مع تبليسي في المجالات المختلفة، ومنها الاقتصادي، حيث تبلغ الاستثمارات التركية في جورجيا حوالى ٦٠٠ مليون دولار، وتحتل المرتبة الرابعة بين الدول الأجنبية. كما يتنامى حجم التبادل التجاري الذي وصل إلى حوالى المليار دولار، وهو مبلغ كبير إذا ما قيس بحجم التبادل التجاري لتركيا مع دول كبيرة في المنطقة والعالم.
غير أن الذي برز منذ اندلاع الصراع، ولم ينعكس كثيراً في وسائل الإعلام هو التعاون العسكري بين تركيا وجورجيا، إذ تدرب تركيا الضباط الجورجيين وتصدر إلى تبليسي معدات عسكرية مختلفة من صواريخ وأنظمة رادار إلى مدرعات وآليات وأسلحة أوتوماتيكية. ومع أن رقم المساعدات العسكرية قد لا يكون كبيراً، ويقارب السبعين مليون دولار سنوياً، لكنه يكتسب أهمية لبلد صغير مثل جورجيا، وهو في النهاية جزء من تعاون شامل بين الغرب وجورجيا في إطار »المثلث التركي ـ الأذربيجاني ـ الجورجي« الذي يقارب مستوى التحالف الاستراتيجي.
وفي الواقع، فإن تركيا معنية أيضاً بالواقع السكاني والاثني والديني في جورجيا والقوقاز، فهناك عدد كبير من المجموعات العرقية من أصل تركي داخل جورجيا، كما من التابعية المسلمة. بل إن منح منطقة أجارستان حكما ذاتيا داخل جورجيا وحماية الحقوق الثقافية لسكانها كان من شروط تركيا ترسيم الحدود مع جورجيا في ١٣ تشرين الأول العام .١٩٢١ أي أن أنقرة هي في موقع الضامن لهذه المنطقة تماما، كما هو الحال بالنسبة للوضع في قبرص.
وكانت السياسة التركية في القوقاز تتأرجح بين خيارات صعبة، فالميل الشعبي التركي هو إلى جانب دعم »إخوتهم« في العرق أو الدين في ابخازيا واجارستان والشيشان وداغستان وغير ذلك، لكن رغبة أنقرة في الحفاظ على وحدة الأراضي الجورجية في مواجهة روسيا كان يتعارض مع التوجهات الشعبية.
وفي الواقع، إن حكومة رجب طيب اردوغان التي انتهجت سياسة خارجية جديدة متوازنة مع كل جيرانها ورثت التحالف مع جورجيا في القوقاز، ولكنها لم تسع إلى طمأنة روسيا بالقدر الذي يزيل الهواجس، واكتفت بتعزيز علاقتها الاقتصادية مع موسكو حيث تعتمد تركيا على روسيا في سبعين في المئة من وارداتها من الغاز، وهو ما تعتقد حكومة اردوغان انه يهدئ من مخاوف روسيا ويقيم توازنا معها.
ولفت النظر خلال الحرب الروسية الجورجية الاتهامات التي وجهتها الصحف الروسية إلى أنقرة، ولا سيما »الازفسيتيا« عن مسؤولية تركيا تسليح الجيش الجورجي، بل إن نائبة رئيس البرلمان الابخازي ايرينا اغيربا الموجودة في زيارة لتركيا اتهمت أنقرة بتشجيع جورجيا على العدوان على اوسيتيا وابخازيا عبر مدّها بالسلاح الذي يدفع من ضرائب الشعب التركي.
قد تغير الحرب الجورجية الخريطة القوقازية من الجذور. وأدرك اردوغان ذلك منذ اللحظة الأولى فتحدث مع الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي وحاول التحدث مع رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين من دون أن ينجح حتى الآن، علماً أنه نفى لاحقاً أن يكون حاول الاتصال ببوتين. وقد اتهم اردوغان روسيا بتنفيذ مشروع شرق أوسطي جديد خاص بها، ورفض تهمة الدعم العسكري لتبليسي، قائلا إن تركيا باعت سلاحا لجورجيا تماما كما أن جزءا مهما من واردات تركيا نفسها من السلاح هو من روسيا. ودعا إلى إقامة حلف، أو اتفاق، في القوقاز شبيه بما هو قائم منذ سنوات في البلقان، على أن تكون روسيا جزءاً منه.
ولا يمكن فصل التطورات العسكرية الداخلية في تركيا عن الوضع في القوقاز. فالأسبوع الماضي دمّر حزب العمال الكردستاني جزءاً من خط أنابيب باكو ـ جيهان الذي يمر في منطقة ارزنجان في تركيا، وتوقف تدفق النفط فيه، وأمس الأول فجّر الحزب عبوة في المنطقة ذاتها أدت إلى مقتل تسعة جنود أتراك.
ولفت المحللون الأتراك إلى المنطقة المستهدفة والتوقيت السياسي لها، في إشارة إلى ارتباطها بانزعاج روسيا من خط باكو ـ جيهان. ولا يعرف المراقبون ما الذي قد يحصل لخط الأنابيب في حال الإطاحة بالنظام الموالي للغرب وتركيا في تبليسي.
ورغم الضربة القوية التي تلقتها تركيا حتى الآن من تحوّل خريطة الصراع في القوقاز وتأثيراتها على المصالح التركية فإن الدعوات في الداخل التركي هي للواقعية في التعامل مع التطورات.
ورأت صحيفة »حرييت« أن مصالح أنقرة تقتضي البقاء على الحياد في الصراع بين واشنطن وموسكو في القوقاز، وإن كان ذلك ليس بالأمر السهل.
وقال فكرت بيلا في »ميللييت« إن على تركيا أن تحافظ على تحالفها الرباعي مع أميركا وجورجيا وأذربيجان من جهة وإظهار حساسية اكبر تجاه الشعوب ذات الأصول القوقازية مثل الأبخاز والاوسيتيين من جهة أخرى. وأضاف أن »حرب النفوذ والسكان« في القوقاز تصعّب عمل تركيا، حيث تتعاظم الصراعات الاثنية بدلا من الالتقاء على مشروع جامع.
واعتبرت صحيفة »زمان« أن خطأ التقدير لدى ساكاشفيلي كان وخيما جدا بالنسبة لجورجيا، وما ظن انه سيربحه بالحرب انقلب عليه وروسيا لن تتراجع حتى تحقيق كل أهدافها.
لا شك في أن التحالف التركي ـ الجورجي ـ الاذري، كما الخطط الأميركية، قد تعرضت لاهتزاز شديد إن لم يكن قد قاربت التصدع العملي. ولا شك أيضا انه ستكون لذلك تداعيات مهمة على خريطة المنطقة وتوازناتها. وستكون كل هذه التحولات أفضل »وجبة دسمة« على طاولة مباحثات الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد مع المسؤولين الأتراك لدى وصوله غدا الخميس إلى اسطنبول، والتي قد تشهد المزيد من تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين أنقرة وطهران، بما يتعارض مع المصالح الأميركية.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد