سورية: لا شيء جديداً في ساحة المعركة
في رائعة الروائي غابرييل غارسيا ماركيز "مئة عام من العزلة" يقوي أحد ضباط الحرب الأهلية الكولومبية عزيمته، وهو يتوجه لأحد قادة الحرب التاريخيين مستجمعا "آخر قواه كي يستمر بالتحية العسكرية، ويقول: "لا شيء جديدا سيدي العقيد، و"هذا - اللاشيء جديد - كان بالذات أفظع ما في الحرب التي لا تنتهي. معناه: أن شيئا لا يحدث" سوى مزيد من الدمار والموت.
لكن رغم ذلك، ثمة نهاية ممكنة للحرب القائمة في سوريا، إلا أن أحدا لا يعرفها. ثمة ولادة جديدة ستحصل، كما هو الأمر في كل الأحداث التاريخية، لكن الجنين غامض، وما زال متكورا في رحم الأزمة. لم يشبع من الدم بعد. بعد ثلاثة أشهر يمكن للسوريين تقبل التعازي بذكرى مرور عامين على ولادة كراهية وحقد منقطعي النظير في تاريخهم المعاصر. أزمة البلاد التي تدخل العام 2013 وهي في كامل قسوتها، لا تترك لأبناء الشعب المتأذي من الحقد والحقد المضاد، ومن ثم الرد على الحقد المضاد، سوى الترحم على ما كان، كما يبدو، والتعلق ببصيص أمل، يكاد يخبو تماما.
ما من أبطال في العام الذي مضى. لم يظهر فرسان نور. في الغالب لم تتكشف الأزمة سوى عن فرسان ظلام، كانوا سوريين بالمجمل، ومن ثم أضيف إليهم ليبيون وسعوديون وشيشانيون وغيرهم من الباحثين عن الجنة المفقودة في السماء، علهم يجدونها عبر بقر بطن امرأة حامل من غير مذهبهم، أو في تفجير كنيسة.
إن كان من صامد في هذه الأزمة فهو الشعب، أو من تبقى منه. والآن يعاني الشعب من أزمات: فقدان اللقمة، الدفء، الطاقة والضوء في نهاية النفق. أي وجه من وجوه الأزمة الاقتصادية. تقول الدولة بلسانها الصريح ان خسارتها كقطاع عام لا تقل عن 40 مليار دولار. يضاف إلى هذه الأربعين ما يقارب عشرة مليارات دولار للقطاع الخاص. تضاف إلى تلك الأرقام الثقيلة أرقام دراسة أجرتها الأمم المتحدة، ولم تعمم بعد، تقول ان استمرار الأزمة عامين آخرين سيجعل وضع الاقتصاد السوري شبيها بوضع الاقتصاد الصومالي، وان انتهاء الحرب بهذا التاريخ وتأمين 60 مليار دولار فورية لإعادة الإعمار ستعيد سوريا لما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي.
أما عسكريا، فالكل قادر على توصيف الوضع، بكلمتين، أو أقل. سيئ جدا أو كارثي. صار العنف السوري يشكل مادة يومية. صور الدمار والقتال والضحايا تتدفق عبر خدمات وكالات الأنباء العالمية، التي بات تحركها الميداني في شمال سوريا وشرقها غائبا تماما عن رقابة الدولة المركزية. والواقع أن أي تقييم عسكري، لا يستطيع إلا أن يبدي دهشته من قدرة الجيش الوطني على الصمود حتى اللحظة. فبلاد تعصف بها حرب داخلية، وتكثر طبقاتها السياسية والمذهبية والطبقية، من الطبيعي أن تؤثر في بنية الجيش وروحه المعنوية وقدراته القتالية بالتالي. فكيف، إذا أضيف إلى هذا ضرورة مواجهة عشرات الآلاف من المقاتلين المتطرفين، والأجانب المؤمنين بأنهم يخوضون معركة مقدسة، وتمويل لا ينقطع بقوة ضخ النفط والغاز العربي، ناهيك بجهد استخباراتي دولي، نصبت له محطات على أرفع مستويات، وتدار بخبراء من أكثر الأجهزة الاستخباراتية تقدما. إن صمود هذا الجيش يثير الدهشة. ربما هو بحكم ضرورة الاستمرار، لأن انهياره يعني انهيار آخر ذرة أمل للسوريين بالاستفاقة على يوم ما بعد الأزمة. لأنه لن يكون. وعلى ذلك، تبقى معارك الكر والفر، التحرير والتطهير على ما هي عليه منذ عام ونصف العام.
