عقوبة المدينة لفجور الدولة
قيل عن دبي أنها مدينة مصطنعة؛ كل مدينة اصطناع يصنعها الإنسان، يُنشئها مستخدماً أشياء طبيعية لإنتاج أشكال يمكن استعمالها للسكن وللعمل. قيل عن دبي أنها أنشئت في الصحراء. تستحق الصحراء مدينة أو مدناً. خلال التاريخ بنيت مدن في الصحراء. العيش في الصحراء ممكن إذا عرف الإنسان شروط الصحراء. كما العيش في غير الصحراء ممكن إذا عرف الإنسان شروط غير الصحراء. هناك مدن خاوية تركها أهلها في الصحراء وغير الصحراء. ما خلت الصحراء من السكان عبر التاريخ؛ لكل صحراء شروط التوازن. إذا أخلّ بهذا التوازن يكون الخراب أو نهاية المدينة في البقعة المعنية. الشيء نفسه ينطبق على كل بقاع الأرض. في المناطق المروية كما في مناطق الزراعة البعلية، يمكن الإخلال بشروط التوازن البيئي، والأهم من ذلك يمكن الإخلال بشروط العمل الإنساني، النشاط الإنساني المنتج. ومتى وصل ذلك إلى حد تزيد فيه المسحوبات أو المستهلكات من الموارد الطبيعية والبشرية عما يفوق المتاح منها، تنهار الحضارة. تنهار المدن والأرياف. وكم من حضارة خربت وتلاشت عبر التاريخ في مختلف بقاع الأرض.
العيب لا يتأتى من الطبيعة. سواء كانت صحراوية أو غير صحراوية. وليس من الإنسان الذي يعمل على الطبيعة لإنتاج ما يفيدها للعيش. بل من النظام الاجتماعي الذي يؤدي إلى اخلال التوازن البيئي، إلى إخلال التوازن بين الإنسان والبيئة؛ فيصير الإنسان والطبيعة ضحيتين لهذا الإخلال. النظام الاجتماعي السائد في العالم اليوم هو نظام رأسمالي معولم. رأسمالية ميزتها التدفقات المالية والبشرية وتدفقات الموارد، أو ما يسمى التجارة والاستثمارات العالمية. تخضع هذه جميعها للمضاربات التي تتفاقم عند الأزمات الى حد التدافع والهلع. وهذا ما يجري الآن في كل أنحاء العالم ويسبب انتقال الأزمة المالية من منطقة الى أخرى. لا ننسى أنه منذ عامين تقريباً انفجرت الأزمة. أول ما انفجرت، في أغنى وأقوى مناطق العالم، في الولايات المتحدة التي ما زالت تنهار. ما يحصل في دبي، وفي هذه المنطقة هو نتيجة لما يحصل في بقية العالم. هو نتيجة لأن الأزمة تبدأ عند الأقوى والأغنى وتمتد إلى الأضعف والافقر.
ما كتب عن دبي في الأيام الأخيرة بعد انكشاف أزمتها المالية، فيه الكثير من الايدولوجيا حول المكان؛ تحيز لأفكار مسبقة حول عدم أحقية الصحراء بالمدن. تستحق الصحراء بنظر هذه الايدولوجيا، أن تنتج النفط لا غير. لا تستحق أن يكون لديها حضارة (أسلوب عيش مادي) إلا ما يليق بتقاليدها. ينسى الكثيرون أن التقاليد تبتدع كي تناسب الراهن، وأن أساليب العيش المادية في الصحراء قد تغيرت وتبدلت عبر مراحل التاريخ، وأن هناك أنواعاً متعددة من اللباس والمأكل والمأوى لكل مناخ سواء كان صحراوياً أو غير ذلك. والاختيار بين كل تنوع هو قرار سياسي. وقد فُرض على سكان شبه الجزيرة العربية نمط عيش مادي وروحي موحد. فكأنهم يعيشون في ثكنة. فُرض على سكان شبه الجزيرة نمط واحد في الفكر والسلوك كي لا يخرجوا عن الحدود المرسومة لهم.
تجاوزت دبي حدودها، تجاوزت حدود وعي العالم (والنظام العالمي) بالعرب، وتجاوزت وعي العرب بذاتهم، علماً بأن وعي العرب بذاتهم مصنوع ومصطنع؛ اصطنعته وسائل القوة. والقوة في غالب الأحيان إمبراطورية. تجاوزت مدينة دبي حدودها فسميت فاجرة. يتخلى الناس عن الفاجرة، يشيرون إليها بأصابع الاتهام. تجاوزت دبي حدودها وفعلت ما لم تفعله مدن عربية أخرى. خالفت ما هو مرسوم لها، فهي مدانة.
آفاق العرب مسدودة، طغيان إمبراطوري، سيطرة امبريالية، أنظمة استبداد، وعي مسطح سائد بين الناس، انعدام ثقة لدى الجمهور بحاضره ومستقبله. ظنت دبي أنها تستطيع أن تفلت من الحلقة المغلقة عن طريق الباطون والفولاذ وزجاج الواجهات. ظنت أنها تستطيع أن تفلت من السجن العربي عن طريق الاعمار والبيزنس، مع ما يرافق ذلك من استقبال لمختلف الفئات والطبقات البشرية العربية وغير العربية (معظمها غير عربية) من العمال الآسيويين والمقاولين الغربيين والمافيات من مختلف أنحاء العالم. بنيت على أكتاف عمال محرومين، كما بنيت كل الصروح العظيمة عبر التاريخ وفي كل الحضارات بعمل من لا يُذكرون في التاريخ، عمل المهمشين والمسحوقين الذين يصنعون التاريخ ولا يكتبونه. دبي خليط عجيب من أناس شديدي التنوع. وهل تكون المدينة ذات حيوية إلا بالتنوع؟ يقال أن أوغاريت كان سكانها يتكلمون ست لغات. غريب أن الحضارة الفينيقية التي ابتدعت الأبجدية لم تترك آثاراً مكتوبة؛ أبيدت. أبادها الرومان. نعرف ذلك من احراق قرطاجة وما حولها. المدن الايطالية (البندقية، جنوا، فلورنسا وغيرها) فقدت تنوعها مع عصر النهضة وظهور الدولة القومية واللغة الرسمية.
خرجت دبي على المألوف الحضاري. المألوف ترسمه القوى المسيطرة والمهيمنة. خرجت على المألوف والاعتيادي والطبيعي في الوعي العربي، خرجت على المألوف الذي يتوقعه النظام العالمي من العرب. هي لا تنال اعتراف العرب بها، وهي لا تنال ثقة العالم واحترامه لها. عوقبت؛ عاقبها العرب وعاقبها العالم وعاقبها حكامها. يقال انها عوقبت لانها بالغت في المغامرة لكن، من قال ان الرأسمالية لا تقوم على المغامرة؟ الا تبرر الرأسمالية نفسها ووجودها بالقول ان من يغامر يكافأ، وبالقول إن المكافأة كسب او ربح ناتج عن المغامرة؟ المفارقة أنه لا تعاقب دبي بسبب رأسمالية النظام فيها، بل بسبب وجودها في مكان لا يستحق اكثر مما هو مرسوم له. خرجت دبي عن القيود والحدود المرسومة لها وللعرب فعوقبت.
دبي مدينة ـ دولة، الكويت مدينة ـ دولة، بيروت تكاد تصير مدينة ـ دولة. انقضى عهد المدن الدول منذ ان ترسخت الدول ـ الأمم خلال القرون الماضية. الاعمار فيها مشروع مجرد من السياسة، من الاقتصاد، من الأمة، من اعتبارات المستقبل والمصير البشري. لكن الاعمار مشروع يكتسب المعنى والمغزى بالنهوض الاقتصادي. والنهوض الاقتصادي ليس مسألة اقتصادية بل سياسية، مسألة تعتمد على إرادة العمل والإنتاج. يتعلق الاعمار بالبنى التحتية، تتعلق التنمية بالاقتصاد كمسألة سياسية تحقق عن طريقها وحدة المجتمع والأمة وتماسكهما. اريد لمدينة دبي ان تبقى مدينة يستحيل ان تكون دولة في عصر دول الامم. اريد لها ان تبقى مجرد اعمار، لان الاعمار يمكن التلاعب به وتجييره في هذا الاتجاه او ذاك. أريد لهذه الفاجرة ان تبقى دون إمكان التوبة. تطبق عليها الآن العقوبة؛ والعقوبة الكبرى ان تكون موضوعاً للسخرية والتعزير. في تاريخنا لم تطبق الحدود الا لماماً. ما طبق فعلاً هو التعزير؛ وان يصير المعاقب بالتعزير «أبو حشيشة».
ازدهرت دبي في العقود الماضية عندما اعتمدت على منطقة «جبل علي» والقطاع الإنتاجي الصناعي. كان بالإمكان ان تبقى كذلك. سنغافورة أشبه بالمدينة ـ الدولة، وتعتمد على التجارة طويلة المدى وأعمال الوساطة. لكنها تحوي قطاعاً انتاجياً يمثل اكثر من 30% من دخلها الوطني. استطاعت تلافي نتائج الانهيارات المالية في 1997 وما بعدها. جميع المدن ـ الدول في القرون الوسطى والقديمة (جنوا، البندقية، فلورنسا وقرطاجة وغيرها) اعتمدت على قطاعات إنتاجية صناعية وعلى أحواض زراعية تنتج مواد تصديرية (زيت زيتون، نبيذ، أنسجة) وكانت تمد الدول الكبرى (فرنسا، اسبانيا وغيرها) بالقروض. المدن الايطالية في القرون الوسطى انتهى دورها عندما كانت الدول الكبرى تفلس وتمتنع عن الدفع.
أخطأت دبي عندما طغى العقار، والمضاربات العقارية، على كل شيء آخر. عقارات تحتاج الى «تطوير»؛ إذن، استيراد الأموال والتسليفات او ما يسمى تدفق الاستثمارات. هذه استخدمت في المضاربات؛ ارتفعت أسعار الأرض وظنها حكام دبي ثروة؛ ما أدركوا ان المضاربات العقارية، عندما تتجاوز حداً معيناً تؤدي الى انهيار مالي. هذا يحدث في الإمبراطوريات الكبرى، وحدوثه اخطر في دول صغرى. تسليفات ضخمة، ديون لأجل محدود او قصير المدى تستثمر في عقارات تبنى على مدى أطول؛ العقارات لا يمكن تسييلها الا متى بنيت المشاريع وجرى تسليمها. إذا تأخر التسليم، يستحيل البيع او التأجير لتسديد الديون. يعجز أصحاب العقارات عن الدفع، يطلبون اعادة هيكلة الديون لتلافي الإفلاس، او يبحثون عمن يشتري «الأصول العقارية» ؛ تعرض عليهم أسعار يعتبرونها بخسة، وتكون النتيجة أشبه بالإفلاس، إذ تتبخر الثروة. «سيراف» مدينة بحرية فارسية ازدهرت في القرن التاسع. وصلت تجارتها الى الصين. ثم اندثرت اذ لم يكن لديها صناعة او حوض زراعي يحيط بها. دبي يمكن ان لا تندثر، اذا بيعت كعقارات للأشقاء او لغيرهم. الديون المستحقة المعلنة تساوي 10% من موجودات الصندوق السيادي في أبو ظبي.
أخطأت دبي إذ تحولت الى عقار، مجرد عقار، رغم المشاريع الخيالية (أعلى برج في العالم، مركز تزلّج مغلق، جزيرة تردم البحر على شكل نخلة، الخ...). تبدأ الانهيارات المالية، في معظم الأحيان، في مجال العقارات، حيث التسليفات قصيرة المدى تجمد في استثمارات طويلة المدى. تتفشى هذه الظاهرة في كثير من الأقطار العربية حيث المدن تضخمت لتشكل نسبة كبيرة من السكان، وحيث ارتفاع أسعار العقارات الناتج عن المضاربات، بلغ أرقاماً لم نكن نسمع بها من قبل. يُسَرُّ أصحاب العقارات المباعة بارتفاع ثرواتهم، ويُسَرُّ مشترو العقارات بأن الارتفاع المستمرّ لأسعار العقارات سيؤدي بهم الى امتلاك ثروات أكبر. يفاجأ الجميع عندما يحدث أمر ما، بدا لهم غير متوقع من قبل، وهو أن الارتفاع المتزايد لا بدّ وان ينتهي بهبوط مفاجئ.
تعمّ الأزمة المتمثلة بالانهيارات المالية العالم. هناك دول أوروبية وآسيوية متوقع لها ان يصيبها ما أصاب دبي والولايات المتحدة من قبل. حتى الدول الصناعية الكبرى لن تنجو. العولمة التي طُبّل وزُمِّر لها كثيراً خلال العقدين الماضيين تعني فوق كل شيء سهولة تدفقات الأموال وانتقالها من بلد الى بلد ومن منطقة الى أخرى. ما كان يعتبر فائدة في لحظةٍ ما يمكن ان يصير خسارة وانهياراً في لحظةٍ أخرى.
يمكن تقسيم دول العالم الى ثلاثة أنواع. النوع الأول يستطيع حماية انهياره بالإنتاج (كالصين والهند وكوريا وتايوان) والنوع الثاني يستطيع حماية انهياره بالقوة العسكرية (كالولايات المتحدة وأقرانها الأوروبيين) والنوع الثالث الذي لا يمتلك القوة الإنتاجية ولا القوة العسكرية، لن يستطيع حماية انهياره إلا بما لا يستطيع تحمله. قديماً كان المدين الذي لا يستطيع سداد ديونه يتحول الى عبد مملوك. تغيّرت أشكال العبودية.
الفضل شلق
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد