صعود «الإمبراطورية» الأميركية ... وأفولها
قبل أربعة أعوام، صعدت «الإمبراطورية» كالكلمة الأكثر تداولاً في واشنطن. وربما كان نائب الرئيس ديك تشيني أول من شقّ لها الطريق، حين كتب في بطاقات معايدته بالميلاد: «وإذا كان العصفور لا يمكن أن يسقط إلى الارض من دون انتباهه (الله)، فهل يمكن لإمبراطورية أن تقوم من دون مساعدته؟».
بعدها بفترة، شجب أحد مستشاري الرئيس جورج بوش الانتقاد الذي يتعرض له من «المجتمع الواقعي»، قائلاً «لم تعد هذه هي الطريقة التي يسير عليها العالم... نحن امبراطورية الآن، وحين نتحرك، فنحن نخلق واقعنا الخاص». كما حملت مقالات مفكري المحافظين الجدد العديد من العناوين على شاكلة «قضية الإمبراطورية الأميركية».
يا للفارق الذي تصنعه حرب غير متقنة. فكلمة «إمبراطورية» لم تعد تستخدم اليوم سوى متبوعة بكلمة «مفرطة التمدد». والمكتبات باتت ممتلئة بتنبيهات ضد حماقة الإمبراطورية. وفيما لا يشك أحد في القدرة الفريدة لأميركا على نشر جيشها في كل زاوية، لكن تفجير الأشياء لا يشبه في شيء تأسيس السلطة الإمبراطورية.
لقد غاب حماس التوّاقين إلى صرح الإمبراطورية، وحلّت محلّه مخاوف الاستنزاف والهشاشة. بات الأميركيون قلقين من أن تمدد الجيش تجاوز الخطوط الحمراء، فيما تبقى بلادهم هدفاً إرهابياً. ويجب على الرئيس المقبل أن يواجه حقيقة أنه، فيما كان جورج بوش يحارب الأعداء «هناك في ديارهم»، أجهدت أميركا جيشها تاركة جبهة الداخل غير محصّنة.
خمسة أعوام على نشوء «الإمبراطورية»، خسرت خلالها القوات الاميركية أفضل ما لديها، وازدادت نسبة الجنود الذين يتركون الجيش لدى أول فرصة، فيما يحرص الجيش على احتجاز الضباط ذوي الخبرة الطويلة (11ـ17 عاماً)، قادة الجيش المستقبليين.
الأسوأ أن الجيش «الإمبراطوري» حالياً يملك نصف ما يحتاجه من نقباء، وسيكون بحاجة إلى ثلاثة آلاف نقيب ولواء (من أصل 52 ألف موجودين حالياً) بحلول عام ,2013 وذلك رغم رفع السن الاعلى للتجنيد إلى 42 عاماً، وتخفيض شروط المواصفات التعليمية وحتى البدنية. ومع 500 ألف جندي نشرتهم الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، لم يعد ثمة الكثير من الجنود للتعامل مع أي هجوم إرهابي في الداخل، أو تهديد غير متوقع في الخارج.
لكل ذلك، نجد جميع الأطراف الأميركية، يميناً ويساراً، تريد زيادة حجم الآلة العسكرية: المرشح الرئاسي الجمهوري جون ماكين يدعو لزيادة النفقات العسكرية وحجم الجيش، ونظيره الديموقراطي باراك أوباما، المعارض لحرب العراق، يريد تجنيد 100 ألف جندي آخر في الجيش.
لقد بذلت واشنطن، منذ «11 أيلول»، جهوداً جبارة من أجل تحسين الأمن الداخلي، الذي أنشأت له وزارة خاصة، وزادت نفقاته بمعدل ثلاثة أضعاف إلى نحو 40 مليار دولار في السنة. وفي ظلها عرفت مطارات الولايات المتحدة أقسى القيود على تأشيرات الدخول والجمارك وإجراءات الدخول. كل ذلك للتأكيد على أنه لن يتم التسامح البتة مع أي كارثة شبيهة بـ»11 أيلول».
لكن الكارثة أتت من مكان آخر: إعصار كاترينا، وفيه أثبتت وزارة الأمن القومي فشلها في الاستجابة السريعة لـ«الكارثة» المنتظرة، وعجزها عن التحرك فوراً في حال وقوع أي هجوم غير متوقع مستقبلاً.
وفيما تبقى الاستخبارات السلاح الأكثر اعتداداً في هذه الظروف، التي شهدت بعد «11 أيلول» أكبر إعادة هيكلة منذ الحرب العالمية الثانية، أظهر مسح إداري في أيار الماضي، أن ربع الوظائف التنفيذية في وزارة الامن القومي، وثلثها في جهاز الاستخبارات، شاغرة. وخلص استطلاع شمل 36 مؤسسة حكومية إلى أن الوظائف في وزارة الامن القومي هي الاقل إغراء، والأكثر بيروقراطية.
ورغم أن أميركا تنفق حالياً 44 مليون دولار سنوياً على الاستخبارات المدنية، ويشمل ذلك تأسيس المركز القومي لمكافحة الارهاب، الذي تصب فيه خلاصة جهود 16 وكالة استخبارات، إلا أنها أغفلت أهمية تأسيس وكالة استخبارات داخلية، أسوة بالدول الكبرى، بدلاً من تحميل جهاز الاستخبارات الفدرالية «اف بي آي» مهمتي الشرطي والاستخبارات معاً. وهو ما أضعف المنفعة المرجوة منه، وأصاب بالخلل عمليات التنسيق مع جهاز الاستخبارات القومية «سي آي ايه».
ومع انقضاء نصف عقد على الحرب في العراق، تجد الادارة الاميركية مؤسساتها شبه فقيرة بالمواهب التي كانت تعجّ بها إبان الحرب الباردة، حين موّلت مراكز الدراسات السوفياتية ودرست باحثيها اللغة الروسية.
وقد أظهرت جامعات الولايات المتحدة بطئاً في التعامل مع مسألة الإسلام العسكري في أعقاب «11 أيلول». ولم تعمد أهم كليتين للعلوم السياسية في هارفرد وستاندفورد إلى توظيف أستاذ واحد متخصص في العالم الاسلامي. ولحظت لجنة «11 أيلول» عام 2002 أن الجامعات الاميركية لم تخرّج سوى ستة طلاب في اللغة العربية. وبعدها بأربعة أعوام، أظهرت «مجموعة دراسة العراق» أن السفارة الاميركية في العراق لا توظف سوى ستة أشخاص يتكلمون العربية بطلاقة.
بعد خمسة أعوام على صعود «الإمبراطورية الاميركية»، ها هو الداخل يشي بهشاشته. وفيما لا توحي الادارة بأية نية للتقهقر من أجل حماية معقلها غير المحصّن، تواصل النقمة الشعبية ارتفاعها، والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية تدهورها، فيما كادت الكلمة تختفي، أو هي اختفت بالفعل، من منابر واشنطن الفخورة.
المصدر: السفير (نقلا عن «الإيكونوميست»)
إضافة تعليق جديد