مؤشر التبعية في تحول المجتمع المدني إلى أيديولوجيا
الجمل ـ د. ثائر دوري :
تقول دراسة منشورة حديثاً أن كل 2848 مواطن في الضفة الغربية و غزة يملكون ............... ماذا ؟
- طبيب ؟ لا .
- سرير في مشفى ؟ لا .
- ماذا إذاً ؟
كل 2848 مواطن في الضفة الغربية و غزة يملكون منظمة مجتمع مدني . حسب ما يذكر التقرير الذي نشرته صحيفة القدس العربي ، حيث أن هناك 1495" منظمة غير حكومية في الأراضي الفلسطينية تعني بشتي مجالات الحياة الفلسطينية وخاصة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والتربية الديمقراطية ومراقبة الشفافية والحكم السليم وغيرها من المجالات.و أضافت الدراسة إلى أن عدد المنظمات الاجمالي قد ازداد بنسبة 61.5% حيث كان عددها 926 منظمة في منتصف العام 2000". و تضيف الدراسة أن كل تلك المنظمات تتلقى تمويلاً خارجياً .
و لم تذكر الدراسة ما هو المعدل العالمي المقبول لمنظمات المجتمع المدني ؟ لنعرف هل بلغنا المعدلات العالمية أم مازلنا أقل منها ، و بالتالي هل يتوجب علينا أن ننشأ مزيداً من منظمات المجتمع المدني ؟ ثم هل يعد ازدياد عدد هذه المنظمات دليل تقدم أم ماذا ؟
مثلاً عندما يذكر عدد الأطباء في بلد ما يقال : كل ألف أو ألفين من السكان يملكون طبيباً واحداً ، أو كل ألف إنسان يملكون سريراً في مشفى . و تتفاوت هذه النسبة طبعاً بين الدول المتخلفة و الدول المتقدمة فعدد الأطباء و الأسرة قليل في الدول المتخلفة و بالعكس في الدول المتقدمة . و بالقياس على ما سبق ، هل يمكن اعتبار زيادة عدد منظمات المجتمع المدني دليل تحضر . ثم ما هي النسب العالمية ؟ مثلاً ما هو عدد هذه المنظمات في فرنسا أو في بريطانيا ؟ و إذا استمر النمو بهذا المعدل لعقد من السنين ، فهل سيملك كل مواطن منظمة مجتمع مدني! و لم يحدد التقرير مصادر التمويل تماماً . لكن المصدر معروف ، إنه الغرب ممول منظمات المجتمع المدني في كل أنحاء العالم .
كما أني أعتقد أن هذا الرقم غير دقيق لأن منظمة المجتمع المدني ليست فرداً واحداً ليقال أن لكل 1495 منظمة مجتمع مدني ، بل إن الحسبة يجب أن تتم على الشكل التالي ، لنفترض أن كل مؤسسة مجتمع مدني تضم خمسة أشخاص فقط ،عندها يصح أن نقول أن كل ثلاثمائة مواطن يمثلهم شخص في منظمات المجتمع المدني ، و بما أن هذه المنظمات ممولة غربيا على الأرجح فيمكن تحوير العبارة السابقة دون أن نحس بتأنيب ضمير، فنقول : إن كل شخص من بين ثلاثمائة شخص يتلقى تمويلاً غربياً بشكل مستقل عن السلطة الفلسطينية .
لقد تحول المجتمع المدني إلى أيديولوجيا لكثير من اليساريين السابقين و لبعض ناشطي حركات التحرر بعد انهيار الإتحاد السوفييتي ، فأولئك الذين كانوا ينظّرون لدكتاتورية البروليتاريا و حتمية الحل الاشتراكي تحولوا بكبسة زر واحدة إلى منظرين للمجتمع المدني و حقوق الإنسان و تمكين المرأة ، و صاروا يتلقون التمويل من منظمات المجتمع المدني الغربية ذات الواجهات البراقة الموحية بالاستقلالية عن حكوماتها ، لكن بتدقيق بسيط يستطيع أي عاقل أن يكتشف أن هذه المنظمات مرتبطة بشكل أو بآخر بحكوماتها و تتلقى التمويل منها ، و هي تنفذ سياسات بلدانها و هدفها اختراق المجتمعات الأخرى و من ثم إخضاعها للسيطرة الغربية بما يمكن إجماله بمصطلح "القوة الناعمة" مقابل القوة العسكرية الخشنة . فمقابل هذا التمويل يتبنى القائمون على هذه المنظمات أجندات غربية لمجتمعاتهم ، فتقدم قضايا ثانوية على أنها قضايا رئيسية و بالعكس تتراجع قضايا رئيسية إلى مراتب متأخرة ، و يتم تسليط الضوء على جوانب غير مهمة مقابل التعتيم على جوانب هامة . فعلى سبيل المثال تثار قضايا ختان الإناث بفواصل منتظمة كل خمس أو سبع سنوات في مجتمع يعاني من الجوع و الفقر و احتكار السلطة و الأحكام العرفية ، فتبدأ منظمات و ناشطو المجتمع المدني و وسائل الإعلام بالحديث عنها فيدلي كل ناشط بدلوه بين مؤيد و معارض ، و تدخل وسائل الإعلام الغربية على الخط فتبث ساعات متواصلة عن هذه المشكلة ، ثم تنضم النخب العربية من بلدان أخرى للنقاش ، و فجأة تجد نفسك مضطراً لإبداء رأي حول مشكلة لم تكن قد فكرت بها ، فإذا قلت إنك مع هذا الأمر يجب أن تقدم مبرراتك و إذا قلت أنك ضده يجب أن تشرح فتصرف جهدك ووقتك و طاقتك الذهنية في معركة ثانوية . و هكذا تختفي مشاكل الفقر و الدكتاتورية و الأحكام العرفية و انعدام فرص التعليم ، لأنها مشاكل ثانوية أمام هذه المشكلة الخطيرة !
كما رأينا من هذه المنظمات العجب العجاب أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق ، فتخيلوا منظمات نسوية تناشد بريمر أن يحفظ حقوق المرأة من اعتداء الأحزاب الدينية التي جاءت مع الاحتلال ، أي أنها تناشد المحتل أن يحرر المرأة من أزلامه . و تخيلوا دفاعاً عن قضايا المرأة يتجاهل وجود الاحتلال الذي هو أكبر اعتداء على الرجل و المرأة و الطفل الصغير .و تخيلوا منظمات للدفاع عن البيئة تتجاهل أن أول مخرب للبيئة هو الاحتلال و اليورانيوم المنضب الذي قصف البلد به !
إن منظمات المجتمع المدني هي الذراع الناعم المخملي للسيطرة الغربية على الدول و المجتمعات . فإذا أضفنا للعاملين في هذه المنظمات موظفي السلطة الفلسطينية ، من مدنيين و عسكريين فهم يتلقون رواتبهم من منح خارجية ، و يتلقون أوامرهم من سلطة مكبلة باتفاقيات أوسلو ، عندها نكون أمام لوحة لمجتمع يعيش على المنح و الهبات و المساعدات ( سمها ما شئت ) الخارجية و الغربية تحديداً . فكيف يمكن لمجتمع مثل هذا أن ينجز تحرره الوطني بينما يعيش على حساب الآخرين ، و تحديداً على حساب من يريد أن يتحرر من سيطرتهم ؟
فويل لأمة تأكل مما لا تزرع و تلبس مما لا تصنع .
الجمل
إضافة تعليق جديد