رحيل نذير نبعة
مسيرة من التحولات... ألوان غارقة في ماء الذهب
فقد المحترف التشكيلي السوري أمس، نذير نبعة (1938- 2016)، أحد أبرز مصوّريه الكبار، ليلتحق بفاتح المدرّس، ولؤي كيالي، ونصير شورى، وآخرين... هؤلاء الذين أسسوا بقوة القماشة الثانية للوحة المحليّة، بعد جيل الرواد.
بغياب هذا التشكيلي المرهف، ستفتقد دمشق من رسم صورتها كنسخة من الجنّة، هو الذي تنشّق هواء بساتين المزّة في طفولته الأولى، فعلقت رائحة ترابها بألوانه حتى شهقته الأخيرة. دمشق في لوحاته امرأة ساحرة، وإذا بها تشكّل أحد أكثر منعطفاته اللونية ثراءً.
هكذا سيفتح الباب على مصراعيه للحلم الشرقي بألوانه المبهجة وفتنته الطاغية، مفصحاً عن قيم الجمال الدمشقي، عبر تطويع العلاقة بين المرأة والمدينة في قراءة أسطورية تزاوج جماليات النماذج التراثية والشعبية، فنتلمّس أسطورة عشتار في حوارية المرئي والافتراضي، بالإفصاح عن رموز تتكيف مع “ألف ليلة وليلة” والمخزون الحكائي الشرقي، في منمنمات مرسومة بدقة واقعية. نساء بكامل زينتهن، مسربلات بحزن دفين، هن الصورة الأخرى لدمشق بتاريخها الآسر والمتحوّل والمنهوب. كانت أعماله التي حملت اسم “الدمشقيات” إشارة دالّة على هوية خاصة للمكان الدمشقي، في مناخات حلمية شديدة الثراء والغواية.
وإذا بشهرزاد تتسلّل إلى سطح اللوحة، لتعيد صوغ منامات جديدة، تتشابك خطوطها وألوانها بحسّ غرافيكي صارم، و”روح مدرَّبة على التقاط مكامن الجمال الموجع”، بالإضافة إلى جرأة إيروسية من دون مقاصد برّانية للوحة. العري في أعماله هو جزء حميمي من عناصر أخرى، تشكّل خطوط اللوحة وأبعادها التعبيرية والرمزية. كما أنّ البعد التزييني في حضوره الشاعري، لم يطغَ وحده على الوحدات السردية في طبقات اللوحة وتوليفاتها الواقعية والأسطورية. هناك إذاً مسافة واضحة بين ما أنجزه نبعة بدأب ودراية وصمت والبعد الإعلاني والإعلامي لتجارب سواه. لم يتوقف نذير نبعة في محطة تشكيلية واحدة. لطالما خضعت تجربته لتحولات كبرى، منذ أن درس الفنون الجميلة في قاهرة الستينيات إلى آخر تجاربه التجريدية في اختبار ألوان التراب. لكن ذاكرته الأولى ستبقى عالقة في بساتين المزة التي يصفها بأنّها “مهرجان ألوان”، كما كانت لوالدته وحكاياتها الشعبية حصّة في هذا الشغف اللوني، إذ قال مرة: “كنت أرافق والدتي إلى سوق الحرير في دمشق، فاكتشفت عالماً لونياً باهراً في الأقمشة الشعبية التي كانت تبتاعها أمي من هذا السوق، ثم صرت رسّاماً لأقمشة النساء، ومناديل الغرام، المناديل التي كانت شائعة في أربعينيات القرن المنصرم، إذ كنا نكتب عليها أبياتاً شعرية في الغزل، وكانت تُهدى إلى المحبين”. أما معلمه الأول، فكان محمود جلال الذي قاده إلى فضاء أرحب.
طوّع العلاقة بين المرأة والمدينة في قراءة أسطورية تزاوج جماليات النماذج التراثية والشعبية
فقد اكتشف في مرسمه معنى الظل والنور في اللوحة، والألوان الزيتية. ويعترف بأن ناظم الجعفري كان معلّمه الحقيقي، إذ كانت لحظة دخوله مرسمه، في شارع بغداد، تشبه الانخطاف. في فترة الوحدة السورية المصرية، سيذهب في بعثة لدراسة الفنون الجميلة، وسيعيش أزهى أيام حياته، حين “كانت القاهرة تعيش عصرها الذهبي، ونهضتها الثقافية الشاملة، بوجود فنانين وأدباء كبار مثل عبد الهادي الجزّار، وحامد ندى، وحسين بيكار، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم”. هؤلاء تركوا بصمة واضحة في تفكيره. هكذا اهتدى إلى لوحة تضع الهوية المحليّة في صلب اهتمامه، ولم يكن مستغرباً أن يختار “مقالع الحجارة” عنواناً لمشروع تخرّجه من “كلية الفنون الجميلة”. إثر عودته من القاهرة بصحبة رفيقة دربه شلبية إبراهيم، صُدم بقرار تعيينه مدرساً لمادة الرسم في مدينة دير الزور. هذه الصدمة ستتحول لاحقاً إلى مفاجأة مدهشة. في هذه المدينة البدوية التي تقع على ضفاف الفرات، وبالقرب من مدينة ماري الأثرية، وجد الهوية المحليّة التي يفتش عنها، واكتشف ألواناً مشرقة. هناك، رسم مجموعته الأولى بتأثير الأساطير المحلية والفن التدمري، والملاحم الفراتية، ثم جداريات ما بين النهرين، والنحت السومري، ورسوم الفخار والخزف، ما سيفتح لوحته على مسالك جديدة، تنبش من البيئة المحلية أبعادها السردية ونبرتها التجريدية وألوانها الصحراوية. وإذا بالوجوه الصارمة بنظراتها الحائرة والمنهوبة، تضع اللوحة في مقام آخر، مكتفية بالبنّي المحروق الذي يشبه مفازة صحراوية، لا أمل للنجاة من هبوب رمالها. كما تقترب اللوحة في عمارتها من خطوط ومنحنيات الوجوه في التماثيل التدمرية. في المفترق الحاسم لتجربته، ستكتسح نكسة الـ 67 الآمال والتطلعات، لتحل مكانها “صاعقة هائلة هزّت القناعات الجديدة، وخيبة كاملة”. لم ييأس نذير نبعة، فانخرط في موضوعات فلسطينية مستوحاة من قصائد شعراء الأرض المحتلة، ثم أتته فرصة الذهاب إلى باريس للخروج من تلك الفترة الكابية للهزيمة: “باريس مطلع السبعينيات ساعدتني على أن ألتقط أنفاسي وأستعيد توازني، كما أتاحت أمامي الاطلاع على تجارب التشكيليين الكبار” يقول. المحطة الأخيرة التي خاضها التشكيلي الجريء، تحمل عنوان “تجليات”، وهي مغامرة حقيقية فعلاً. فجأة، أدار نبعة ظهره إلى منجزه في مراحله السابقة، وذهب إلى أقصى حالات التجريد، بما يشبه انقلاباً على مختبره القديم. وإذا بسطح اللوحة أقرب إلى أشكال الصخور والجدران والكهوف وتضاريس الطبيعة. سطوح ناتئة وزهد لوني واضح، تتشرّبه اللوحة على مهل عبر ضربات شاقولية وأفقية كثيفة، تنطوي على إشارات تجريدية تشبه إشارات المتصوفة. كأنه يلوذ بعبارة النفّري المشهورة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. مهلاً، سنجد في خلفيات أعماله القديمة ما يشبه سطوح لوحاته اليوم، لتصير هذه المرة متناً بالرمادي والأسود، أو بالأسود والأصفر، أو الأخضر النوراني، تبعاً لموسيقاه الداخلية وابتهالاته الصوفية، وإشراقاته الآسرة. كان يقول باطمئنان “معركتي أن يكون لديّ ألوان، فهي جمهوريتي المستقلة، ولن أفرّط بها”. رحل نذير نبعة وستبقى ألوانه غارقة في ماء الذهب. ربما ما قاله يوسف عبد لكي عنه يختزل عمق تجربته “لا أحد يعرف كيف يكون الفن مختبئاً تحت الأصابع، ما إن تحكّه حتى يفوح عطره القاتل”.
خليل صويلح
لا تحزن... بسام وثورة سيؤنسان ليل شبلية
«وفاة نذير نبعة» يختصر السيناريست السوري نجيب نصير هول خبر الموت بثلاث كلمات يكتبها لنا على «الواتس أب»، فنرد بالكلمات الأولى التي تتصاعد إلى أذهاننا :«هل هو في دمشق، كيف مات؟» ليأتينا الرد سريعاً «كان مريضاً، لقد استراح.
