صورة الإلهيِّ في الدين الإسلاميِّ: جناية الفقهاء والمتكلمين على الإسلام
يرى د. أحمد سالم أننا نعيشُ في مجتمعاتٍ تراثيَّة يحكمها الماضي؛ فما زال السلفُ يحكمون حاضرَنا من قبورِهم رغمَ مجاوزة الزمان إياهم. لقد رضي العقل المسلمُ المعاصرُ أن يقدِّمَ استقالتَه لعقله، وارتضى السلفَ حاكمًا ومفكِّرًا عنه!
لهذا السبب يظلُّ التراث الإسلامي حاضرًا على الدوام، مانحًا المسلمين هُويَّتهم، محددا طرائق تفكيرهم، مؤثرًا في طريقة رؤيتهم للعالم، إنَّ “التراث يؤثِّرُ سلبيًّا في حياتنا في طريقة تعاطي المسلمين مع مُسْتَجَدَّاتِ العصر”.
كان العقلُ التراثيُّ عقلًا تبريريًّا ورثناه؛ لا يمكنه التعاملُ مع أي مُعطىً إلا من خلال منطق المشروع وعدم المشروع، المحرم والمباح؛ فلا بدَّ أن نبحثَ عن المقابل الشرعيِّ لكل ما هو حديث في تفكيرنا. هذا المنطق أدَّى إلى أن يكونَ العقلُ المسلمُ عقلًا معياريًّا يتعاملُ مع المعطياتِ من منطلق الاستعلاء.
هذا الاستعلاء الذي قاد الإنسانَ العربيَّ إلى حالة فصامية يعيشها في حياته اليومية، وأصبحنا “على هذه الأرضِ ننظر إلى الآخر الغربيّ نظرة استعلائية قوية بأنه كافر في الوقتِ الذي صرنا عبيدًا لكل منتجاته التي نستهلكها كل يوم؛ فنحن نسبُّ الغربَ ونشتهيه في نفس الوقت”.
“[إننا] ما زلنا نفكر بمنطق القبيلة والعشيرة، وما زلنا نُقَيِّمُ بآليَّاتِ الفقهِ القديم”.
العنف الديني وسببه
ولأنَّ الدينَ ركيزة أساسية في تاريخ مجتمعاتنا الإسلامية إما للتقدم أو التخلف؛ يحاولُ د. أحمد سالم في كتابه (تَجَلِّي الإله – جدلية الإلهيِّ والإنسانيِّ في الثقافة الإسلامية) دراسةَ مفهوم الإله في الدين الإسلامي وكيف يتجلَّى في العقيدة والفقه والتصوف.
إن السؤال الذي يحاول الإجابة عنه هو: “ما على الأرض بشر يُمارس العنف وينطق بأنه يمارس العنف تحت توجيه الإله؛ فأين الإلهُ من كلِّ ممارسات العنف تلك؟”.
يرى الكاتبُ أنَّ تعاليمَ الدين، أيّ دين، حينما تنزل على الأرض فإنها تنزل بلغات مختلفة وبصور وأشكال تناسبُ أفهام البشر وبيئاتهم وثقافاتهم؛ لهذا كان الدينُ إنسانيًّا بامتياز وإنْ كان رسالة من خالق البشر إلى البشر، وليستِ القراءاتُ الدينية التي تؤدِّي إلى كلِّ هذا العنف الديني إلا دليلًا على إنسانيَّته تلك.
“كيف يتمُّ تحويل الدين عبر قراءاته إلى أشكال من العنف والصراع متعددة ومتفاوتة؟ إنَّ ذلك يأتي من تعدُّدِ طبقاتِ فهم المقدس وتنوعها؛ فإنَّ فضاء المقدس مفتوح وليس مغلقًا يتنوع بتنوُّعِ الثقافات والأزمنة”.
جاءَ الدينُ في أساسه ليروي الظمأَ الأيديولوجي للإنسان بتعبير عبد الجبار الرفاعي، وتأتي محنتُه عندما يتم ترحيله من المجال الأنطولوجي إلى المجال الأيديولوجي، ومن هنا بدلًا من أن يكون اللهُ طريقًا للهداية يصير طريقًا للخراب والدمار.
أزمة الدين مع رجال الدين
يرسمُ الكاتبُ صورةَ رجالِ الدين في الإسلام صورة كهنوتيَّةً؛ فرغم أنهم يَدَّعُون دائمًا أنه لا كهنوتَ في الإسلامِ إلا أنهم أقاموا لأنفسهم سلطة دينيَّة عظيمة؛ “لأنهم وحدهم القادرون على فكِّ طلاسم [النصوص الدينية]، وتفسير رموزها”.
إنَّ رجالَ الدين وهم يملكون تلك السلطة على حياة الناس ورقابهم باسم الدين قد قيَّدُوا وجودَ التسامح في الرسالة الإسلامية لحسابهم تفسيراتهم العنيفة ومنظورهم الضيِّق.
يضرِبُ أحمد سالم مثالًا على ذلك بآية “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” التي بدلًا من أن تكون دليلًا على حرية الاعتقادِ والممارساتِ الدينية أصبحت على أيدي رجال الدين منسوخة مُعَطَّلَة!
لقد دفع محمود محمد طه حياتَه ثمنًا لذلك؛ إذ كان يرى أنَّ آيات القتال في القرآن المدني لا تنسخ آياتِ التسامحِ (كآية نفي الإكراه في الدين) في القرآن؛ لأنَّ آيات التسامح هي أصل الرسالة، وليس القتال والعنف، ماذا حصل بعد ذلك؟ أُرْدِي قتيلًا بتهمة الردَّة عن الإسلام!
جناية علماء الكلام والفقه على الدين الإسلامي
علم الكلام
“اصطبغ كل مذهب بطابع القداسة على نفسه، وصار يَدَّعِي امتلاكَ الحقيقة المطلقة في تصور الدين وتصور الألوهية”.
تجلَّى الله في صور عديدة في مدوَّنات علم الكلام وتاريخه، وانقسمَ المسلمون على أنفسهم فرقًا كثيرة ترى كلُّ فرقة أن صورة الله لديها هي الصورة الصحيحة التي لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها، وأصبح اللهُ لدى كل طائفة يخصهم وحدهم بالنجاة.
“انتقل الدينُ عبر علماء الكلامِ إلى تفسيراتٍ متعددة مذهبية مغلقة؛ تكشف في الحقيقة عن تعدد الفهم الديني، وتعدد أشكال التدين، وتعدد صور تجلي الله لمختلف المذاهب والمِلَل، ومن ثم فقد سار الدينُ من خلال الخلاف العقائدي حول أشكال التديُّن طريقًا للصراع”.
أينَ المشكلة إذن في نظر الكاتب؟
تكمنُ المشكلة في الحقيقة “في اعتقادِ النسبي (العقل البشري) بأنَّه أدرك المُطْلَق (الله) بالمطلق (أحاط به)، وأنَّ إدراكه هو الإدراكُ الصحيح الذي يملك حقيقة الدين، وحقيقة صورة الإله”.
“لقد أُنْزِلَ اللهُ من السماء إلى الأرض؛ ليكون سبيلًا للصراعِ بين الفرق الدينية؛ فالكل ينسب وجوده إلى الله”.
لقد كان أولُ خلاف بين المسلمين خلافًا سياسيًّا؛ إذ اختلفوا في مسألة الإمامة اختلافًا عظيمًا جعل كل فرقة تُحاول إيقاف الله بجانبها، وإنطاقه لصالحها، وبذلك اعتُبِرَ اللهُ طرفًا أصيلًا لدى الجميع، وأصبح لعلم العقيدة دلالة سياسية دائمًا، وخرج عن كونه مجردَ خلافٍ لاهوتيٍّ بين المسلمين إلى كونه أداةَ تفتيتٍ وصارع وتأصيل للخوف بين الجميع!
الفقه وأصوله
“منح علم الأصول البشريُّ سلطةَ الحديث باسمِ الإلهيِّ على الأرض عبر اجتهادِه”.
أما إذا ما انتقلنا إلى الفقه وأصوله؛ فإننا نجد كلمة الله لا بد أن تحكم سير الإنسانِ في كل حركاته وسكناته. لقد أرسى الفقهاءُ لأنفسهم سلطة كهنوتيَّة عن طريق أصول الفقه؛ إذ يُمْنَحُ القرآنُ السلطة التشريعيةَ الأعلى، وتأتي السنةُ النبويةُ بعدها شارحة ومفسِّرة ومُشَرِّعَة كذلك، ثم يأتي الإجماع والقياس بعدهما مُعَمِّقًا دورَ الفقهاء في إنتاج الأحكام الشرعية.
“وعلى الرغم من أنَّ القياسَ أو الاجتهادَ عمل بشري وضعيّ خالص إلا أنَّ علمَ الأصول قام بإلحاق القياس والاجتهاد بالكتاب والسنة، وجعلَ من اجتهاداتِ العلماء أو الفقهاء في الإسلام صبغة قداسة من قداسة الكتاب والسنة”.
توسعتِ الأحكام الفقهية بسبب أنَّ حركة الإنسانِ لا متناهية، وحتى يظلَّ الفقه الإسلاميّ حاضرًا وحاكمًا لحركة الاجتماع البشري دائمًا، و”سعى الفقهاءُ عبر الفقه إلى الحضور الدائم والمتجدد بسلطة التشريع”.
أدَّى هذا الحضورُ إلى اهتمام الناس بشكلانية الدين والابتعاد عن جوهره وباطنه، “وكانت جناية الفقه على الإسلام أنه خلق دينًا على دين”، وما زاد الطينَ بِلَّةً تشريع الأحكام من أجل خدمة أغراض سياسية، و”سعي السياسيّ نحو تحقيق مصلحته الضيقة بتوظيف الدين من أجل وجوده واستمراره”.
“وقد أصبحنا بسببِ تركة الفقهاء الثقيلة نمارسُ الإيمان شكلًا دون مضمون، ومبنىً دون معنىً، وصورة دون حياة”.
التصوف
“انصبَّ المتصوفةُ على معركتهم مع ذواتهم، ولم ينشغلوا بذواتِ الآخرين، كانوا حريصين على التسامح مع الأديان والمِلَلِ والثقافات المغايرة”
وأخيرًا يأتي التصوُّف الذي حاصره الفقهاءُ مُقَدِّمًا صورة للإله على أنه مَحَلٌّ للحبّ. وجدَ المتصوفةُ الناس يتكالبون على الحياة، ويتصارعون على السلطة؛ فآثروا بناء طريق جديد لا يكونُ الله طرفًا مُنَازِعًا فيه.
*لقد اكتشف الصوفيةُ أنَّ المعركة الحقيقة ليستْ من أجل الله، بل مع الإنسانِ نفسه شهواتِه ومطامعه التي ينبغي فهمُها والسيطرة عليها، ومن أجل ذلك بدتِ الألوهية إيجابيةً في التصوف الإسلامي، وكرَّس الصوفيةُ أنفسَهم من أجل تطهير أنفسهم والفناء في الواحد الذي لم يُدْخِلُوه في صراعاتِهِم ومعاركهم، :ولم يُنْزِلُوه من عليائه إلا ليحلَّ في قلبهم”.
عبد العاطي طلبة - المحطة
إضافة تعليق جديد