سعاد محمد (1931 ـ 2011)
الجمل: في مطلع عام 1954 نشرت مجلة (الكواكب) المصرية، موضوعاً صحفياً مثيراً، كتبه الصحفي اللبناني سليم اللوزي، وحمل عنواناً لافتاً: (سعاد محمد تلتجئ إلى دمشق، وتطلب الجنسية السورية!)
قدم الكاتب لموضوعه بشكل لا يقل إثارة عن العنوان الذي حمله، إذ كتب يقول: (لا أعتقد أن فنانة في التاريخ عاشت في رعب وخوف وبؤس كما هي حياة المطربة الكبيرة سعاد محمد... ومع ذلك فإن هذه السيدة الطيبة القلب، تبتسم دائماً، ويجوهر صوتُها كلما حاول الألم أن يعتصر قلبها!)
أما قصة هروبها إلى دمشق التي وجدت فيها ملاذا وملجأ، فيرويها الكاتب على النحو التالي:
(سعاد تعيش الآن في دمشق، كانت قد هربت مع زوجها من بيروت، وهي تحمل طفلها خائفة مذعورة بعد سلسلة من الحوادث الدامية التي وقعت بين زوجها وأشقائها!
وكل يوم في بيروت كانت تقضيه في ذعر وقلق ومؤامرات مستمرة.. وجدت نفسها أكثر من مرة ملطوعة في أقسام البوليس والمعركة - معركة اقتسام الأرباح- قائمة بين الزوج والأشقاء الأعزاء.. وفي الشهر الماضي وضعت سعاد محمد في دمشق طفلها الثاني.. ولولا أنها استطاعت أن تغني شهراً قبل الوضع، لما وجدت المال اللازم لمصروفات الولادة!)
بسبب هذا الوضع العائلي المضطرب، عاشت سعاد محمد مع زوجها الشاعر الغنائي محمد علي فتوح في إحدى ضواحي دمشق المتواضعة، متخفية عن أعين الباحثين عنها، وعندما سألتها مجلة (الكواكب) عن مستقبل بقائها في سورية أجابت:
(لقد قررت البقاء في سورية نهائياً، وسأطلب من الحكومة السورية أن تمنحني الجنسية... ولست أدري إذا كانت السلطات ستمنحني هذا الشرف!)
ورغم أن سعاد محمد لم تبق في دمشق طويلا، فإنها لم تغب عن مسارح سورية، ولا عن ذاكرة سورية التي منحتها الاستقرار والأمان في فترة من الفترات، فقد غنت للجلاء من أشعار الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل ومن ألحان الملحن السوري محمد محسن (جلونا الفاتحين) فتألقت وأبدعت... وحين كانت حرب تشرين عام 1973 شدَتْ برائعتها (زغردي يا شام) التي لحنها رياض السنباطي... لتؤكد صدق مشاركتها في الحدث القومي، وعمق إحساسها بالتواصل مع شعب سورية في أجلى لحظات الاعتزاز الوطني.
***
ولدت سعاد محمد في بيروت في الرابع عشر من شباط (فبراير) عام 1931 لعائلة لبنانية محافظة، وقد عرفت مرارة اليتم باكراً، فقد توفي والدها وهي في السنة الأولى من عمرها، ولم يترك لها ما ترثه سوى صوته الجميل الذي ُعرف به، رغم أنه لم يحترف الغناء.
وقد بدأت سعاد محمد الغناء في سن مبكرة جداً، حيث كانت تؤدي أغاني أم كلثوم وهي في السابعة من عمرها.. ولتعلق هذه الطفلة المبكر بالغناء قصة، ترويها في إحدى حواراتها الصحافية:
(في بداية تعلقي بالغناء كنت أتسلق سور بيتنا في منطقة "تلة الخياط" في بيروت، لأستمع إلى غناء وعزف جار لنا كان يجلس في حديقة بيته، ليعزف على عوده ويغني... وكان يملك صوتاً جميلا. كان هذا الجار شرطياً، واسمه إبراهيم علوان، وقد شاهدني ذات مرة أستمع إليه من على السور فنهرني، ومن شدة خوفي كدت أقع على الأرض من على ارتفاع ثلاثة أمتار تقريباً، وبعدها كنت أدخل الدولاب لأغني بعيداً عن أهل البيت حتى ضبطتني والدتي ذات مرة ملتبسة بجرم الغناء، فانهالت علي بالضرب)
لم تكن الأم وحدها، هي التي ترفض الغناء، بل كان الأعمام الأوصياء على تربية أولاد شقيقهم المتوفى، يقفون الموقف ذاته. ولأن الموهبة تقود صاحبها نحو انتزاع هامشه بالقوة والإصرار لترسم له مصادفة ما أو فرصة ما؛ فإن موهبة سعاد محمد قادتها نحو دروب الغناء مشفوعة بحب فطري لهذا العالم، من دون أن تدرك أنها تفتح أبواب الجحيم العائلي على نفسها في أكثر من مرحلة. مرة للحيلولة دون احترافها للغناء، وأخرى للاستيلاء على مواردها من هذا الغناء!
لم تكن سعاد محمد تمتلك تلك الشخصية القوية التي يمكن أن تجابه الرفض، أو تسبح ضد التيار... ولولا وجود شقيقها (مصطفى) الذي كان يشجعها ويمد لها يد العون والمساندة لما تمكنت أن تخطو خطوة في عالم الفن، وخصوصا أن أشقاءها الآخرين كانوا كالأم والأعمام يرفضون الفكرة بشدة!
في مسارح وملاهي بيروت بدأت سعاد محمد طفلة دون العاشرة من العمر، تغني وتطرب السامعين بصوتها الذهبي... وقد تداولت الصحافة الفنية في أربعينيات القرن العشرين شائعة مفادها أن أم كلثوم سمعت أن هناك فتاة صغيرة ذات صوت ذهبي تغني أغنياتها، فأرسلت الملحن زكريا أحمد إلى بيروت ليستمع إليها.
وبغض النظر عن صحة هذه الشائعة التي تنفيها سعاد محمد؛ فإنها تعبر بشكل أو بآخر عن الوقع الخاص الذي أحدثه ظهورها في عالم الغناء، وعن حجم المنافسة المفترضة التي كان من المتوقع أن يحدثه ذلك الصوت القوي الواسع حتى بالنسبة لقمة كأم كلثوم. على أن لقاء سعاد محمد بالملحن الكبير زكريا أحمد لم يكن شائعة بحد ذاته، فقد التقاها في بيروت في الأربعينيات، وكانت تغني في ملهى (التياترو الكبير) وتم اللقاء في بيت المطربة صباح، التي طلبت من (مصطفى) شقيق سعاد المؤمن بموهبتها إحضارها لتعرّف بها، وكان اللقاء الذي غنت فيه أمام زكريا أحمد (غلبت أصالح) فأطرب بصوتها لدرجة أنه حمل عوده وبدأ يعزف... وكانت تلك بداية تعرفها على هذا الملحن الكبير الذي سيلحن لها فيما بعد الكثير من الأغنيات.
إلا أن التحول الكبير في حياة سعاد محمد، كان في دمشق التي كانت تتردد عليها لتغني في مسارحها ونواديها الليلية، حين تعرف عليها الملحن السوري محمد محسن، وأعطاها العام 1947 أول الألحان الخاصة بها (دمعة على خد الزمن) التي حققت نجاحا كبيرا في حينه، ثم (ليه يا زمان الوفا) و(مظلومة يا ناس) وكانت جميعها من كلمات الشاعر الغنائي محمد علي فتوح، الذي غدا زوجها.
دفعت ألحان محمد محسن بسعاد محمد إلى مطربات الصف الأول في بلاد الشام، فلم تعد مجرد مطربة مغمورة تغني لأم كلثوم، بل أضحت صوتاً جديداً ومعبراً ومثيراً لاهتمام الملحنين، وخصوصا أنها أدت تلك الأغنيات بإحساس ودفء متوقدين، وعبر صوت قادر على إشباع هذه النبرة الميلودرامية في الشكوى من قسوة الزمن وظلم الناس!
***
عام 1948 هزت نكبة فلسطين وهزيمة جيش الإنقاذ العربي، وقيام ما يسمى (إسرائيل) الوجدان العربي.. وأدخلت مصطلحات جديدة في لغة الإعلام وحديث الناس، قوامها حالة الثقة بالقدرة على تحرير فلسطين وحس التعاطف مع مأساة اللاجئين التي اتخذت منحى إنسانياً خالصاً. هذه الرؤية انعكست على تعامل الفن العربي مع هذا الحدث، فانهالت الأعمال الفنية التي حاولت أن تستثمر حالة التعاطف الشعبي وحرارة الشعور القومي في ذلك الوقت.
وضمن هذا السياق جاء المخرج المصري محمود ذو الفقار إلى بيروت، ليبحث عن فتاة تقوم ببطولة فيلم يتحدث عن نكبة فلسطين... وعندما استمع إلى سعاد محمد قرر أن تكون هي بطلته، ودعاها إلى القاهرة كي تغني وتمثل في فيلم (فتاة من فلسطين) الذي لعبت بطولته أمام المخرج نفسه، وعرض في العام 1948 وآثار النكبة لم تزل ماثلة في الوجدان.
لم يكن حال سعاد محمد استثناء بالنسبة للمطربين الذين دخلوا السينما، وكانت النتيجة التي خرجت منها في هذا الفيلم: فشل في التمثيل ونجاح في الغناء... لكن سمعتها كمطربة حققت إقبالا جماهيرياً على الفيلم، الذي غنت فيه ثماني أغنيات، لحنها رياض السنباطي وكارم محمود ومحمد سلمان.. وقد اشتهرت من ألحان السنباطي أغنية (يا مجاهد في سبيل الله) وأغنية (حبيبة السماء)
تكررت تجربة سعاد محمد في السينما، ولكن بعد أربعة أعوام من تقديم فيلمها الأول، وكانت تجربتها الثانية مع المخرج هنري بركات في فيلم (أنا وحدي) عام 1952، والذي لحن لها السنباطي فيه قصيدتها الشهيرة (أنا وحدي) التي حمل الفيلم عنوانها، واعتبرت من أجمل القصائد التي شدت بها سعاد محمد في ذلك الحين، كما لحن في الفيلم نفسه لها أغنيتها الخفيفة والجميلة (فتح الهوى الشباك) التي حققت انتشارا شعبيا كبيرا في حينه.
ورغم أن هذين الفيلمين لم يحققا الشهرة السينمائية لسعاد محمد، فإنهما أكدا مجدداً على موهبتها الغنائية المتفردة وصوتها القوي القادر، وخصوصا بعد أن غنت من ألحان كبار ملحني مصر في ذلك الوقت: زكريا أحمد، محمد القصبجي، رياض السبناطي... ويذكر الناقد صميم الشريف في كتابه (الأغنية العربية) أن السنباطي قد حاول إقناع سعاد محمد بالبقاء في مصر، وإقامة حفلات شهرية على غرار أم كلثوم ، فترددت بالقبول مرجئة ذلك لحين عودتها إلى القاهرة ثانية، بسبب الأعباء العائلية التي كانت تنوء تحت وطأتها... ويضيف:
(ولما كانت أم كلثوم قد استشعرت خطراً شبيهاً بالخطر الذي مسها ذات يوم من أسمهان، فقد استعانت بمعارفها لتلفق الحادثة المشهورة في مطار القاهرة الدولي، التي اتهمت فيها سعاد محمد بتهريب المجوهرات خارج القطر المصري. والمجوهرات التي ضبطت مع سعاد محمد كانت مجوهراتها الخاصة، التي حملتها معها من لبنان عند سفرها إلى مصر، وقد اعتبر عملها تهريباً للمجوهرات بدعوى أنها لم تصرح بها عند دخولها لمصر.. ونتيجة لذلك صدر القرار الشهير الذي قضى بترحيلها ومنع دخولها إلى مصر ثانية)
وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاتهام أو دقة تفاصيله ومعطياته؛ فإن كثيرين رأوا أن أم كلثوم كانت مبالغة في خوفها وتوجسها من منافسة سعاد محمد، فرغم الإمكانات الصوتية الكبيرة التي تتمتع بها، والإحساس الفني الرائع الذي تؤدي به أغانيها فترقى بالكلمات والمعاني إلى ذرا طربية تبعث على النشوة... فإن طبيعة سعاد محمد البسيطة التكوين، والتي كانت تفتقر للحنكة والقدرة على التعامل مع خفايا الوسط الفني وإدارة صراعاته المحمومة... والتي ظلت تعوزها القدرة على تسويق نفسها وصناعة الكاريزما الخاصة بها، كل هذا يجعل من هذه المنافسة حالة واهمة أكثر منها خطراً افتراضياً محتملاً!
والواقع أن سعاد محمد التي تأثرت منذ طفولتها بنمط الأداء الكلثومي، وأقرت بالحضور الطاغي لأم كلثوم، الذي صنع مكانتها الخاصة في قمة الهرم الغنائي العربي وأحياناً السياسي، لم تسعَ في يوم من الأيام لمثل هذه المنافسة أصلاً، حتى وهي تمسك المنديل بيدها أثناء الغناء على المسرح كما كانت تفعل أم كلثوم.. وعندما كانت هذه الصورة تفسر على أنها نوع من التقليد الحرفي لسيدة الغناء العربي، كانت سعاد محمد ترد ببساطة وطيبة: لي الشرف!
***
عادت سعاد محمد إلى لبنان، وتنقلت في إقامتها ونشاطها الفني بين دمشق وبيروت خلال النصف الثاني من الخمسينيات، والواقع أنها لم تتمكن من إزالة قرار المنع المصري، إلا بعد قيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1960
خلال تلك الفترة كانت سعاد محمد قد أنجبت ستة أولاد من زوجها الأول الشاعر اللبناني محمد علي فتوح الذي رافقها وشاركها نشاطها الفني لمدة خمسة عشر عاماً، قبل أن تنفصل عنه وتتزوج في مصر ثانية فيما بعد. وعندما عادت إلى مصر كانت تحلم باستئناف نشاطها الفني على نحو يعوض فترة الانقطاع، لكنها لم تجد الطريق مفروشة بالورود... ففي السينما، كان عليها أن تقبل المشاركة غناء بصوتها فقط، بعد أن أيقنت فشلها في التمثيل... فشاركت صوتياً في ثلاثة أفلام هي (شهيدة الحب الإلهي) عن حياة رابعة العدوية، للمخرج عباس كامل عام 1962 و(شيماء) إخراج حسام الدين مصطفى عام 1972 و(بمبة كشر) إخراج حسن الإمام 1973
أما على صعيد التلحين فقد واجهت سعاد محمد موقفاً غريباً من محمد عبد الوهاب، الذي سعت للتعاون معه، إلا أنه في كل مرة كان يتذرع بأنه لم يجد كلمات الأغنية المناسبة كي يلحنها لها... وقد تحدثت سعاد محمد بعد رحيل محمد عبد الوهاب عن موقفه هذا بألم واستغراب فقالت:
(في كل مرة كنت أحدثه عن لحن، كان يقول لي إنه يبحث عن الكلام المناسب، وتكرر هذا أكثر من مرة رغم أنه لحن لأصوات أقل مني شأناً بكثير!)
لكن مقابل هذا التجاهل المؤلم من محمد عبد الوهاب، وجدت سعاد محمد إيمانا كبيراً من قمة لحنية أخرى: رياض السنباطي، الذي كان يرى أن الصوت الوحيد القادر أن يملأ الفراغ الذي أحدثه غياب أم كلثوم إلى حد ما هو صوت سعاد محمد. ولهذا لم يبخل عليها بالألحان يوماً، بل مد لها يد العون في المشروع المهم الذي قامت به بعد عودتها إلى مصر، حين دفعها إلى تسجيل بعض أعمال سيد درويش ومحمد عثمان بصوتها، والتي اشتهر منها أداؤها الأخاذ لدور (أنا هويت وانتهيت) الذي رأى النقاد أنه كان من الحالات القليلة التي عبرت فيها سعاد محمد عن شخصيتها الغنائية المستقلة بعيداً عن تأثيرات الفن الكلثومي، فقد تجاوزت في أدائه كُلَّ من أدوا هذا الدور سابقاً ولاحقاً، وحلقت فيه بمساحات صوتية لم يسبقها إليها أحد... ولكن ما كادت تظهر هذه الأعمال وتنتشر، حتى رفع ورثة سيد درويش قضية ضدها، وأرغموها على دفع تعويضات مالية كبيرة، ومنعوها من تسجيل أعمال أخرى، كان صوتها الثمين كفيلا بإعادة إحيائها بصورة مبدعة وخلاقة.
لقد كانت سعاد محمد في كل الصدمات الفنية التي تعرضت لها، امرأة طيبة ومسالمة، تعتقد أن المشكلة تكمن فقط في حظها السيئ في هذه الحياة... رغم إيمانها بفنها وبإحساسها وبقدراتها الصوتية. والأمر نفسه انعكس على حياتها العائلية التي ظلت خلال فترة طويلة من نشاطها الفني مبعث قلق وبؤس وخوف يكدر مشوارها الفني.
ورغم غياب الناصحين والمخططين الجيدين لها في أكثر من مرحلة حرجة مرت بها، فإن علاقتها برياض السنباطي التي كانت تعتبره من طينة مثالية نادرة الوجود، بقيت إحدى أبرز المرتكزات التي صنعت مجدها الفني، وخصوصا في فن القصيدة التي كان السنباطي ملكها المتوج بلا منازع... ولهذا نجده يخص سعاد محمد بمجموعة مهمة من القصائد لكبار الشعراء العرب بدءا من أحمد رامي في (أنا وحدي) وإبراهيم ناجي في (الانتظار) و(لقاء) وأبي العلاء المعري الذي غنت له (غير مجد في ملتي واعتقادي... نوح باك ولا ترنم شادي!) ناهيك عن قصائد أخرى شدت بها بألحان غيره من الملحنين
لكن سعاد محمد التي آمن بصوتها الكثيرون، كانت على موعد مع أغنيات أخرى صنعت شهرتها وانتشارها في عقود لاحقة، وخصوصا حين غنت من ألحان فريد الأطرش (بقى عايز تنساني) فتفوقت على أدائه لهذه الأغنية التي كان قد لحنها لنفسه باعترافه... أو عندما قدمت من ألحان محمد سلطان (أوعدك) ومن ألحان خالد الأمير (وحشتني)
وقد تحولت هذه الأغنيات بأداء سعاد محمد المفعم بقوة الإحساس، إلى تراث كلاسيكي حقق شهرة للعديد من المطربين الشباب الذين استعادوه بأصواتهم لاحقاً كالسوري نور مهنا، والمصري خالد عجاج... لكن من دون أن يقدموا لها ما تستحقه من اعتراف معنوي أو حتى استئذان أدبي على الأقل!
***
عاشت سعاد محمد دراماها الشخصية والعائلية على هامش حياتها الفنية، وربما كان عليها أن تعيش حياتها الفنية على هامش العصر السياسي الذي واكبته أيضا. لقد كانت سعاد محمد بالمصادفة أو بسواها، بطلة أول فيلم سينمائي عربي أنتج عن قضية فلسطين... ورغم الصبغة الميلودرامية المتواضعة والطريقة التجارية التي صنع بها الفيلم، فإن ذكر اسم فلسطين على شاشة السينما بعد أشهر من حدوث النكبة، وسماع صوت سعاد محمد العذب والصافي النبرات، وهي تغني للجهاد حينها، كان كفيلا بإلهاب أصدق المشاعر... وقد عادت سعاد لتغني للقدس في فترة لاحقة، حين قدمت قصيدتها (يا قدس) من كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل وألحان السنباطي لتبدع فيها أداء وإحساساً.
وعلى العموم سعت سعاد محمد لأن تلامس الحالة التحررية العربية التي عاصرت أفراحها وعلاماتها خلال تاريخها الفني، فغنت من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان السنباطي للسد العالي في مصر، وغنت لتونس في أعيادها من شعر أبي القاسم الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة) وغنت لعيد الجلاء في سورية (جلونا الفاتحين) مثلما غنت لحرب تشرين من أشعار أحمد أبو الوفا وألحان السنباطي أيضا (زغردي يا شام) وهي في كل هذه المناسبات والقصائد كانت تنحاز إلى حالة الاعتزاز الوطني والقومي، انطلاقا من شعور حماسي لا يستند لموقف سياسي أو رؤية راسخة، بقدر ما يواكب بصدق وحب مناسبة وطنية أو قومية هنا وهناك!!
***
لم ُتسأل سعاد محمد في أي حوار صحفي أو تلفزيوني أو إذاعي يوماً، عن الأغنية الأقرب إلى نفسها، إلا وكانت الإجابة دائما: (مظلومة يا ناس)!
كانت تغني سعاد محمد (مظلومة يا ناس) وكأنها كانت ترثي نفسها، وتستحضر وقائع وآلام حياتها على أكثر من صعيد؛ فقد ظلت تعتبر هذه الأغنية هي العنوان الحقيقي المعبّر عن شكواها من ظلم الزمن لها، ومن عدم إنصاف من حولها، ومن كل محاولات الاستغلال التي تعرضت لها في الفن والحياة.. والتي كانت تدفعها لأن ترى في نفسها (إمرأة سيئة الحظ... والسلام) وقد شاركها السنباطي ذات مرة هذا الاعتقاد حين قال:
(إن سعاد محمد تفتقر إلى الحظ... عندما تغني أمام الجمهور، تنتزع الإعجاب... إعجاباً خاصاً لا تحظى به سوى القلة من المطربات... وبعد الحفلة سريعاً ما تنسى... إنه الحظ، لو أن الحظ حالفها لتغير كل شيئ)
لكن للناقد الموسيقي كمال النجمي رأيٌ آخر، إذ يرى أن سعاد محمد كان يمكن أن يكون لها شان أعظم في عالم الغناء، فيما لو اختطت دربا مختلفاً، يقول:
(كان ممكناً أن تستقل سعاد محمد منذ عقد الأربعينيات بفنها عن الفن الكلثومي، ولكنها لم تتمكن من ذلك إلا قليلاً، ولو تمكنت سعاد محمد من إقامة حاجز واضح بين فنها الغنائي وبين الفن الكلثومي الذي يبتلع كل شيء، لكان لسعاد محمد شأن آخر في عالم الغناء)
والواقع أن جزءاً من قدر سعاد محمد الفني، قد انعكس على ابنتها المطربة نهاد فتوح، التي بدأت مسيرتها الفنية في منتصف سبعينيات القرن العشرين، من خلال برنامج المواهب الشهير (أستوديو الفن) في التلفزيون اللبناني، والذي خرج معظم نجوم الغناء في السبعينيات والثمانينيات.
لم تشجع سعاد محمد ابنتها على احتراف الغناء، رغم اعترافها بموهبتها الغنائية وبجمال الصوت والإحساس... كانت تخشى منذ البداية أن تلاقي المصير نفسه، وأن تعيش مرارة الحروب الفنية والشخصية الكثيرة التي واجهتها في حياتها... وبعد أكثر من عشرين عاماً من العمل الفني، قررت الابنة نهاد فتوح في نهاية تسعينيات القرن العشرين أن تعتزل، واتصلت بأمها في القاهرة لتخبرها بقرار الاعتزال... وقد تحدثت سعاد محمد عن هذا القرار بعد ذلك بسنوات، قائلة في حوار صحفي:
(هي أخطأت من أول الطريق، وقد نصحتها وقلت لها إن الطريق أمامها شاق... وعودتها إلى الغناء من سابع المستحيلات، بعد أن لاقت الأمرين من الفن وأهله، وقد اختارت الطريق الذي ارتاحت إليه، رغم أنها تتمتع بصوت حلو)
وهكذا لم تستطع سعاد محمد رغم سنوات الفن والمجد الذي اعترف لها به عمالقة عصرها، لم تستطع أن تشكل سنداً داعماً لمسيرة ابنتها حين قررت احتراف الغناء... وكان ذلك خير تعبير عن قلة حيلة هذه المطربة العظيمة في مواجهة تقلبات ونوائب الفن
لكن... وأياً يكن الأمر، فقد استطاعت سعاد محمد على الصعيد الشخصي، ورغم نشأتها المتواضعة، وثقافتها البسيطة، وقسوة الظروف العائلية التي عاشتها، أن تجعل من صوتها وإحساسها جواز مرورها لدخول تاريخ الغناء العربي، وإغناء روحه الكلاسيكية بنفائس القصائد والموشحات والأدوار، التي أدتها ببراعة وإتقان وفهم عميق لأصول فن الغناء العربي وقوالبه... كما استطاعت أن تتجدد بأغانيها الأخرى التي تفيض بالاشتياق والمشاعر وقيم الأصالة العاطفية، استطاعت أن تتجدد عبر حناجر مطربين شباب رددوا أغنياتها في السنوات الأخيرة وحققوا من خلالها الشهرة والنجاح!
إن سعاد محمد تمثل طرفي النقيض في عالم النساء اللواتي ارتدن آفاق المجد والشهرة، وأسهمن في صناعة ملامح عصرهن... فهي تبدو نموذجاً للظلم الاجتماعي الذي وضع لها آفاقا وحدوداً كما ترى، فحرمها من كثير من المقومات التي كانت كفيلة بأن تصنع منها ظاهرة في عالم الغناء... لكنها بالمقابل تمثل رغم هذا الظلم، حالة جديرة بالتعاطف والاحترام للطموح العفوي الخلاق، وللقدرة على العطاء و التعبير عن الذات وعن حب الحياة والتغني بها... في مساحة مترامية الأطراف... تطرب لها القلوب قبل الأسماع!
الجمل
إضافة تعليق جديد