ديبلوماسيا، ثمة من يعتقد على مستوى سوريا أنه حقق نجاحا نسبيا. تفسير هذا النجاح، يستند لإزاحة جدوى وحجة التدخل العسكري من القاموس السياسي العالمي. يشيرون لنجاح آخر، برأيهم، وهو الانقلاب الحاصل، ولو باطنيا، على المستوى الغربي في تقييم المعارضة السورية المسلحة على الأقل، والتي لم تكشف وجها جهاديا متطرفا فحسب، بل اعترفت به بين صفوفها وهاجمت تصنيفه تحت جناح المنظمات الإرهابية. يضاف إلى هذا التصنيف عنصر آخر في تراجع المطالبة الغربية بتنحي الرئيس السوري، كشرط لأية تسوية، مقدمين عليها "اتفاق جنيف" الذي يقترح صيغة مختلفة أكثر قربا من الواقع وإن كانت غير قابلة للتطبيق بعد، نظرا لرفضها من الجانب السوري بالمطلق.
إلا أن النجاح الديبلوماسي الحقيقي، والذي ليس سوى مراوحة في المكان، من دون انزلاق أو انقلاب، هو في الموقف الروسي، الذي لم يقبل أية تنازلات منذ اليوم الأول الذي رفع به الكرملين بطاقته الحمراء. "مسرحية ليبيا لن تتكرر".
أيضا على إيران، أن تدافع (عبر سوريا) عن مصيرها، الذي سيواجه بعاصفة أشد من العاصفة السورية إن فشل النظام في دمشق في الحفاظ على نفسه. لذا يوفر "اتفاق جنيف" بالنسبة لطهران وموسكو مخرجا، يحتاج أولا لموافقة القيادة السورية عليه، سواء اتفق على تعديله وفقا للملاحظات السورية أو لا. وهذا بنظر مراقبين وديبلوماسيين لن يحصل قريبا، باعتبار أن عامل الوقت يصقل صورة المواجهة القائمة بين الجيش و"جبهة النصرة" كابوس الغرب الذي يكبر.
ولا توحي قناعات ديبلوماسيين ومراقبين تجاه مستقبل سوريا بما هو أفضل. ويتفق الجميع على أن المستقبل سيئ، لكن ثمة ما هو اقل سوءا في أمر آخر. فتعدد السيناريوهات، من إعلانها حربا أهلية على مستوى أممي، الأمر الذي يفرض صيغة تعامل تنتهي إلى اقتسامات إقليمية ودولية، أساسها مذهبي ومصلحي، أو الصوملة التي تعني انتهاء الدولة المركزية، وهو ما ينذر بحرب تتوسع مع مرور الوقت خارج حدودها، أو تسوية - ليست في الأفق بعد - تنتهي إلى دولة ضعيفة تقف على شفير حرب داخلية دائمة.
لذا، كما هو الحال من أشهر طويلة، القرار يبقى في مكان واحد: ساحة المعركة. الحوار الوطني الرمزي يجري بين من يتشاركون الغرفة والشارع والحي (وأحيانا المكاتب) ذاتها، حتى وإن اختلفوا على التفاصيل، بينما تجري المعارك بين حي وآخر، تحت شعارات وأجندات إقليمية ودولية تجاوزت كل صيغة حوار ممكنة. وحدهم المقاتلون، الآن، يرسمون المستقبل الناري لسوريا.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد