دور فلاسفة الإسلام في تدعيم حوار الحضارات
دعم فلاسفة الإسلام التفاعل الحضاري مع الأمم والشعوب الأخرى، ومارسوه واقعاً من خلال أعمالهم وسلوكهم وتمازجهم الفكري مع الآخرين، من خلال انفتاحهم الحضاري على أرباب الملل والنحل المختلفة وغرفوا من العلوم والمعارف، وتعمقوها بصورة فريدة تعكس مدى تسامحهم مع تلك الأمم والشعوب، من ناحية، ومن ناحية أخرى تبرز شغفهم بالعلم والمعرفة، وذلك منذ نشأة حركة الترجمة، بهمة ونشاط، إذ بدأت منذ القرن الأول الهجري، في عهد الأمير خالد بن يزيد من بني أمية في ترجمة العلوم الطبية ثم تطورت وتعمقت في عهد العباسيين وخصوصاً عهد الخليفة المأمون، الذي كان يحتفل بالعلماء ويحضر مجالسهم ومناظرتهم. وبدأت في عهده ترجمة كتب اليونان والفرس وغيرهم في ما عرف بعلوم الأوائل في الفلسفة والمنطق وسائر الفنون.
وفي واقع الأمر، فإن فلاسفة الإسلام لم يكونوا مجرد نقلة لأفكار الآخرين بل أنهم أخضعوها لعقولهم تمحيصاً ونقداً وإضافة حتى تتواءم مع البيئة والثقافة الإسلامية. وإذا أردنا ان نضرب مثالاً على ذلك فموضوع المدينة الفاضلة عند أفلاطون وأثرها في الفكر الإسلامي خير مثال، ذلك لأنه موضوع قديم متجدد لا يزال يسيطر على ذهن فلاسفة السياسة، وعلماء الاجتماع، وفقهاء القانون حتى يوم الناس هذا. والسؤال هو: لمن يكون الحكم؟ هل لمصلحة فئة محددة تحققت فيها شروط الكمال؟ وبالتالي يتحقق في ظلها العدل والأمان في المجتمع. أم يكون ذلك من طريق حكم القانون الذي يضمن العدل والمساواة بين الناس؟
لقد شغل هذا الموضوع الفلاسفة منذ أقدم العصور، فتحدثوا منذ أفلاطون، وربما قبله عن مدينة مثالية لعب الخيال فيها دوراً كبيراً. وكانت هذه المدن في حقيقة الأمر معادلة موضوعية للظلم والقهر المتحقق في دنيا الواقع، ومن ثم لجأ الفلاسفة إليها أملاً في نموذج أفضل، ربما يأتي بعد ذلك من يسعى إلى تحقيقه في دنيا الناس. وذلك لأن الأمل هو أحد أهداف الحياة الأساسية، من أجل هذا فإن حلم الإنسان بواقع أفضل، لم ولن يتوقف في يوم من الأيام، وسيظل يداعب خياله ما بقي على ظهر الأرض إنسان. ذلك على رغم أن معظم هذه المدن الفاضلة ظلت بعيداً عن التنفيذ وما طبق منها كان مصيره الفشل والإخفاق.
وعلى هذا فإن الأفكار والخيالات والأحلام اليوتوبية لم تكن غير استجابات مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها، فكانت تعبيراً عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه، والحلم بحياة ومجتمع أفضل وأكثر عدلاً، ولذلك لا يمكن فهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لنعرف أنه كان صرخة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية ظالمة وفاسدة.
ونموذج الفيلسوف الحاكم أو السياسي العادل الذي تبناه أفلاطون في المدينة الفاضلة وسعى الفكر السياسي الإسلامي لمحاكاته كهدف شرعي وديني قبل أن يكون مطلباً فلسفياً واجتماعياً هو أكثر النماذج شيوعاً في هذا الشأن مع العلم أن لدى أرسطو أفكاراً سياسية أكثر حيوية وواقعية وموائمة لفكرنا الإسلامي وعصرنا الراهن من أفكار - أو بمعنى أصح من أحلام - أفلاطون. خصوصاً أن تأثير أفلاطون السياسي في تراثنا الإسلامي جاء من خلال كتابه الجمهورية، وليس القوانين الذي يعد من وجهة أكبر شرَّاح أفلاطون أفضل ما كتب وأكثرها واقعية. ولماذا سيطر أفلاطون في هذه القضية بالذات – وهي نموذج الفيلسوف السياسي – على فكر فلاسفة الإسلام؟ بدءاً من أبو بكر الرازي، والفارابي، وإخوان الصفا، وابن سينا، وابن رشد شارح أرسطو الأعظم.
لقد كان هذا التأثير الأفلاطوني واضحاً لديهم سواء في حديثهم عن المدينة الفاضلة كما هو واضح لدى الفارابي وإخوان الصفا، أو السيرة الذاتية كما هو واضح لدى أبو بكر الرازي، أو في شرح الجمهورية كما فعل ابن رشد، أو حتى في حديثهم عن حي بن يقظان الذي كان نموذجاً أفلاطونياً. والحق أن تأثير أفلاطون في هذا الموضوع – النموذج المثالي – لم يقف عند الفلاسفة وحدهم ولكنه تخطى ذلك إلى دوائر أخرى، كفلاسفة الصوفية، وبعض رجال علم الكلام، خصوصاً الذين عنوا منهم بالحديث عن الفكر السياسي. هل يمكن تفسير هذا التأثير باعتبار أن أفلاطون – كما ذهب عبدالرحمن بدوي – أقرب إلى الروح العربية من أرسطو، وذلك في حديثه عن كل من أرسطو وأفلاطون، وأن الأول يمثل الروح اليونانية، بينما سرى في مذهب أفلاطون دماء شرقية، فكان أقرب إلى الفكر الشرقي.
لقد كان أفلاطون، الذي زار مصر وتعلم فيها، مثل غيره الكثير من فلاسفة الإغريق قريباً من الروح العربية، ومن ثم لم يتواءم القارئ العربي مع الفكر الأرسطي، إلا بعد مزجه بالأفلاطونية. فأفلاطون الذي سرى في مذهبه دم شرقي، أو شبه شرقي كان ذا رحم ماسة بالفكر الشرقي، ومنه الروح العربية، وأولئك الذين تلقوا التراث الأرسطي بشرّاحه لم يستطع الظفر بحق المواطن في الحضارة العربية إلا بعد أن طُعِّم بدماء أفلاطونية وأفلوطينية.
وهذا ما أكده مفكر آخر- فؤاد زكريا - في حديثه عن أثر الفكر الشرقي في فلسفة أفلاطون بقوله: «وفي اعتقادي أن أقوى المؤثرات الفلسفية في تفكير أفلاطون هو ذلك التيار الصوفي الانفعالي... مقترناً بالاتجاه الذي يدافع عن فكرة الثبات في مقابل التغير، والوحدة في مقابل الكثرة أو التعدد». هناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن هذا التيار كان يرجع إلى أصول شرقية قديمة، أي أن أفلاطون كان من أقوى العوامل التي ساعدت على إدخال العناصر الشرقية في الفكر اليوناني، والخروج من هذا كله بمزيجه الفريد.
ويرى بدوي أن تأثير أرسطو المبكر في الفكر العربي يعود إلى سيطرة روح التحصيل والعرض التفصيلي للآراء، وهى مرحلة التقليد والشرح تلك التي تسبق مرحلة الإبداع والابتكار بالضرورة. ومن هنا جاء تأثير فكر أفلاطون لاحقاً في الفكر العربي بعد أن أعد فكر أرسطو العدة لدى العرب وهيأهم لمرحلة الإبداع وهذا ما يعكسه قوله: «أفلاطون يحدث أثره المسيطر في أدوار الابتكار والخصب الروحي، لأن تأثيره من باطن، بمعنى أنه يهب المنفعل عنه قوة مولده لأفكار جديدة، ومذاهب جديدة، بينما أثر أرسطو يظهر في أدوار العقم والتقليد والتحصيل والعرض التفصيلي للآراء، لأن تأثيره من خارج، إذ يقدم النتائج إليك معدَّة من قبل، من دون أن يجعلك تنفعل وإياه من الباطن».
والحق أن هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه، وربما كان المزاج الأفلاطوني ملائماً لأصحاب الخيال والمثل كفلاسفة الصوفية، والفارابي، وإخوان الصفا. أما أرسطو فإنه أقرب إلى الفكر العربي الإسلامي خصوصاً من جهة انسجامه مع العقل وقربه من الواقع وقابليته للتحقق الفعلي والواقع العملي. وربما يعود الأثر الأفلاطوني في الفكر السياسي إلى مثالية الفكر الأفلاطوني المفرطة في الخيال، وهو ما يظهر بوضوح في الكتابات السياسية الإسلامية حيث ناشد المفكرون الإسلاميون، منذ عصر التدوين نظاماً سياسياً إسلامياً مثالياً بعيداً عن الواقع. وربما تعود تلك المثالية إلى أنهم كانوا يضعون دائماً نصب أعينهم فترة حكم الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين من بعده، باعتبارها النموذج الأمثل الذي يجب أن يحتذى ويتحقق.
ومن جهة أخرى فإن حكم الفيلسوف عند أفلاطون كان حكماً مركزياً سيادياً يتواءم مع واقع المسلمين في الحكم المركزي السيادي، بخلاف أرسطو الذي نجد لديه ما يتوافق مع ما نسميه الآن حكم المؤسسات. لكن قد يصدق حكم بدوي على أفلاطون وقربه من الروح العربية بصورة جزئية إذا نظرنا إليه من زاوية التصوف، والفلسفة الإشراقية التي تغلغلت بقوة في الفكر الإسلامي، لاهتمام كليهما بالخيال.
ولعل هذا يفسر لنا إعجاب السهروردي المفتون بأفلاطون الذي وصفه في كتابه حكمة الإشراق بقوله: «إمام الحكمة ورئيسنا أفلاطون، صاحب الأيد والنور». كما يتكرر ذكر أفلاطون كثيراً لدى ابن عربي في الفتوحات المكية وغيره من أعماله. لكن يبقى هذا الحكم غير صحيح، إذا نظرنا إلى الفكر الإسلامي في مجمله بصورة عامة وشاملة. هذا التفاعل الحضاري بين الحضارات من جهة والأمم والشعوب من جهة ثانية الذي تحقق في تاريخ الحضارة الإسلامية عبر تاريخها وكان لفلاسفة الإسلام دور كبير في تدعيمه كفيل بأن يزيل الاحتقان والتوترات الحالية الناتجة عن صراع ثقافي وحضاري بين الشرق والغرب، تغذيه تيارات متشددة على الجانبين تحاول أن تجعل لغة الصدام والحروب هي الوسيلة للالتقاء بدلا من لغة التفاعل والحوار.
أحمد عرفات القاضي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد