زيارة أوباما لباريس وبرلين وإعادة ترتيب المسرح الأوروبي أمريكياً
الجمل: تضمنت جولة الرئيس الأمريكي الأخيرة تغطية المجال العربي – الإسلامي الشرق أوسطي من خلال زيارته للرياض والقاهرة، والمجال الأوروبي – الغربي من خلال زيارته لبرلين وباريس. وإذا كان جدول أعمال زيارة الرياض- القاهرة قد تضمن التفاهم حول الملفات الشرق أوسطية وتوجيه خطاب للعالم العربي الإسلامي، فما الذي تضمنته زيارة ألمانيا وفرنسا وما هي الرسائل والإشارات المعلنة وغير المعلنة وما تأثير زيارة أوباما على علاقات عبر الأطلنطي وعلى العلاقات الأوروبية – الأوروبية، وهل ترتبط زيارة ألمانيا وفرنسا بزيارة السعودية ومصر لجهة احتمالات بروز أجندة أمريكية – أوروبية (ألمانية - فرنسية) حول مستقبل الشرق الأوسط؟
* الحراك الأمريكي: التداعيات الأوروبية:
بسبب انتهاء الحرب الباردة وصعود تكتل الاتحاد الأوروبي أصبحت القارة الأوروبية تبدو وكأنها أكثر تأكيداً على علاقات التعاون ونبذ علاقات الصراع والخلاف، ولكن برغم ذلك فإن الكثير من الخلافات الأوروبية – الأوروبية ما زال موجوداً ويمارس حضوره القوي بين الحين والآخر وعلى هذه الخلفية نشير إلى الآتي:
• ألمانيا: تسعى روسيا إلى بناء الروابط مع ألمانيا على أساس اعتبارات أن قيام تحالف روسي – ألماني سيترتب عليه سيطرة محور موسكو – برلين على كل مناطق وسط وشرق أوروبا وحالياً تسعى واشنطن بكل قوة من أجل منع قيام أي تحالف روسي – ألماني.
• فرنسا: تسعى باريس إلى القيام بدور الحليف الرئيسي لأمريكا في القارة الأوروبية، وعلى هذه الخلفية فإن باريس تسعى إلى إبعاد برلين عن واشنطن وإبعاد لندن عن واشنطن أو على الأقل تهميش دورهما في علاقات عبر الأطلنطي بحيث تنفرد باريس بالقيام بدور "ورقة الطرنيب" الأمريكية في القارة الأوروبية.
حتى الآن، وبرغم صعود قوة ونفوذ الاتحاد الأوروبي فإن صراع توازن القوى داخل الاتحاد الأوروبي (بين برلين وباريس) وخارج الاتحاد الأوروبي (بين موسكو وواشنطن) لم يصل إلى صيغة مستقرة. وبسبب ذلك فإن العلاقات الأوروبية - الأوروبية داخل الاتحاد الأوروبي ما تزال تحفل بالمزيد من التوترات والخلافات وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
• دول شرق أوروبا السابقة كبولندا وتشيكيا وبلغاريا، تسعى جاهدة إلى إبعاد ألمانيا عن روسيا وذلك لأن أي تحالف روسي – ألماني سيؤدي إلى قيام محور برلين – موسكو وهذا معناه بوضوح أن النفوذ الروسي – الألماني سيصبح أمراً واقعاً في وسط وشرق أوروبا، وتأسيساً على ذلك فإن دول أوروبا الشرقية تصبح أكثر توتراً كلما حدث تقارب روسي – ألماني وأكثر ارتباطاً كلما حدث تقارب أمريكي – ألماني.
• علاقات خط برلين – باريس أصبحت تتضمن قدراً أكبر من المناورة المتبادلة فقد نجح تعاون هذا الخط في إضعاف نفوذ لندن في القارة الأوروبية وحالياً أصبحت برلين تقوم بدور الشقراء الألمانية التي تحاول إغواء موسكو من أجل الحصول على إمدادات النفط والغاز إضافة إلى الانفراد بالأسواق الروسية والشرق أوروبية وفي الوقت نفسه تحاول إغواء واشنطن لتقوم بدعم تدفقات الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة إضافة إلى دعم واشنطن لها لتقوم بدور القطب الأوروبي الرئيسي. أما باريس فتحاول القيام بدور الشقراء المخلصة لواشنطن والمستعدة للمضي قدماً وتوظيف قدراتها العسكرية والنووية من أجل بناء تحالف أمريكي – فرنسي يفرض هيمنته على القارة الأوروبية ويقسم النفوذ على بقية مناطق العالم الثالث.
جاءت زيارة أوباما لألمانيا وفرنسا للتأكيد على أن واشنطن ما تزال أكثر تأكيداً في رغبتها بالاحتفاظ بعلاقاتها وروابطها مع برلين وباريس وبالتالي يتوجب على الطرفين الاقتناع تماماً بأنه من غير المسموح لأي واحدة من الاثنتين التخلي وفك الارتباط بواشنطن.
* ماذا تقول المعلومات؟
زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما ألمانيا وتوجه إلى مدينة دريسدن حيث التقى بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتوجه بعد ذلك إلى زيارة الجنود الأمريكيين الجرحى الموجودين في مستشفى لاندشتول العسكري وبعدها توجه أوباما إلى متحف معسكر الاعتقال النازي في بوخينفالد. وتشير التحليلات بأن لكل واحدة من هذه الزيارات قيمتها الرمزية ويمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
• زيارة الجرحى الأمريكيين تفيد لجهة اهتمام واشنطن بملف الحرب ضد الإرهاب والتأكيد على التزاماتها تجاه جنودها.
• زيارة معسكر الاعتقال النازي تفيد لجهة اهتمام واشنطن بعدم السماح بتزايد موجات العداء للسامية التي برزت أكثر فأكثر خلال حملات انتخابات البرلمان الأوروبي.
• زيارة مدينة دريسدن هي زيارة رتب لها الألمان وليس الأمريكيين فقد اختارت السلطات الألمانية هذه المدينة لكي تذكر العالم وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة وروسيا بأن قوات الحلفاء قد أبادت سكان المدينة خلال معارك الحرب العالمية الثانية وبالتالي فإن اليهود ليسوا وحدهم الذين تعرضوا للقتل الجماعي وإنما الألمان كذلك وعلى أيدي القوات الأمريكية والسوفيتية والفرنسية والبريطانية.
إضافة لذلك تقول المعلومات أن ألمانيا تشهد هذه الأيام بداية الحملات الانتخابية وتتنافس القوى السياسية الألمانية هذه الأيام في طرح الشعارات والبرامج التي تطالب بضرورة فك الارتباط الألماني – الأمريكي الذي ظل قائماً على مدى الستين عاماً الماضية بما أدى إلى وضع ألمانيا تحت دائرة الابتزاز الأمريكي بسبب اتفاقية استسلام ألمانيا التي جعلت منها واقعة تحت شباك العلاقات غير المتكافئة مع واشنطن وبلدان أوروبا الغربية الأخرى.
أما بالنسبة لفرنسا فإن الرئيس ساركوزي أصبح خلال فترة ما بعد إدارة بوش أكثر وعياً بضرورة السعي من أجل:
• إضعاف برلين عن طريق إبعادها عن واشنطن.
• استغلال الفرصة الثلاثية المتمثلة في صعود إدارة أوباما وهامشية الدور البريطاني وفتور العلاقات الأمريكية – الألمانية بما يتيح لها بناء التحالف الاستراتيجي الأكبر مع الولايات المتحدة.
• بناء الروابط والعلاقات مع خصوم التحالف الروسي – الألماني الوشيك وعلى وجه الخصوص مع بولندا وتشيكيا وبلغاريا وبقية دول شرق أوروبا التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي بما يتيح لفرنسا بناء تحالف قوى الاتحاد الأوروبي بشكل يجعل من باريس الزعيم الأقوى في هذا الاتحاد.
• دفع واشنطن لجهة الإدراك بأن برلين ستتمرد عاجلاً أم آجلاً على النفوذ الأمريكي وبالتالي فإن الوسيلة الوحيدة لردع تمرد ألمانيا تتمثل في إقامة محور باريس – واشنطن باعتباره القادر الوحيد على ردع ومنع أي تمرد ألماني والقضاء على احتمالات نشوء أي تحالف روسي – ألماني.
حتى الآن لم يتضح رد الفعل الأمريكي إزاء المفاضلة بين الشقراء الألمانية والشقراء الفرنسية وعلى ما يبدو فإن إدارة أوباما ستسعى إلى المزيد من عمليات ترتيب وإعادة ترتيب المسرح الأوروبي بما يتيح لواشنطن الاحتفاظ بالقارة الأوروبية تحت غطاء النفوذ الأمريكي إضافة إلى استخدام القدرات الأوروبية في الصراع الجيو-سياسي القادم مع موسكو وبكين.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد