د. ثائر دوري: الكوليرا أصدق أنباء من توماس فريدمان
الجمل- د. ثائر دوري: ما إن تكلم جلال الطالباني في أسبوع المدى الثقافي عن رخاء شمال العراق و ازدهاره في عهد الاحتلال الأمريكي للعراق حتى جاءه رد سريع بتفجيرات هائلة التهمت مقار حزبه و حزب شريكه البارزاني .
و هذه المرة ، أيضاً ، لم يكد يجف حبر مقالة توماس فريدمان " العراق ... سر الأكراد!" التي حدثنا بها عن جنة الله على الأرض التي صنعتها أمريكا في كردستان العراق ، إذ قال :
(( تخيلوا للحظة لو ان حصيلة الغزو الأميركي للعراق كانت تأسيس جامعة اميركية في العراق. تخيلوا لو أننا اثرنا فيضا من الاستثمار الجديد في العراق في مجال اقامة فنادق جديدة ومركز مؤتمرات جديد وبنايات مكاتب ومقاهي انترنت ومطارين دوليين جديدين وأسواق تجارية عراقية.
تخيلوا لو أننا مهدنا الطريق لفيض من الصحف، بل وميثاق لمنظمة هيومان رايتس ووتش محلية ومدارس جديدة. تخيلوا لو اننا خلقنا جزيرة وفيها حدائق عامة، حيث يمكن للنساء ان يسرن بدون حجاب وحيث لا يقتل جندي اميركي واحد، وحيث تجري ممارسة الاسلام بطريقته المنفتحة الاكثر تسامحا. كل ذلك يحدث في كردستان التي تضم أربعة ملايين كردي ))
و تابع : ((ان العراق كارثة بطرق كثيرة، غير أن الغزو الأميركي اوجد على الأقل شيئا ما مؤثرا حقا في كردستان. ونحن تمكنا بأحسن طريقة ممكنة من القيام بالخطوة الافتتاحية، ثم قام الأكراد بالبقية. لكن بينما حرر الأكراد منطقتهم من جيش صدام خلال التسعينات مع الحماية الجوية الأميركية، فإن انبثاقهم الحالي ما كان ممكنا تحققه من دون الإطاحة بصدام عدوهم المهلك.
وقال نيجيرفان بارزاني رئيس وزراء اقليم كردستان «كانت عينا صدام دائما على هذه المنطقة. وحالما أطيح به أصبح لدينا أمل نفسي للمستقبل. وأولئك الذين كانوا يمتلكون أموالا محدودة بدأوا بالاستثمار وبدأ العمل الحر الصغير أو شراء سيارة لأنهم رأوا امكانية للتفكير بالمستقبل. تمت إزاحة القلق ونحن نشكر الشعب الأميركي وحكومته لكننا محبين من طرف واحد. نحن نحب أميركا لكن ليس هناك أي استجابة. إنهم لا يريدون اعطاء الانطباع أنهم يساعدوننا».
هذه المرة و قبل أن يجف حبر مقالة توماس فريدمان جاءت الكوليرا لتذيب أكاذيب البروباغندا الإعلامية الأمريكية ، التي صارت سريعة الذوبان و كأنها صنعت من الثلج لتذوب في صحاري العراق ، بدءاً من كذبة أسلحة الدمار الشامل ، إلى كذبة نشر الديمقراطية التي انتهت بنظام تيوقراطي ، إلى كذبة النجاحات التي تبخرها المقاومة بزيادة عدد عملياتها كل مرة يعلن فيها الأمريكي عن نجاحاته ، انتهاء بكذبة رخاء كوردستان التي أذابتها الكوليرا هذه المرة.
الكوليرا تعني في أذهان الناس ، موت و موتى ، و هذا ما التقطته الشاعرة نازلك الملائكة في قصيدتها الشهيرة كوليرا في عام 1947 م ، و التي أرخ النقاد بها بداية الشعر العربي الحديث . فتقول :
((سكَنَ الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كلِّ فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزَّقَـهُ الموت
الموتُ الموتُ الموتْ ))
"الموت الموت الموت " هذا المقطع الثابت يتكرر كلازمة على طول القصيدة ، كان هذا حين حدث وباء الكوليرا في البصرة عام 1947 . أما اليوم في عام 2007 في شمال العراق ، و بعد ستين عاماً من وباء البصرة ، و بعد ستة عشر عاماً من إنشاء المحمية بالرعاية الأمريكية ، و بعد أربع سنوات و نيف من عصر التحرير الأمريكي ، أيضاً ، و بعد مئات المقالات ، و آلاف الكلمات ، و أنهار المداد التي سالت في وصف رخاء كوردستان ، وبعد شهر من مقالة توماس فريدمان انتشر وباء الكوليرا . حيث تقول منتظمة الصحة العالمية أن أكثر من 16 ألف إنسان قد أصيبوا بهذا الوباء في كل من السليمانية و أربيل ، " وحذرت المنظمة من ان الوباء قد ينتشر أكثر إذا لم يحصل المواطنون على مياه وأطعمة نظيفة وأحوال صحية افضل. وينتقل المرض بصفة أساسية عن طريق المياه.وقال مسؤولو الصحة في السليمانية، حيث بلغت حالات الاصابة الآن 6000 منذ اسبوعين، إنهم أرجعوا تفشي المرض الى محطة لمعالجة المياه. وقدم فريق من منظمة الصحة العالمية برئاسة الدكتورة نعيمة الجاسر، ممثلة المنظمة في العراق، المشورة الفنية، بالإضافة الى صناديق تحتوي على مضادات حيوية وإمدادات اخرى لمكافحة المرض" ( وكالات أنباء ) .
و لمن لا يعرف نقول إن وباء الكوليرا تسببه جراثيم تسمى الهيضة ، و هي تنتقل عن طريق الطعام و الشراب ، و ينتشر هذا الوباء في البيئات الفقيرة المهملة ، حيث تنعدم مياه الشرب النظيفة و تختلط مياه الصرف الصحي مع مياه شبكات الشرب ،إما بسبب قدمها أو بسبب عدم وجود صرف صحي نظامي ، و من المتعارف عليه أن هذين المرفقين هما أساس البنية التحتية لأي بلد في العالم ، سواء كان سويسرا أم الكونغو الديمقراطية ، فأول إجراء تقوم به الحكومات عندما تبدأ بإنشاء البنية التحتية لبلدانها هو تأمين مياه الشرب النظيفة للتجمعات السكانية ، و تمديد أقنية صرف صحي . كما أن التصدي لوباء الكوليرا يلزمه شيئان أساسيان هما : المياه النظيفة للشرب ، و الطعام غير الملوث . لكن يبدو أن هذين الأمرين قد عزا في جنة الله على الأرض التي يديرها كلاً من السيدين الطالباني و البرزاني ، و يطرحانها نموذجاً ناجحاً يجب أن يحتذي في كل أرجاء العراق ، لكن الخوف اليوم أن يمتد هذا النموذج إلى بقية العراق فينتشر وباء الكوليرا في بغداد حسب ما حذرت منظمة الصحة العالمية .
إذا لم يتوفر الأمران السابقان ، المياه الصالحة للشرب و الطعام غير الملوث ، فكل كلام عن الرخاء و الازدهار هراء و كذب و دجل ، و من هنا لنا أن نتخيل في أي حال يرثى له يعيش إخوتنا في شمال العراق . فمفخرة توماس فريدمان ، كردستان ، بدون مياه صالحة للشرب و بدون طعام نظيف ، أي أنها دون بنية تحتية أو خدمات ، إذ يكفي إضافة كمية من الكلور لتعقيم المياه للقضاء على الكوليرا .
لكن ماذا يعرف السيد فريدمان عن العراق الذي يكتب عنه ؟ فهو يتنقل في العراق بمروحيات الجيش الأمريكي ، و يرافق دورياته ، و يتناول الأطعمة المبردة المنقولة جواً أو براً من الكويت ، و يشرب مياه الشرب المعدنية المستوردة بواسطة الطائرات من سويسرا ، ثم يبخ أكاذيبه عن رخاء شمال العراق و الأمن الذي ينعم به ، و هذه الأكاذيب سرعان ما تتبخر ككل البروباغندا الأمريكية ، لكن هذه المرة بالكوليرا .
الكوليرا تعد حدثاً سياسيا في كل أنحاء العالم ، فالحكومات تتكتم على حدوثها لأنها تنال من هيبتها ، فانتشار هذا الوباء دليل على فشل الحكومات ، و مؤشر على الحالة المدقعة للسكان . فمهما قدمت الحكومات من بيانات و إحصائيات و أرقام عن تقدمها و رخائها و تطورها يكفي أن تظهر حالة كوليرا واحدة حتى تكذب كل ما سبق .
تقول نازل الملائكة في قصيدتها السابقة:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
و نحن نقول :
في شخص الكوليرا القاسي تنتقم الحقيقة
الجمل
إضافة تعليق جديد