حين يكحل (المرود) عين المسرح السوري.
الجمل- فادي عزام: يبدو أن المشهد المسرحي السوري التقليدي الذي أبعد المسرح عن جمهوره، وكرس أنماط وأشكال مسرحية غيبت هذا الفن النبيل، وساهمت في تغريبه، قد بدأت بالتخلخل، فمنذ عرض المهاجران قبل أشهر عديدة وثمة حراك مسرحي مختلف، تجارب جديدة وأسماء شابة نضرة مهمومة بالقول والفعل. على كل الأصعدة والأهم على صعيد النص، وهذا ما حدث في دمشق منذ بضعة أيام، بعرض جديد هو ثمرة تعاون الاتحاد الأوربي مع وزارة الثقافة أعطت مساحة للخروج بعرض في منتهى الحساسية والجمالية ( اسمه المرود والمكحلة ) من تأليف المسرحي الشاب عدنان العودة وإخراج الشاب عمر أبو سعدة.
النص والسناريو:
إذا كان تاريخ المسرح السوري وذاكرته تحتوي على لسماء معروفة أهمها سعدالله ونوس وممدوح عدوان محمد الماغوط حسيب كيالي وغيرهم، ظل النص المسرحي العالمي هو سيد الحضور، على الخشبتين الأعتق في شام، مسرح الحمرا ومسرح القباني، غير أن عرض المرود والمكحلة، إذن بولادة كاتب مسرحي شاب ينتمي بامتياز لجيل جديد وهم جديد ورؤية مفتوحة وأسئلة مختلفة في الجوهر والشكل، فنص عدنان العودة يعطي صورة جديدة نتمنها
أن تكون فاتحة مرحلة تعطى فيها الروح السورية الجديدة، فرصة لتعبير عن نفسها وقدراتها ورؤيتها لواقعها ومحيطها بعيدا عن حالات التكريس النمطية التي أعاقت الروح السورية الشديدة الغنى والتنوع والحساسيات، وصنفتها بقوالب جاهزة، سياسيا وثقافيا، فمعظم الكتابات المسرحية كانت مهمومة قوميا، ويعربيا، ونسيت همها السوري الأول، وساهمت الأيدلوجية القومية، من السلطة والمعارضة معا، في تغيب الكثير من خصوصية السوريين وأطيافهم الهامة، أكرد أرمن أشوريين، شركس، صابئة، يزيدين، طوائف يفوق تعدادها العشرين، متصلة ومنفصلة جمعتها هوية سورية واحدة، بعضها مكتوم القيد وبعضها مكتوم التعبير والكثير منها، مجهولة للسوريين أنفسهم.
المقدمة السابقة باتت ضرورية، فخروج كاتب سوري يستطيع ببراعة تخليص نصه من المقولات الجاهزة والانحياز للأنساني، شيء يستحق الانتباه.
إعادة الاعتبار للحكاية.
ملخص الحكاية يبدأ من العقد الثاني في القرن العشرين، بدوي متجول بسيط، يجد طفلا متروكا تحت شجرة أثناء تجواله لكسب رزقه، يحمل البدوي الطفل إلى بيت ويقوم بتربيته لنكتشف على احتمال كبير أن طفل ناج من مذابح الأرمن، يطلق عليه اسم غريغوري، كنوع من حفاظ البدوي على هوية الطفل وعدم إعطائه اسم عربي، ينشأ الطفل ويكتشف لديه موهبة فذة بعلاج العيون بلسانه، فهو يستطيع بلحسة واحدة شفاء العين المرمدة أو الموجوعة، يلتقي غريغوري بفتاة شركسة، وبلحسة واحدة لعينها تقوم بلحس قلبه يقع في حبها، يتقدم غريغوري لخطف الشركسية، وينجب منها ولد وبنت، ينشأن معا،ولكن حدثا غير متوقع يحصل، إذا يقوم ضابط فرنسي باستدعاء الطبيب غريغور لعلاج عين كلبته المصابة ، يرفض غريغورطلب الضابط ليحل عليه غضب ( فرنسي استعماري ) ويقوم الجنود بسمل عينيه بالسكر والملح والرماد والتراب حتى يفقد البصر، يروي غريغورالحادثة في مشهد أوديبي مؤثر. يتكفل الولدين قام بدورهما شامل ( سلطان العودة ) وناندا محمد. برعاية الأب الضرير، ،ولكن شامل الشقيق اللاهي، لا يتونى عن أغواء النساء، بكلامه المعسول وشخصيته الجذابة، ويعمل على عبَّارة سفينة صغيرة تنقل الناس بين ضفتي الفرات، يلتقي،بسيدة مريضة مع زوجها، من كبار شيوخ الدرويش الصوفيين ممن يعملون حفلات لضرب السيف، ليلا يتسلل شامل والزوجة المريضة التي تشفى فجأة من داء الصمت، ويفتح حبها لهذا البدوي الجميل روحها وتحاول إغوائه، فيتذكر عهده الذي قطعه لأخته التي سبب لها سلوك الشقيق الدنجواني العنس ولم يعد أحد يرغب بالتقدم لخطبتها، ينجح شامل في الحفاظ على عهده ولكن الزوج يكتشف ما قامت به زوجته فيطعنها بالسيف، ويطلب ثأره من شامل الذي يجلي مع أخته من الجزيرة السورية إلى بادية حمص، يلتقي شامل بوردة (لويز عبد الكريم ) الزوجة الوحيدة تعمل في دكان وتربي أبنتها ناديا وتنتظر زوجها كل ثلاث أو أربع أشهر للعودة من العملمع رحلات التنقيب الأوربية، وبعد تردد كبير، يحتل الحب مساحة الهجر والفقدان، ويلتقيان في مشهد عناق صاخب تسمع به لهاثهما المحموم،في مشهد جريء جعل بعض الحضور في اليوم الثاني للعرض يغادر المسرح احتجاجا
يقرر العاشقان الهرب، تحاول الأخت ثني الأخ عن ذالك، ولكن شامل مع وردة يغادران بعد أن جاء الزوج (فقرو ) فجأة من العمل دون ابنتها ناديا، وهنا تقوم الأخت ( ناندا محمد )بلقاء الزوج المخدوع عارضة عليه حقن دم أخيها، والزواج منها، لتربية ابنته الصغيرة، (فقرو ) جمال سلوم ، المصاب بجرح في نرجسيته يتحول إلى رجل مهوس بالشك، يراقب زوجته الجديدة، يكمن لعشاقها المفترضين في مشهد تحول وتصعيد، غاية الشاعرية، ويصل به الأمر إن يرتدي ملابس زوجته الجديدة كامنا لعشاقها الافتراضين، وعندما تفشل كل محاولاته في إثبات خيانتها يقتل نفسه بمشهد أبدع المخرج (عمر أبو سعدة ) في صياغته. ناديا التي ربتها زوجة أبيها، تترك القرية وهي شابة، تصل إلى دمشق تبحث عن أمها، لتصل إليها يوم وافتها، وتلتقي بأخيها، ويجلسان معا ليقصوا الحكاية السابقة على الجمهور.
تقنيات الإخراج
الملاحظة الأولى على العرض أن الإخراج حمل الممثلين على منصات متحركة كل مشهد كان يحمل منصتين، منفصلتين وتم تقطيع الحكايات بمونتاج مميز، فالعرض يبدأ من النهاية من لحظة دخول الأخت لزيارة الأخ، مطالبته إياها بسرد الحكاية، المشكلة التي أعاقت العرض قليلا أن الحل الإخراجي على جماليات وحجم التعب والشغل المعمول به، قيد حركات الممثلين على منصات ثابتة، كان يمكن الاستغناء عنها بالإضاءة، مما يعطي حيوية أكثر للسرد، وخاصة أن المنصات المتحركة لم تكن مرنة بالدخول والخروج، ومعظم الوقت يمكن رؤية العاملين على جرها بالخلفية، مما يدعم هذا الرأي أن المشهدين الذين نفذا بلا منصات، كمشهد انتحار( فقرو ) الزوج المخدوع في فضاء حر تماما وبإتقان مبهر، ومشهد الخطف عندما يقوم غريغور بلقاء الشركسية جالبا معه حمار أبيض، لعدم تمكنه من اكتراء حصان أبيض، باعتقادي أن الإخراج على أهميته لم ينطلق من ضروريات النص إنما لوى النص باتجاه أخراج جاهز ومعد مسبق بالكثير من تفاصيله على أحسن تقدير، فيمكن للحالة الإخراجية التي عمل عليها عمر أبو سعدة أن تكون باتجاه أي نص أخر وهذا أعاق حركة الممثلين الذين حشروا على منصات متحركة ذهابا وإيابا، والحجة بعدم توفر إمكانيات لتحريك المنصات كهربائيا أعتقد أنها ما كانت لتضيف الكثير، بالمجمل أستطاع الإخراج أن يحقق مشهدية بصرية ممتعة، وساهم سينوغرافيا: (لبيسان الشريف )، بتقطيع الزمن بشكل مقبول ولكن هناك أحساس عام بأن الزمن الذي شاهدناه أطول من الزمن الافتراضي للحكاية، الممتد من بدايات مذابح الأرمن وينتهي في أواخر التسعينيات به فجوة لم يتم العمل عليها ربما يكون المشكلة في النص وغالبا هي في أظهار النص.
ولكن شيء جدير جدا بالتنويه هو موسيقى العرض من تأليف المبدع محمد عثمان، استطاعت بكل بساطة أن تؤدي دورا دراميا خاصا، مستمدة من بيئة الشخصيات وعوالمها وتعرف بعمق الخصوصية السورية، وتتحول من حامل مؤثر كما هي العادة إلى بعد أخر يضفي على العرض مساحة في الجوهر أكثر مما تؤثر على المزاج وتقسر المشاهد على البكاء أو الضحك، موسيقى العرض واحدة من أبطال العرض دون منازع في المرود والمكحلة.
الممثلين:
أعتقد من جماليات الإخراج في هذا العرض هو كسر حالة التصقت بالمسرح السوري تحت اسم التجريب والتغريب، والمبالغة في الأداء، والاعتماد على التلوين الصوت وفائض الحركة، الممثلين كانوا طبيعيين، يتناسب أدائهم مع حكائية في العرض، وإن قيدت حركتهم على المنصات، ولفت الانتباه سلطان العودة، بحضور خاص يؤذن بممثل واعد، فهو يدرس التمثيل في جامعة وهران بالجزائر، بعد أن رُفض مرتين من الدخول إلى معهد الفنون المسرحية بدمشق، فحضور سلطان العودة يعطي أملا لكل الشباب الذين رفضوا من لجان المعهد المتعاقبة، أن هناك دائما فرص للمواهب بشكل غير رسمي وليس المعهد الذي يحدد من يمكن أن يكون ممثلا، بل شغف من يريد أن يصبح ممثلا.
كما أن بعض المشاهد التي نفذت تعتبر ذات سقف عالي على صعيد الجسد، وسببت بخروج بعض المشاهدين احتجاجا، متهمين العرض بالإباحية وعدم مراعاة لحساسية بعض المشاهدين وهنا يجدر التنويه أن البرشور كان خال من التحذير أن العرض هو لمن هم فوق 18 عاما.
الممثلون في العرض هم أدهم مرشد، جمال سلوم، سلطان العودة ، لويز عبد الكريم، محمد زرزور ، ناندا محمد، نسرين فندي، هدى الخطيب.
أراء معارضة
من خلال استطلاع عام للعرض، وجدت أن هناك أراء متفاوتة وقراءات عديدة للنص، ووجدت أن الحكاية لم تصل ببساطة، فقراء البعض المسرحية على أنها مجموعة من الحكايات المنفصلة، ربما السبب يعود إلى المنتاج البصري المسرحي، فهو أدخل الحكاية في شكل أكاديمي، والرغبة في جعل النص يمور بالواقعية والتفاصيل شتت الانتباه، وكان يمكن الاستغناء عن بعض المشاهد ببساطة دون أي تأثير يذكر أو أن تخلخل بنية العرض، وخاصة المشهد الأخير ( لشامل ووردة ) وهما تحت المطر فلا ادري لماذا تم تثبيت المشهد بينما الأخت والأخ يصلان إلى نهاية الحكاية ، وكما قلنا الحلول الإخراجية التي تناولت القصة البسيطة ساهمت قليلا في تظليل المتلقي. وزمن العرض فقط 5 أيام حبس العرض بالنخبة السورية المعروفة بقدراتها التنظرية الهائلة، ومعروف عن الوسط الثقافي السوري إنه شديد النقد لبعضه البعض ونادرا ما يؤازر بعضه بعضا، كما أن مدة العرض القصيرة حرمت الناس الأبعد قليلا عن الوسط الثقافي من حضور وهؤلاء كان يمكن أن نسمع منهم انطباعات هامة جدا لو قيض لهم مشاهدة العرض.
الآراء الأخرى الجديرة بالاهتمام أن النص قرء وكأنه بحث عن الهوية، واتهم بأنه نص تلفزيوني، وسطحي وخاص بالشباب، ولكن باعتقادي أن النص فيه تجديد مهم جدا بالنظر إلى المجتمع السوري أن هناك هوايات مختلفة تحفل فيها سورية، كانت تتصل وتنفصل بسهولة، على امتداد الجغرافيا السورية من الشمال، مرورا بالفرات وحمص حتى دمشق، فجغرافيا النص تقول أن الهوية السورية، البسيطة تحفل بكل هذا الغنى، والتلوين وأن الحدود بين الطوائف والقوميات مصطنعة وأن المشاعر والهم الإنساني الذاتي والفردي لا يحفل بالطوائف والإثنيات وأصلا لا يعترف بها ومن هنا قيمة هذا العرض، أما الاتهام بأن النص تلفزيوني لأن كاتبه يكتب للتلفزيون هو من التهم التي أعتاد من يعمل بالمسرح الجاف والتغريبي، على كيلها للتلفزيون ومن يعمل به، وتهمة أن المسرح مسرح شباب مقبولة جدا ولكن مع تغير بسيط بالتسمية أنه مسرح شاب، يضم طاقات جديدة يحفل بوسائل تعبير جديدة، لشباب سوريين حرموا طويلا من التعبير عن أنفسهم واتهامهم بأنهم سطحيون وسذج ولا يرتقون إلى القضايا الكبرى، عرض المرود والمكحلة يحتفل بأم القضايا الكبرى بدون منازع وهي قضية فردية الإنسان، وحلمه وفرحه وانكساراته وشغفه، فعندما يتعافى الفرد يتعافى المجتمع حقيقة بسيطة تروى بجمال بالغ ونص غاية البساطة ولكنه أسر وشفاف وحميم. وأيضا مسرحي بامتياز. فإذا كان النص عرض لمسرح الشباب،كنوع من التهكم على العرض وهنا نسأل إذا كان هذا هو مسرح الشباب ماهو النقيض أو الموجد هل هو مسرح الكهول أو مسرح الرجال، إنه ببساطة مسرح شاب يحفل بالكثير ويحتاج إلى الكثير.
الجمل
إضافة تعليق جديد