الآن وصلني الخبر من بسام كوسا». نسأل نصير إن كان سيزودنا بنص يرثي به أبرز التشكيليين السوريين، فيشير لنا بالإيجاب مستطرداً: «تكلم مع بسام أيضاً، هو يعرفه جيداً». نجرّب التواصل مع النجم السوري بسّام كوسا، وهو الذي انشغل أصلاً بموهبته في التشكيل منذ أن جرّب الانتساب إلى «كلية الفنون الجميلة» فنصحة الفنان الراحل لؤي كيالي بالاعتماد على نفسه، ليختار «قسم النحت» ويظل شغوفاً بالفن التشكيلي منذ ذلك الوقت. لكنه لا يجيب. نعيد الاتصال حتى ينهمر صوت النجم السوري ممزوجاً هذه المرة بحيويته المعتادة وحزنه الواضح وحالة الإرباك التي تتسيد اللحظات الأولى من مشهد الفقد عموماً: «آسف لم أتمكّن من الرد من المرّة الأولى. البقاء لله. العمر لكم». يبادرنا الممثل السوري المعروف بتلك الكلمات قبل أن يشرح سبب رحيله وفق ما قاله أطباؤه كونه لازمه في فترة مرضه فيقول: «كان يعاني من مشكلة في صفيحات الدم، وكان يمكن أن تتطور لتصل إلى سرطان، لكنّه رحل قبل أن يحصل ذلك، على أمل أن يكون قد استراح لأن التعب نال منه أخيراً». وما إن نطلب منه أن يكتب عن صديقه المقرّب نصّه الخاص في حضرة وداعه، لا يتردد في الموافقة قبل أن ينتبه لشيء فاته «لكنني لن أستطيع أن أرسل شيئاً لكم اليوم لأني في الطريق مع «ثورة» إلى منزل نذير. فحتى هذه اللحظة، شبلية لم تعرف أنه توفي وعلينا أن نخبرها بأنفسنا». لا ينتبه كوسا أن محّدثه ربما لا يعرف أن ثورة هي زوجته، وشبيلة هي الفنانة التشكيلية شبلية إبراهيم رفيقة درب الراحل نذير نبعة.
عانى من داء نادر في صفيحات الدم ورحل متأثراّ به
في فترة الوحدة السورية المصرية، ذهب نبعة إلى مصر في بعثة لدراسة الفنون الجميلة، وعاش أيّام بالغة الأثر في حياته، عندما كانت «أم الدنيا» تسبك يومياتها الذهبية وصحوتها الفنية والثقافية على مستويات واسعة. حينها ظفر بمعاصرة كبار المثقفين والتشكيليين وشعراء المحكية قبل أن يعود إلى دمشق شابكاً معه شبليّة ابراهيم زوجته ووليفة الأيام الصعبة والخطوات المتعثرة قبل الناجحة!
«أشعر أنني في غاية الإرباك ولا أعرف كيف لنا أن نؤنس وحدة زوجته، ونخفف من حزنها في هذا الليل الطويل» يقول بسام كوسا قبل أن يضيف: «الرجل كان له قيمة لا يمكن أن يدركها إلا من عايشه وتعرّف إليه عن قرب. قيمته الفنية وصلت إلى كل جمهوره، لكن أثره وبعده الإنساني لا يقلان أهمية أو نبلاً عن فنه. غالباً يتباين المستويان الفني والإنساني عند المبدع، لكن عند نذير كان الأمر مختلفاً لأن روحه حملت هامشاً إنسانياً واسعاً مشى بالتوازي مع فرادة فنّه».
أخيراً نرجع إلى نصير لنسأله أين وصل فيقطع علينا الطريق بجملة أرسلها مع ملف مرفق لنص مقنضب كتب عليه: «هذا ما دار في الرأس المشوّش عن مهندس اللون الأبيض».
وسام كنعان
تجربة مسكونة بهاجس تأصيل الهوية
روى التشكيلي الراحل برهان كركوتلي (1932-2003) عن إقامته القصيرة في دمشق في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، أيام “القلّة” التي عاشها مع زوجته. لم يكن يملك سوى الذهاب مساءً إلى بيت صديقه نذير نبعة علّه يحظى بعشاء. لم يعد الكركوتلي يوماً خائباً من بيت الإنسان الأصيل، الفنان الذي وافته المنية البارحة بعد مرض اشتد عليه. نذير نبعة هو واحد من رموز الفن التشكيلي السوري، ومعلم تخرجت على يده أجيال من الفنانين، ممن أخذوا عنه الفكر والرؤية والصنعة أيضاً، ليصبح بعضهم أسماء لامعة لا يتسع نصنا المختصر لتعدادهم.
ولد نذير نبعة في دمشق سنة 1938، تأثر في بداياته بالرائدين محمود جلال (1911-1975) وناظم الجعفري (1918-2015)، حيث كان يتردد على مرسم هذا الأخير، فكانت أعماله تميل إلى الأعمال التقليدية الأكاديمية. “بيت قديم” (1959) هي لوحة تعبر بامتياز عن هذه الفترة. قبل ذلك الوقت، كان يقوم برحلات مع مروان قصاب باشي (1934) إلى مدن صغيرة على أطراف مدينة دمشق كزملكا، ودوما، وداريا، ليرسما هناك الطبيعة.
درس نبعة الفنون الجميلة في القاهرة بدءاً من سنة 1964 في مرسم عبد العزيز درويش. بعد ست سنوات، عاد إلى دمشق ليغادرها مجدداً إلى بوزار باريس. بدءاً من الـ 1975، استقر بشكل نهائي في مدينته ليدرس في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة.
في بداياته، لم يخرج نبعة عن الخط الذي رسمه رواد مصر الذين مارسوا تصويراً واقعياً، محاولين إعطاء عملهم طابعاً محلياً من خلال إغناء لوحتهم برموز فرعونية، أو عناصر بسيطة من الحياة اليومية. وجد الشاب في أعمال محمود سعيد (1897ــــــ 1964) ذلك التذوق للتقاليد الشعبية للناس، الذي أسماه حينها “الهوية المصرية”. خلال هذه الفترة، تأثر أيضاً بأعمال السرياليين حامد ندا (1924-1990) وعبد الهادي الجزار (1925-1966). هذا الاهتمام بصنع هوية لعمله ترتكز إلى الحضارات المحلية، تجلى في معرضه الفردي الأول عشية عودته من القاهرة سنة 1965، فرسم انليل وعشتار والطلسم. وقد كان لعودة فاتح المدرس (1922-1999) من روما قبل ذلك ببضع سنوات، الأثر الكبير على الفنانين السوريين، من بينهم نبعة، حيث لفت نظرهم بعودته لاستلهام الإرث الثقافي والجمالي الذي سبق الإسلام. تواكب ذلك الأثر في نفس الفنان، مع إقامته لفترة وجيزة في مدينة دير الزور حيث عمل مدرساً للفنون في ثانوياتها. بدأ نبعة هناك اهتمامه الفعلي بالحياة الشعبية وبملاحم الأقدمين، ويروي كيف كان لسكون الفرات في جريانه أثر عظيم على نفسه، ذلك الجو الأسطوري الذي يجمع الأرض الخضراء والصحراء معاً.
تنقل من «الواقعية السحرية» إلى رسم الفدائي إبان النكسة، فالتجريد
إذن، كان التحول الأول لفن نبعة هو التحرر من الأسلوب الأكاديمي ليرسم بشيء من الرمزية أجساداً آدمية مليئة بالتمائم بوجوه ذات عيون كبيرة تبدو عليها الدهشة الغامضة. هذا الاهتمام بالعيون واكب أعمال نبعة طويلاً. بين عامي 1966 و1975، حاول نبعة أن يجد أسلوبه الشخصي الذي ينهل ويعتمد كأساس على الفن التقليدي المحلي. نتيجة هذه التجارب كانت الأسلوب الذي صنع شهرته، مستفيداً من مهارته في الرسم والتلوين المتأني الذي وضع لوحته في مكان لم يكن لغيره فيه موطىء قدم. الأفكار السريالية و”الطابع المحلي” الذي جلبه كفكرة من القاهرة، أصبحا المرجع الأسلوبي الذي حدد انتاجه حتى بداية التسعينيات حين تبنى الأسلوب التجريدي حتى يوم رحيله.
لوحاته في تلك الفترة كانت ذات جو ملحمي حالم يغلف الأماكن: وجوه سمراء، عناصر ومفردات من الأنتيكا والمصنوعات الحرفية المحلية والحاجات اليومية ليدهش بذلك الجمهور بمواضع أثيرة محببة لديه. لم تلبث هذه المواضيع أن تطورت لتصبح مناظر استشراقية تسكنها فتيات عاريات الصدر أو طبيعة صامتة مغرقة في الزخرفة. بورتريهات في ديكور شرقي دمشقي بامتياز وتفاصيل دقيقة لموتيفات نباتية تحتل مساحات لا بأس بها من اللوحة. “نباتات ووجه” (1974) و”تفتح الزنابق” (1974) وعازفة المزمار (1983) هي من اللوحات التي تمثل بامتياز هذه الفترة التي سماها “الواقعية السحرية”.
كغيره من الفنانين السوريين، “بدّل” مواضيعه عقب نكسة حزيران 1967 ليرسم الفدائي، الوجه الذي ظهر بعد النكسة مباشرة، على أمل أن يكون هو المنقذ أو المخلص. إلى جانب اللوحات التي صورت هذا الفدائي، رسم نبعة “مدرسة البقر”، والشهيد” الثلاثية الأشهر في إنتاج الفنان الراحل.
في مقابلة تلفزيونية تعود إلى بداية الألفية الثالثة، يعترف الفنان أنهم فهموا بشكل خاطىء شعار “اللوحة سلاح في المعركة” وقد تجاوزوه الآن، فيمكن أن تكون اللوحة لوحة ملتزمة ولو لم تصور فيها الكلاشينكوف!” وهذا درس أعتقد أنه مفيد لجيل هذه الفترة.
بطرس المعري
رحلة العودة إلى البياض
في رحلة العودة إلى البياض، اقتفى نذير نبعة نفسه على دروب التراب الرطبة، تاركاً أثره عليها بدماثة محب. هناك في «مزة» جدته، رسم للصبايا على أثوابهن المطرزة على يد والدته، فراشات وطيوراً. أغرقه فرحهن بامتنان مهيب للفن، خصوصاً بعد لقائه بثلاثة رواد للتشكيل السوري الحديث، هم ثابت قباني ومحمود جلال وناظم الجعفري. بدت له اللوحة كعتبة، يرتقيها إلى داخله ومحيطه في آنٍ معاً، فتبع لهفته بحزم العارف، إلى القاهرة حيث كلية فنون، وفنانون، منتقلاً بعدها إلى دير الزور حيث ارتقى تلك العتبة، لتصبح لوحته وسيطاً تنقل إشارات الرؤيا بين عالمين، مولدة خصوصية أثر نذير نبعة، كأنه أثره على تراب تلك الدروب الندية في حواكير المزة. كان ذلك عام 1965 في «صالة محمود دعدوش» في دمشق، حيث وجه هزة قوية للوسط التشكيلي السوري، على حد تعبير التشكيلي والناقد طلال معلا.
عام 1975 عاد من «بوزار باريس»، مقتفياً أثره، إلى دمشقه وتجلياتها، في لوحة حداثية جذبت، أنظار العامة لها وخلبتهم. وقفوا حالمين أمام الواجهة الزجاجية لغاليري «المبيض» يكتشفون دمشقهم، وربما شيخهم الأكبر محيي الدين بن عربي، في وجه تلك المرأة الباهرة المزدانة بكل ما قد يخطر على بال، باذلاً كل ما يملك من مهارة ووجدان، ليقدم لنا احتفالاً سيمفونياً مبهراً. دمشقه بوجهها الأسمر وحليها وخواتمها وورودها، لوحة سهلة صعبة لا يتمكن الحوار معها من الاكتمال، هل هي عتبة أخرى يرتقيها المشاهد هذه المرة لتطل به على عالمين فيهما عدد لا نهائي من العتبات، التي تحتاج لاقتفاء أثرٍ كي تدخله، في مذاقات دهشاتها وتساؤلاتها؟
مقتفياً أثره على التراب الندي، ارتقى عتبات المعرفة ورأى... لوّح بفرشاته، وعاد إلى بياض اللوحة، ولجها. توحد مع سرها، ورسمها... بالأبيض فقط.
نجيب نصير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد