عبد الله العروي.. المنهج والقطيعة المعرفية
يُعد المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي أحد أكثر المفكرين العرب المعاصرين إثارة للجدال، وتميز بخلاصته حول «القطيعة المعرفية» مع التراث العربي والإسلامي وانشغل بهموم الحداثة وإشكاليات النهضة العربية.
ولد العروي في مدينة أزمور (1933) ودرس في مدارس الرباط وأكمل تعليمه في جامعة السوربون (فرنسا) في معهد الدراسات السياسية (باريس). حصل على شهادة العلوم السياسية عام 1956 وعلى شهادة الدكتوراه عام 1976 عن أطروحة تحت عنوان «الجذور الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830-1912»، وهو عضو الأكاديمية الملكية في المغرب وفي المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
وضع العروي عدداً من المؤلفات التي شكلت بصمة معرفية مهمة في الفكر العربي الحديث نذكر منها: «مجمل تاريخ المغرب» (1984)، «ثقافتنا في ضوء التاريخ» (1984)، «الإسلام والحداثة» (بالفرنسية) 1986، «إسلاموية، حداثوية، ليبرالية» (بالفرنسية)، (1997)، «السنّة والإصلاح» (2008) و «من ديوان السياسة» (2010). اهتم أيضاً بالرواية فنشر «الغربة واليتيم» (1984)، «الفريق» (1986) و «غيلة» (1998).
عرب العروي في العامين الماضيين «تأملات في تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط (2011) لـ «مونتسكيو»، و «دين الفطرة» (2012) لـ جان جاك روسو.
تعددت اهتماماته البحثية، فكتب في التاريخ والبيداغوجيا والفلسفة والأدب والرواية، وأرسى كمفكر ومنظّر نظريات جريئة لعل أهمها مقولته حول «العقل الموروث» فوجّه نقداً للعقل العربي التراثي، معتبراً أنه «أصل الإحباط» بسبب طابعه السكولائي الاجتراري Scolastique، وهذا ما أكده محمد أركون، الذي خلص إلى أن استمرار هذا العقل الممتد منذ القطيعة مع التراث التنويري هو السر في تخلفنا، من دون أن يطالب بطي الصفحة معه، علماً أن صاحب «نقد العقل الإسلامي» دعا إلى ممارسة القطع مع العقل التأصيلي ورفض القطيعة مع العقل الإسلامي ككل. (أنظر: الفلسفة والمدينة أعمال المؤتمر الفلسفي اللبناني - العربي، المركز الدولي لعلوم الإنسان، جبيل، 2013).
شكل كتاب «L’Idéologie Arabe Contemporaine» (1967) الذي نقل إلى اللغة العربية عام 1970 «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» مدخلاً لبروز مشروع عبدالله العروي الفكري الذي أعقبه بأطروحتين «العرب والفكر التاريخي» (1973) و «أزمة المثقفين العرب» (1974). في هذا الكتاب عاين معضلة التأخر التاريخي عندنا، وقام بتشخيص الأزمة الثقافة العربية انطلاقاً من تأرجحها بين المنطق السلفي والمنزع الانتقائي.
اعتمد عبد الله العروي في مقاربته وتأويله للتاريخ العربي على مناهج عدة من بينها «منهجية التأسيس للمفاهيم» (أو ما يسميه «التاريخ بالمفهوم») التي رأى إليها «مفاهيم اجتماعية تاريخية تتغير باستمرار». وقد بلور منهجه في سلسلة أبحاث مثل: «مفهوم الإيديولوجيا»، «مفهوم الحرية»، «مفهوم الدولة»، «مفهوم التاريخ»، «مفهوم العقل».
اعتبر العروي أن وضوح المفهوم مسألة ضرورية لفهم الواقع من أجل التخلص «من التساؤلات الزائفة» وقال: «إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير فحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء.
لهذا السبب نحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي، آخذين المفاهيم أولاً كشعارات تحدد الأهداف وتنير مسار النشاط القومي. وانطلاقاً من تلك الشعارات نتوخى الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من جهة ونلتمس من جهة ثانية حقيقة المجتمع العربي الراهن» (مفهوم العقل: مقالة في المفارقات)، أي أن العروي يدرس المفاهيم في حركتها التاريخية.
وإلى جانب البعد التأسيسي للمفاهيم تأثر إلى حد ما بما أتت به مدرسة الحوليات الفرنسية من دون أن يتبنى الرؤية البنيوية للتاريخ، بمعنى أنه لم يأخذ بإطلاق بروديل للمدة الطويلة. (أنظر: الخراط، محمد: تأويل التاريخ العربي، المركز الثقافي العربي، 2013).
استند العروي بشكل أساسي على المنهج «التاريخاني» (أي المنهج المادي التاريخي والفكر الماركسي) الذي هو عصارة تركيبية لخلاصات أعمال كارل ماركس ولينين وأنطونيو غرامشي. جعل من «الماركسية التاريخانية» أفضل مدخل لفهم وتفكيك ودراسة التاريخ العربي. وحدد مقومات التاريخانية Historicisme بأربعة: ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل) ووحدة الاتجاه (الماضي - المستقبل) وإمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس) وإيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن). ومن أجل توضيح منهجه يقول: «بما أن التاريخانية حدت بفلاسفة الغرب إلى الانكباب على تاريخ مجتمعاتهم وحضاراتهم فإنها عندي دليل يحيلني على مجتمعي وتاريخه... التاريخانية ليست تصوراً مغلقاً تركن إلى الزمن بشكل جامد بل هي دعوة صريحة للعودة إلى الماضي وقراءته بشكل موضوعي لفهم الحاضر. هذا الحاضر الذي يتسم اليوم بوجود أنموذجين مختلفين للمجتمعات، أطلقت اسم التاريخانية على وضع ثقافي معين هو التخلف».
يخلص العروي إلى أن تخطي الانسداد الحضاري عند العرب ومعالجة معضلات النهضة تقتضي الأخذ بفكر كارل ماركس الذي يمثل بالنسبة له الحداثة بكل مظاهرها «الدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسات الثورية الرامية إلى إخراج البلاد غير الأوروبية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة. ليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة استطلاع التاريخ الواقع. وهي المبرر الوحيد لحكمنا على السلفية والليبرالية والتكنوقراطية بالسطحية وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه» (مفهوم الأيديولوجيا، ص 125).
ينقد العروي دعاة الاتجاه التوفيقي بين الإسلام والحداثة ومن بينهم الإمام محمد عبده، داعية التوفيق بين الإسلام كدين مبني على العقل، وأخذ عليه أنه قيد أفكاره بالأمور العقائدية ولم ينتبه إلى الظروف التاريخية التي أثرت في شروط تقدم المجتمعات الغربية، وهو لم يقر بالتغيير الذي أتت به الحداثة، والعقل الذي قصده عبده، ذلك المتعلق بالخطاب اللاهوتي في القرون الوسطى، أي ما هو عبارة عن عقل مجرد ونصّي؛ وهذا هو الأمر وفقاً للعروي فشل عبده في فهمه. وتالياً فإن القول الزاعم أن الإسلام هو دين العقل إضافة إلى أنه دين الحداثة والتمدن لا يمكن أن يؤدي دور المؤسس لعلمية تحديث المجتمعات الإسلامية.
والسبيل الوحيد في رأي العروي إلى فتح المجال أمام التغيير والتقدم الحقيقيين هو الابتعاد الحقيقي عن مفهوم القرون الوسطى للعقل، وعن الموروثات التي تأتّت عن هذا المفهوم. ويقول بشكل واضح ينبغي أن يكون التجديد الفاعل خلاّقاً أكثر مما هو مقلد. (كساب، إليزابيت: الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن، مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
اشتهر العروي بدعوته إلى القطيعة مع «العقل التراثي» لأنه بهذا الفعل يتمكن من تجاوز الإحباط الذي ولدّه فيه العقلان التراثي والنهضوي (أنظر: المصباحي، محمد: «العقل والمدينة عند الجابري وأركون والعروي ونصّار، ضمن كتاب الفلسفة والمدينة). الاستمرارية بالنسبة إليه «مفهوم أيديولوجي» لذا ومن أجل تخطي «التأخر التاريخي» وتجاوزه لا بد من القطع «وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية، لا يفيد فيها أبداً النقد الجزئي، بل ما يفيد هو طيّ الصفحة... وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية... مَن نفى أو تجاهل ضرورة القطيعة أصبحت جهوده تحقيقية تافهة».
لقد طبق العروي التاريخانية على مسارين: تحقيق القطيعة المعرفية مع التراث، واستيعاء الحداثة، وندد بالتردد وعدم الحسم والقطع مع العقل التراثي/ الأصولي داعياً إلى تبنى أنموذج العقل الحداثي التنويري.
ريتا فرج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد