ضربــات قاســية فــي ســمائنا الخجولــة.. قصائــد لجــان جينيــه
ستصادف هذا الشهر، الذكرى المئوية الأولى لميلاد الكاتب الفرنسي جان جينيه، الذي سيبقى واحداً من كبار كتّاب فرنسا في القرن العشرين. تحلّ المناسبة لتعيد تذكيرنا (إذا ما تناسينا) بصاحب هذا الوجه المتعدد: المدهش والمقلق، الذي عرف أكثر من غيره كيف يعجن اللغة الفرنسية ويمجدها على طريقته الخاصة.
وحين نتحدث عن جينيه، نتذكر دوماً، صاحب المسرحيات الكبيرة التي أسست لحالة خاصة في المسرح الفرنسي، كما نتذكر صاحب الموقف الفلسطيني، الذي منذ العام 1970 ولغاية رحيله عام 1986، لم يتوقف عن مرافقة الفلسطينيين في معركتهم من أجل حقهم ووجودهم، ليكتب عنهم الكثير من الصفحات الجميلة، وبخاصة في «أسير عاشق» (ترجمه إلى العربية كاظم جهاد)، كما نصه الموسوم «أربع ساعات في شاتيلا». فكما كان يقول، لم يحسن أحد استقباله إلا تلك النسوة وهؤلاء الرجال الذين طُردوا من منازلهم وحُرموا من بلدهم.
ومع هذه الكتابات، «نتناسى» أحيانا أن جينيه بدأ حياته الكتابية كشاعر، حيث نشر بعض الدواوين الصغيرة الحجم والتي كان كتبها في السجن، وهو لم يعد إلى هذا النوع الكتابي في ما بعد، على الرغم من أن هذا «الوحي» الشعري يجتاز عمله بأسره. فعبر هذا الشعر، بدأ جينيه يكشف عن هذه الشخصية الغنيّة والمعقدة، أيّ شخصية هذا الرجل و«هذا الصبي» الذي كانه وهو في الثانية والثلاثين من عمره.
احتفاء بهذه الذكرى المئوية الأولى، أحيت – منذ فترة وجيزة – المراكز الثقافية الفرنسية في كلّ من نابلس والقدس وغزة ورام الله، قراءات شعرية ألقى فيها الممثل الفرنسي رجب ميتروفيستا، قصائد للكاتب الراحل، وهي نصوص مستلّة من كتبه «المحكوم بالموت»، «مسيرة مأتمية»، «نشيد حب». والعرض هذا، من المفترض أن يقوم بجولة في بعض دول البلقان، وفرنسا، والمغرب ولبنان، إذ تستمر الاحتفالات بجينيه لغاية منتصف العام المقبل، 2011، إذ تصادف الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله.
العرض الذي جاء بالفرنسية، حمل ترجمة بالعربية لقصائد جينيه موقعة باسم الزميل اسكندر حبش، عرضت على شاشة خلفية في عمق المسرح، نختار بعضا منها، لنعيد نشرها هنا.
وتجدر الملاحظة، أن القصائد التي اختارها رجب ميتروفيستا لا يحافظ فيها على سياقها الأصلي، بل عمد إلى عملية مونتاج، دامجا لمقاطع من مختلف دواوين جينيه، راغبا في ذلك أن يحافظ النص المقروء «على لحظات التوتر التي تجتاز النصوص» وحيث «يتجاور العنف والحنان، المقدس والدنيوي..» على قول غوتييه موراكس، مدير العرض الفني. هنا الترجمات كما جاءت في العرض، وهي لم تحمل أي عناوين.
تبقى قليل من ليل في زاوية تَفسُدُ
شرارةٌ بضربات قاسية في سمائنا الخجولة
(شجرات الصمت تستدرج التنهدات)
وردة المجد على قمّة هذا الفراغ
خائن هو النعاس حيث يحملني السجن
وأكثر إبهاما في أروقتي السرّية
يضيئون البحّارة الذين يتركون جميلات ميّتات
وهذا الغلام المتعالي الذي يمرّ في عمق غاباته.
الهواء الذي يُدحرج قلبا على بلاط القصور
ملاك ينتحب معلقٌ على شجرة،
عمود اللازورد يفتن الرخام
يفتحون في ليلي أبواب النجاة.
عصفور مسكين ينفق وطعم الرماد،
ذكرى عين غافية على الجدار،
وهذه القبضة الأليمة التي تهدد الأفق
تُنزل وجهك في راحة يدي.
هذا الوجه أقسى من قناع وأخفّ منه
وأثقل على يدي من أصابع اللص
التي تسرق الجوهرة ، يغرق بالدموع.
غامق ومتوحش، باقة خضراء على رأسه.
وجهك قاس: يشبه راعياًَ إغريقياً.
يبقى مرتعدا في راحتي يديّ المغلقتين
فمك فم ميتة حيث عيناك من ورد
وأنفك كرئيس الملائكة، قد يكون هو المنقار.
الجليد الذي يشتعل ذو حياء خبيث
يذرو شعرك بكوكبة من فولاذ واضح،
يتوج جبهتك بأشواك شجرة الورد
أيّ ألم عال أذابه فيما لو غنّى وجهك؟
قول لي أيّ شرّ مجنون يُشظي عينك
بيأس أعلى من الألم النافر،
متيم، شخصيا، زين فمك المستدير
بالرغم من دموعك المتجمدة، بابتسامة حزن؟
لا تنشد هذا المساء «أقوياء القمر»
يا صبياً من ذهب كن بالأحرى أميرة برج
حالمة كئيبة من حبنا المسكين؛
يا حبي، يا حبي هل ستسرق المفاتيح
التي ستفتح لي السماء حيث ترتجف الصواري
من أين تبذرُ، أيها الملكي، هذا الاغتباط الأبيض
الذي يثلج على صفحتي، على سجني الصامت:
المروعة، الأموات في زهور الليلك،
الموت مع ديكته! أشباحه كعاشق!
على قدميه المخمليتين يمرّ حارس جوال.
أرح في عينيّ المجوفتين ذكراك.
يمكننا أن نهرب عبورا من السقف.
يقال إن غويانا هي أرض ساخنة.
آه يا هدوء السجن المستحيل والبعيد!
آه يا سماء الجميلة، آه أيها البحر وأيها النخيل
الصباحات الشفافة، المساءات المجنونة، الليالي الهادئة،
آه أيها الشعر المشدود ويا جلود الشيطان.
تغلِقني في داخلي وإلى الأبد
زلتي وأنا في العشرين!
حركة واحدة عينها، شعرها بين الأسنان:
ينفتح قلبي والخطأ بصرخة فرحة
يسجنني داخله.
بالكـاد أغلــق بكثــير من الطيبة
هذا الباب الخبيث
ها أنت تعود.. يؤرقني كمالك
وأسمع اليوم حبنا يُروى
في فمك الذي يغني.
هذا التانغو المطعون الذي تستمع الزنزانة إليه
تانغو الوداع.
أهو أنت يا سيدي على هذا الهواء المشع؟
ستُقطع روحك بطرقات سرية
كي تهرب من الآلهة.
أيها الراعي انزل من السماء حيث تنام نعاجك
(لزغب الراعـي أهبك شتاء جميلا)
تحت تنفسي إن كان عضوك من صقيع
ينقذه الفجر من هذه الثياب الهشة.
هل المسألة في أن نحب عند شروق الشمس؟
لا تزال أناشيدهم تنام في حلق الراعي
لنرفع ستائرنا عن ديكور الرخام هذا
وجهك المضطرب مرشوش بالنعاس
يكبلني عفــوك وأستدير من العين
باخرة جمـيلة مزينة لعرس الجُزُر
وللمساء. صارية مرتفعة. شتيمة صعبة
يا محيطي الأسود ثوب مأتمي الكبير!
رأينــاك تطلــع محمولا بالجنون
إلى أكاليل الحديد العالق بشعر الرأس
في هذا اللعاب الذي من لؤلؤ والورود المُتسخة
الذراعان مفتولتان إذ أُخِذَتا حيتّين.
بالكاد عدت لتحمل إلينا ابتسامتك
ومن ثم اختفيت سريعا حتى ظننتُ
أن عفوك النائم وبدون أن يقول لنا، كان يملك
ولأجل وجه آخر، سماوات أخرى مجتازة.
من جسدك المنحوت جيدا على طفل عابر
ألمح اللمعان أرغب في الحديث إليك
لكن حركة منه، دقيقة منه، تمحوك
وتغرقك في أبياتي حيث لا تستطيع الهرب.
ترجمة/ اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد