ريم بنّا تضحـك وتحـبّ وترقـص أيضـاً
تحتار وأنت تقابل فلسطينياً في هذه الظروف ماذا ستقول له. بأي كلمات ستحييه وهو القادم للتو من الأراضي المحتلة، تلك التي تأتي منها صور تراجيديا يومية، يصعب تثبيت النظر فيها؟ مثلاً، بعد »مرحبا«، ستقول »كيفك، شو الأخبار؟«، »كيف تعيش هذه الأيام«؟ جمل كهذه ستبدو ساذجة، بمقياس الظرف، وثقيلة على كل شيء. أنت نفسك تتوجع من وقعها. أحياناً، الأفضل أن تترك الأمور تجري على سجيتها. وليكن ما سيكون.
إنه يوم آخر من عذابات غزّة، والمغنية الفلسطينية ريم بنّا على وشك تقديم حفل غنائي في دمشق. من الوهلة الأولى، من ملامحها المسترخية على ابتسامة نضرة، تخرج منك »صباح الخير« طبيعية، بدون تخطيط مسبق. تمشي مستندة على عكازين، يعينانها في التحايل على كسر في رجلها. يرافقها زوجها الأوكراني ليونيد الكسيينو، وعازف الغيتار الذي يصاحبها في حفلاتها. هو يعيش معها في مدينة الخليل، حيث كونّا عائلة، ويتحدث العربية قليلاً، باللهجة الفلسطينية. »يعيش مثله مثل أي فلسطيني« تعلق ريم. حديثها ينكّهه المزاح وخفة الدم. تتمنى عليك أن تنسى ما قرأته في موقعها الالكتروني، لأنه »قديم ويجب كتابته بطريقة مختلفة«. لا تستسيغ ريم ما كتب على موقعها من رسالة الفنانة وأهدافها، وقد وردت مثل تعدادات حزبية. تحرّجها من ذلك يتعلق بالصيغة فقط، ما عدا ذلك فالأمور محسومة جذرياً. تقول إن وجودها كفنانة وإنسانة هو لخدمة القضية الفلسطينية. هدفها وشغلها وأيّ ظهور لها تقول إنه موجود لخدمة قضيتها و»نقطة انتهى«. وتستدرك إنها تقوم بذلك ليس لكونها فلسطينية، بل لإيمانها بعدالة القضية. ولكن ماذا لو حاصرتها يوما ألقاب من قبيل مغنية القضية؟ تجيب إنه ما دامت قضية فلسطين غير محلولة، فهي لن تفعل شيئاً إلا خدمتها، »وعندما تنحل أبحث عن قضية أخرى عادلة لأدعمها«.
أعادت هذه المغنية تقديم بعض أغاني التراث، وبعضها جاء ملحناً لموسيقى الـ»روك«، وبدون مصاحبة أية آلة شرقية. هو أمر لا تقف عنده، فهي تريد »الحفاظ على التراث، حتى لو اضطررت إلى تغييره بما يلائم ذوق الشباب المعاصر، فهذا افضل من أن يضيع«.
كان أمراً متوقعاً أن ينتظر الجمهور من ابنة فلسطين تقديم أغنية تواكب ما يحدث في غزّة. لكن ريم لم تفعل. آخر همها تقديم أغاني المرحلة والظرف، وهنا تعلق: »أنا لا اشتغل بهذه الطريقة.. صارت المذبحة أخرج وأرندح؟!«. لكن هذا برأيها لا يمنع أن أغانيها يمكن أن تُسمع في ظرف أو مرحلة معينة، فعندما تغني عن طفلة شهيدة أو عن الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن أو عن المعتقلين، فتلك مواضيع تنسحب على ما يجري في غزّة أيضاً.
أغاني المناسبات لا توجد. لكن ماذا عن تقديمها الأغاني الفرحة، بإيقاعات راقصة، يرافقها الجمهور مصفقاً وراقصاً؟ هذا ما حدث في حفل دمشق، وتقديم تلك الأغاني وضع معظم الجمهور في حيرة وإحراج. في رأسه صور عذابات غزّة، وأمامه فلسطينية تغني للفرح والحب الفلسطينييْن. ماذا يفعل؟ من بادروا دونما تردد إلى تفاعل وابتهاج خلال هذا الغناء كانوا أصدقاء للمغنية، لديهم المعرفة بما ستغني والاستعداد والفهم لتلقيه. تفاعلهم المبالغ فيه أحيانا، كان ربما لكسر حالة الحداد التي رافق بها الجمهور الغناء الفرح، وأخرجه قليلاً من حالة الحيرة إلى تجاوب حذر لم يتعدّ بعض التصفيق، قبل أن يتشجع قسم جيد منهم وينضم إلى ركب المحتفلين.
بالنسبة لريم بنّا فالأمر واضح، وهي عاقدة العزم والرؤية والرهان عليه. تقول إنها لم تأت إلى دمشق لتندب ما يحدث في غزّة على مأساويته. أرادت أن تفرجي كيف هي فلسطين، بكل أحوالها. تقول منفعلة: »نحن نحب ونفرح، نحن بني آدميين. نحب الحياة كأي شعب، وكل شخص يقدّم فلسطين على أنها فقط ندب وحزن هو كذاب«. تصر أنه لو أن الشعب الفلسطيني يعيش فقط »بالبكاء والدموع واللطم« لما صمد وقاوم حتى الآن. »البكاء والندب كل الوقت هو استسلام، ونحن لا نستسلم«، تقولها بحزم، ثم تنتبه إلى تأخرها عن موعد آخر، فتعود ابتسامتها طازجة بدون أن يعلق عليها أي من غبار للحديث: »نرى وجهك بخير«، تخرج بسهولة.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد