د.غسان رفاعي: كواليس ثقافية في باريس..

20-07-2008

د.غسان رفاعي: كواليس ثقافية في باريس..

ـ 1 ـ تمكيجت العاصمة الفرنسية، الأسبوع المنصرم ـ ساحات وشوارع، ومخازن، ومقاهي ـ وتغندر مواطنوها، رجالاً ونساء، وأنشد أحد شعرائها الزجليين، في حانة ليلية: «لنرقص مع جان دارك، ولنحطم من جديد سجن الباستيل!» وتحول هذا القول إلى نشيد شعبي يترنم به الشباب في الشوارع، لقد تضافرت، صدفة، أو عن سابق تصميم وتخطيط، ثلاثة أحداث «مزركشة» ـ كما كان سيصفها الشاعر الرجيم بودلير ـ لأحداث هذا الهرج والمرج: الاحتفال بعيد الثورة الفرنسية التي دحرجت رأسي الملك لويس السادس عشر، وزوجته الحسناء ماري انطوانيت بالمقصلة، ونزول ألبوم السيدة الأولى كارلا إلى الأسواق، ويضم مجموعة من أغانيها الجديدة المختارة، وانعقاد قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» التي شارك فيها أكثر من 40 رئيس دولة ووزارة.

‏ ـ 2 ـ ‏

مثير للدهشة موقف المواطن الفرنسي العادي: انتفخت أوداجه فخراً في ذكرى ثورته، ولكنه ترحم على ماري انطوانيت التي فصلت المقصلة رأسها، لقناعته بأنها ناصعة البراءة، وأنها ضحية الفسق الثوري، يتفنن في ترويج الأراجيف عن كارلا، عارضة الأزياء، والمغنية الإيطالية، التي أصبحت السيدة الأولى، ويتهامس «بنوادرها» التي تنشرها صحيفة «الكانار انشينيه» الساخرة، كل أسبوع على صفحتها الأولى، لكنه يتهافت على شراء ألبومها الجديد، ليرقص على أنغامها الرومانسية حتى الفجر، لكنه يستشيط غضباً إذا انتقد «الأجانب» تصرفاتها الطائشة. تتنافس أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في امتداح قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» والنفاق للرئيس ساركوزي لنجاحه في جمع هذا «الكرنفال الفولكلوري» من رؤساء الدول المتحكمين على ضفتي البحر المتوسط، ولكن المنظرين الاستراتيجيين يشهرون بالقمة، ويصفونها بأنها «فقاعة صابون» تارة، وأنها «اسكتش» من تأليف نيكولا، وتلحين زوجته كارلا وأداء راقصي باليه محترفين تارة أخرى. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

ولكن «الكواليس الثقافية» التي تسعى إلى الحفر في تضاريس الأحداث لاستجلاء خلفياتها الباطنة لا الظاهرة، تبصرنا ببعض «المفارقات العبثية» التي، وإن كانت لا ترقى إلى أن تكون أكثر من تخمينات متسرعة، فقد تساعدنا على تبديد الغيوم الداكنة التي تحيط ببعض الأحداث. ‏

وفي رأس هذه المفارقات فضحية «إعصار نرجس» الذي كاد يدمر بورمانيا بعد أن تسبب في مقتل 130000 وتشريد 2.5 مليون نسمة، لقد رفضت الحكومة البورمانية أن تفتح حدودها للمساعدات الإنسانية الغربية، وتحملت مسؤولية تصعيد آلام شعبها، لأنها لم تكن واثقة من «نزاهة المساعدات» وكانت تتخوف من أن يكون هذا السخاء يحجب مشاريع احتلال اقتصادي، وكما قال بيير هنسر، مدير مركز الأبحاث الدولية، ومؤلف الكتاب الشهير «الرعب والامبراطوريات»: ما الفائدة من سقوط جدار برلين إذا كان الجدار الذي يفصل عالم التخمة عن عالم الإملاق قائماً؟، إن السخاء الغربي في تقديم المساعدات هو «بالوعة» لتصريف الفائض من الانتاج الفاسد، وعباءة رثة لتمجيد الأخلاقية الغربية، وقد آن الأوان لفضح المساعدات المشبوهة، ولإنهاء سيطرة القضاة المزورين، وموزعي دروس الأخلاق، والبوليس الدولي والايديولوجي! ولم يكن جاك جوليار أقل حدة في أحكامه حينما كتب: «يحق لنا أن ننظر بارتياب إلى الاتحاد من أجل المتوسط، لقد أخرجه ساركوزي لتوفير المزيد من الاستثمار للغرب، ولمزيد من الاستجداء للجنوب». ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

ولعل أكثر المفارقات دعارة هو الإصرار على منح إسرائيل «براءة ذمة أخلاقية» وتكريسها «كواحة ديمقراطية في أوقيانوس من الأنظمة الاستبدادية» و«التغني بعشقها العذري» بالسلام، حتى اريك رولو الكاتب المتخصص بقضايا الشرق الأوسط في صحيفة «لوموند» سابقاً، والسفير الفرنسي في تونس وتركيا سابقاً، والمعروف بتعاطفه مع القضايا العربية، والفلسطينية خاصة، كتب في مقال نشر في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك»: «شهدت أوساط المثقفين الإسرائيليين خلال الثمانينيات بدايات تحول مهم، وبروز جيل جديد من الرجال والنساء لم يعرفوا المحرقة، ولا قيام دولة إسرائيل، ويدل هذا التحول على نضوج تدريجي للنخب التي باتت قادرة على محاكمة الماضي بلا تعقيدات، والتحرر من الأساطير والمحرمات التي ينشرها قادة إسرائيل» أين هذا الجيل، وجميع الدلائل تشير إلى أن إسرائيل تزداد تطرفاً وعنجهية، ودموية؟ وأن تبجحها يحمل غصن الزيتون «حيلة خادعة» لتكريس عنصريتها، وترسيخ احتلالها للأرض العربية. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

ويرى دهاقنة الكواليس الثقافية أن السياسة الخارجية الفرنسية تتأرجح بين ثلاثة دوائر: أولاها، المتأمركون الذين يعتبرون أن فرنسا جزء لا يتجزأ من الغرب، وامتداد للولايات المتحدة، في مواجهة تهديدات الصين وروسيا والتطرف الإسلامي، والذين يجدون في السياسة العربية كما صاغها ديغول خدعة أو خيانة، وثانيتها، الديغوليون الذين يصرون على استقلالية فرنسا، ورفضها الاملاءات الأميركية، وأخيراً، البراغماتيون الذين يطالبون بالواقعية السياسية، والانتهازية الاستراتيجية، ولكن الغلبة تظل ـ كما يؤكد الخبراء ـ للانتماء الغربي لفرنسا، ولو على حساب الصراع مع الحضارات الأخرى، وللتحالف الاستراتيجي الكامل مع الولايات المتحدة، والتحرر من عقدة «مناهضة أميركا» التي يتغنى بها المثقفون الفرنسيون، وكما قال آلان غريش، الكاتب السياسي المرموق ورئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك»: «تتحرك السياسة الخارجية الفرنسية، خلسة أحياناً، وعلناً في بعض الأحيان بتحريض من الرئيس ساركوزي وبطريقة اعتباطية في أغلب الأحيان، إن تيار الأطلسية المتأمركة يتقدم، محجوب الوجه لأنه يفتقر إلى التأييد الشعبي، ولأنه يستفيد من الفراغ الفكري، إذ لا أحد يعرف أبعاد مشروع متناسق يستعيد ويطور التقليد الذي وضعه ديغول، والذي كان يعتمد على قدرة فرنسية مستقلة للتحرك، وعلى عالم لا ينقسم إلى شطرين...». ‏

ـ 6 ـ ‏

السؤال ـ الفضيحة الذي استأثر بالمناقشات والحوارات في الكواليس الثقافية هو: «كيف يجوز أن نولي البطر، ومظاهر البذخ الوقحة، كل هذه الأهمية، في عصر تتلاحق فيه الكوارث والانهدامات؟ والجواب هو: الإنسان ليس مصنوعاً من النوازع والصبوات الأخلاقية فحسب، وإنما هو مصنوع من الغثاثة والنزق والحماقة، يقول جيل بيوفيتسكي: «لم يعد البطر الجزء الملعون من وجودنا، ولكنه الجزء المقدس منه، إنه الحلم، إنه القدرة على التجاوز، إنه الطموح إلى التفوق، وإنه السفر إلى المجهول». ‏

شاركت مجدداً في ندوة حول البطر، عقدت على هامش قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» وكنت أتوقع أن أستمع إلى شهادات لكتاب فرنسيين «متبرجزين» عن بطر المجتمعات الغربية واستئثارها بالموارد والثروات في حين يحتضر العالم الثالث وتنهب خيراته، وتسلح طوائفه الاثنية لتخوض حروباً أهلية دامية، ولكنني فوجئت بمباريات ثقافية تمتدح البطر «والفخفخة» قديماً وحديثاً، لتجعل منهما أهم انجازين حققتهما الحضارة، ولولاهما لما اختلف الإنسان عن الحيوان، ولما استطاع أن يتقدم، لقد تبرع الفلاسفة بتقديم تفسيرين لمعرفة ولع الإنسان بالبطر: تفسير أخلاقي ويقوم على الزعم بأن البطر «هو» غطرسة وأنانية ورغبة في إذلال الآخرين وإشعارهم بالدونية»، وتفسير اجتماعي ويقوم على الزعم بأن البطر هو مظهر من مظاهر صراع الطبقات، غير أن نجم الندوة جيل ليبونيستكي ومؤلف كتاب «البطر الأبدي» يؤكد أن التفسيرين يتجاهلان نقطة هامة، وهي أن الإنسان، دون النزوع إلى البذخ والبطر يفقد إنسانيته، ولا يتجاوز الحيوانية التي لا هم لها إلا تأمين البقاء وتوفير الحاجات الأولية، ويستشهد بقول «شكسبير»: «جردوا الإنسان من الغثاثة، وسيفقد إنسانيته إلى الأبد...». ‏

لقد حدث تطوران مهمان في السنوات الأخيرة، إذ دخلت السلع التي تصنف عادة بأنها رموز للبطر الاقتصادي السوق التجارية، وأصبحت في متناول الجميع، ثم إنها لم تعد تخضع للجماليات الباذخة المتفردة، بل للطلب المتزايد عليها من قبل عامة الشعب، ويمكن القول إن مظاهر البطر الحديث انتقلت من النخبة إلى الدهماء. ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

حينما خرجت من الندوة، بدا لي أن مظاهر «البطر» تزحف علينا من الجهات الأربع، لتولد عندنا عاهات مستديمة، إنها نوع من التورم الاصطناعي الذي يتستر على عوراتنا، وقد نحتاج إلى جهود فائقة للتحرر منها! ‏

هناك البطر السياسي أولاً الذي يتجلى في المجاهرة بسياسات فضفاضة باذخة لا تتناسب مع حجمنا، ولا مع طاقتنا، ما يولد طلاقاً تاماً بين شعاراتنا السياسية المطروحة وممارساتنا الفعلية، كما يولد أزمة ثقة بين السلطة التي تبيعنا قصوراً في إسبانيا، وبين جماهير الناس التي لا تنتظر المعجزات، وإنما تقنع بما هو مستطاع، وهناك البطر الاجتماعي القائم على المبالغة في حجم مركزنا الوظيفي أو أهميتنا المسلكية، بحيث يخيل إلينا أننا جميعاً مديرون عامون، أو رؤساء مسؤولون، في حين أن صلاحياتنا، بعض الأحيان، لا تتجاوز طقطقة الأصابع، وما علينا إلا الاستماع إلى أدعياء الثقافة الذين يفاخرون بشهادات لم يحصلوا عليها، أو موظفين يتحدثون عن صلاحيات لم تمنح لهم، وقدرات غير مؤهلين لها، إننا نتسوق الأهمية مجاناً دون أن ندفع ثمناً لها، وهناك أخيراً البطر الاقتصادي القائم على اقتناء ما هو فاخر من الخارج، ولو كان مزوراً، واستبخاس ما هو وطني، ولو كان من النوع الفاخر، إننا مولعون بالسلع المسجلة التي تحمل أسماء مشهور Signe، وندفع الغالي والرخيص للحصول عليها والتفاخر باقتنائها، وما علينا إلا أن نشاهد هذه الطوابير من المواطنين الذين يتهافتون على حوانيت السلع الفاخرة، أصالة أو تزويراً، ولا هم لهم إلا الحصول على سلع متداولة في سوق الفخفخة والمباهاة، لم يعد الهدف الانتساب إلى النخبة، وإنما الشعور بالاستفراد والاستثناء، كان «نيتشيه» يقول: «ما أجمل أن أشعر بأنني مختلف عن الآخرين!» وقد يكون ما دفع هؤلاء المهووسين هو الشعور أنهم يستحقون ما حصلوا عليه، لا مجرد الشعور أنهم اقتحموا أسوار طبقة النخبة. ‏

‏ـ 8 ـ ‏

منابر «كواليس المثقفين» تطرح إشكاليات محرجة وواخزة، ولكنها تولد بعض «الارتياح»، قد لا تكون الاشكالات جدية 100% ولكنها «صهريج» يمتص النقمة والتشكيك، يقول بطل رواية «بيت الموتى» لدستوفسكي: «سأصرخ بملء فمي، لا لأنني مقتنع بفائدة الصراخ، وإنما لأنني حريص على النزاهة والاستقامة!». ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...