عن فبركة القصائد والوثائق والنصوص..الكلمات يمكنها أن تقتل أيضاً

14-12-2012

عن فبركة القصائد والوثائق والنصوص..الكلمات يمكنها أن تقتل أيضاً

الفبركة كلمة دخيلة على العربية، وهي حديثة في الوقت نفسه، لكنها جرت مجرى اللسان العربي فصارت عربية. وأصل الفبركة من Fabricate أي يلفق أو يختلق، ومنها الذي يلفق الكلام أو يختلقه Fabricator. والكلام الملفق Fabricated هو الكلام الذي لا يحتوي أي مقدار من الصحة، بل يندرج في فنون الكذب والتزوير. والمفبركون هم أشخاص مرضى على الأرجح، ويمكن تصنيفهم كأشخاص متلصصون، بحسب مصطلحات التحليل النفسي. فهم حين يزوِّرون قصيدة أو يختلقون شائعة أو يفترون على الحقيقة بنشرهم وثيقة كاذبة، يعمدون إلى التواري خلف ستائر السر، ثم يمعنون في التلذذ بردات أفعال الأشخاص الذين أصابتهم التلفيقات والافتراءات والفبركات.
الفبركة إذاً كذب واختلاق وافتراء تُطلق كي تصدقها العامة، وكي تخدم غرضاً سياسياً أو شخصياً أو ثقافياً. فهي، بهذا المعنى، اعتداء مبتذل على الحقيقة، وعلى الشخص الذي تدور حوله الفبركة. والمفبرِك هو شخص مريض بالتأكيد، لكنه يستخدم وسائل تؤثر مباشرة في المعرفة، وتحرف الإدراك عن معرفة الحقيقة، وتؤدي إلى تشويش وعي الناس. والفبركة تختلف عن الشائعة في وجوه وتتفق معها في وجوه أخرى. فالشائعة تصريح يُطلق كي يحرف الرأي العام عن الوصول إلى الحقائق المباشرة، وهو يرتبط بأحداث الساعة، وينتشر من دون التحقق من صحته. أي ان الشائعة تقوم على أساس صحيح جزئياً، بينما الفبركة كذب محض. غير أن الشائعة مثل العلكة، تفقد مذاقها حتماً بعد مرور فترة من الزمن، الأمر الذي يفرض استبدالها وفبركة شائعة جديدة.
قصارى القول، إن الكلمات يمكنها أن تقتل أيضاً. وليست الغاية من الفبركة أو الشائعات المسمومة إلا قتل شخص ما في سمعته، أو قتل فكرة ما بتشويهها. والرأي العام، في نهاية المطاف، إنما هو "السمعة" بالتحديد. فليس المهم صدق الأفكار التي يصدرها أصحاب الغايات والمآرب إلى الرأي العام، بل فاعليتها. وعلى سبيل المثال، ربما يكشف التاريخ، بعد خمسين سنة، أن الذي نفذ تفجيرات نيويورك في 11/9/2001 غير أسامة بن لادن. لكن ليس هذا هو المهم، ولا قيمة لذلك الكشف حينذاك إلا من باب المعرفة. المهم أن الأحداث السياسية اتخذت مساراً معيناً جراء تلك المعلومات، وهذا هو المطلوب.
فبركة القصائد والاعتداء على الشعر
في 6/7/2012 نشرت جريدة "الشرق" اللبنانية قصيدة مزورة بعنوان "سلطة الذات"، ووضعت اسم محمود درويش عليها. وبلغت تلك القصيدة من الضحالة والغثاثة والرثاثة مبلغاً يمكن أي مبتدئ في عالم الشعر والأدب أن يكتشف التزوير فيها. والقصيدة عمودية الشكل، وهي من أولها إلى آخرها مجرد شتائم مبتذلة بحق قادة منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول مطلعها:
ألا لهفي على القدس الشريفِ يلوغ بها الجبالي والطريفي
يضاجعها الذئاب وهم سكارى شهود نكاحها شعثٌ وليفي
آنذاك أرسلتُ إلى محمود درويش في باريس نص هذه "القصيدة" المنحطة، فأجابني بأنه يفكر في تغيير اسمه إذا كان ذلك هو الوسيلة الوحيدة لوضع حد للتزييف. وفي مثال آخر، أرسل أحد المفبركين قصيدة إلى جريدة "السفير" اللبنانية بتوقيع مظفر النواب وعنوانها "كفرت بإسرائيل"، فنشرتها "السفير" في 28/1/2009، وتبين أن القصيدة كلها مزورة، وأن الشاعر العراقي مظفر النواب لم يكتب هذه القصيدة قط. والقصيدة مهلهلة، ولا صلة لها بلغة مظفر النواب، ومنها هذا المقطع:
النملة قطعت رأس الفيلْ
والبقة شربت نهر النيل
والجبل تمخض
أنجب فأراً
والفأر توحش وافترس الغول.
أما جريدة "النهار" اللبنانية فقد نشرت مقالة قصيرة لياسين رفاعية في 6/3/2010 تكلم فيها على القصيدة التي كتبها الشاعر السعودي غازي القصيبي وهو يصارع المرض في أيامه الأخيرة. وتبين أن القصيبي لم يكتب إلا البيتين الأولين منها فقط، وأن أحد المفبركين تطوع لكتابة بقية الأبيات. ثم دس هذا المفبرك القصيدة على ياسين رفاعية الذي سارع إلى نشرها في "النهار" كي تتناقلها مواقع الكترونية كثيرة. والعجيب أن ياسين رفاعية الذي قال إن صداقة عمرها ربع قرن ربطته بالقصيبي، لم يتنبه إلى كلمة "هديل" الواردة في القصيدة المفبركة، والتي ذكر المفبرك إنها ابنة القصيبي، بينما اسم ابنة القصيبي "يارا" وليس لديه ابنة تحمل اسم هديل. وفي 15/7/2011 نشر ملحق "فلسطين" الذي يصدر شهرياً عن جريدة "السفير" قصيدة لمظفر النواب وردت إليه من إحدى الناشطات في ميدان الثقافة في دمشق. وتبين أن هذه القصيدة كتبها في الأصل شاعر سوري اسمه فادي عزام يقيم في الإمارات، ونشرها في إحدى المجلات. لكن مزوري الحقائق ومفبركي الكذب سرقوا القصيدة من صاحبها وخدعوا الناس بهذا التضليل الذي لا طائل منه. فما الفائدة من السطو على قصيدة لشاعر ما، ونشرها على أنها لشاعر آخر؟ لعل ذلك يشي بالرغبة في الإيذاء والسرقة والإغارة على ممتلكات الآخرين.
فبركة الوثائق والاعتداء على الحقيقة
من المعروف ان مايلز كوبلاند، رجل المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط، فبرك أخباراً كثيرة عن "بطولاته" ونثرها هنا وهناك كي يوحي أن ثورة 23 يوليو 1952 كانت من صنعه مثل انقلاب حسني الزعيم في سورية سنة 1949، ومثل الانقلاب على حكومة محمد مصدق في إيران سنة 1953. ومن الأكيد أن مايلز كوبلاند كانت له يد طولى في انقلاب حسني الزعيم، ومن الثابت أيضاً أن زميله كيرميت روزفلت هو الذي خطط الانقلاب العسكري ضد محمد مصدق. لكن، في ما يتعلق بثورة 23 يوليو 1952، فالأمر مختلف تماماً.
عاشت فبركات مايلز كوبلاند، التي أوردها في كتابه "لعبة الأمم" طويلاً، وصارت معلومات مرجعية لكثير من صناع الرأي في العالم العربي طوال أربعين سنة، وسلاحاً ضد الناصرية تمسك به كثيرون. لكن، ما إن بدأ النقاب يُكشف عن وثائق الخارجية الأميركية المتعلقة بحقبة 1952 وما بعدها، حتى تبين أن وزارة الخارجية الأميركية فوجئت بثورة 23 يوليو ولم تكن تعلم عنها أي شيء. وفي سنة 2009 ظهر كتاب "إرث من الرماد: تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأميركية"، وفيه يروي الكاتب تيم واينر سيرة هذه الوكالة استناداً إلى خمسين ألف وثيقة من وثائقها، وظهر أن الوكالة فوجئت أيضاً بثورة 23 يوليو، وكل ما فعله ضباطها من أمثال كيرميت روزفلت هو أنهم عرضوا على جمال عبد الناصر مساعدته في إنشاء جهاز استخبارات حديث، وحتى هذا العرض لم يتحقق البتة.
فبركات فلسطينية
بعد توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/1993 شاعت كثيراً فبركة الوثائق، فراحت الصحف العربية تنشر نصوصاً تزعم أنها "اتفاقات سرية" وقعها ياسر عرفات وإسرائيل، ومن بينها "وثيقة" زعم مفبركوها أن عرفات وقعها في كمب دايفيد - 2 في تموز/يوليو 2000 مع إيهود باراك وبيل كلينتون. وادّعى المفبركون أن آثارها الخطيرة ستظهر لاحقاً. والحقيقة أن الأثر الوحيد الذي ظهر لاحقاً هو أن ياسر عرفات، بمواقفه في كامب دايفيد ـ 2، وقع قرار موته الذي نُفذ في سنة 2004. والمعروف أن محمود الزهار ادّعى، في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية في سنة 2000، أن الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية في القدس ما هي إلا مؤامرة من عرفات للتغطية على اتفاقاته السرية مع الإسرائيليين في كامب دايفيد ـ 2. وكررت بعض الصحف الفلسطينية الصادرة في دمشق آنذاك مثل هذا الكلام. وبطبيعة الحال برهنت الأيام مدى ضحالة مثل هذه المواقف والآراء.
استأثرت الساحة الفلسطينية بالكم الأكبر من الفبركات والتزوير. ففي تموز/يوليو 1999 وزعت في الأردن مذكرة وقعتها "كوادر حماس في الأردن". وقد فضحت هذه المذكرة زيف "وثيقة" كانت وزعت سابقاً تزعم أن ياسر عرفات عقد اجتماعاً في نيسان/ابريل 1996 لوضع خطة طوارئ لمحاربة حماس. واتهمت المذكرة الحمساوية كلاً من خالد مشعل وعزت الرشق بفبركة تلك الوثيقة وإلصاقها تهم التآمر بياسر عرفات. وفي 22/1/2007 نشرت جريدة "المستقبل" اللبنانية رسالة مفتوحة وجهها موسى العملة من سجن المزة في دمشق إلى خالد مشعل، يقول فيها إنه أخطأ بالسير في ركاب السياسة السورية، وأن المخابرات السورية هي التي اغتالت ماجد أبو شرار في روما سنة 1981، وفهد القواسمة في عمان سنة 1984. ومع أن من المحال إرسال مثل هذه الرسالة من سجن المزة في دمشق، ومع أن أبو خالد العملة نفى ذلك، وشككت حماس بصحة الرسالة، إلا أن حماس سارعت إلى اتهام محمد دحلان بفبركتها. وقد أذاقت الفبركات محمد دحلان نفسه مرَّ الكلام، فنُسبت إليه رسالة وجهها إلى شاوول موفاز في 13/7/2003 تتضمن كلاماً واضحاً عن أن ياسر عرفات بات في أيامه الأخيرة، ما يشير إلى الاستعداد للشروع في اغتياله. وفي هذا السياق وزع فاروق القدومي في آب/أغسطس 2009 نص محضر اجتماع مزعوم حضره محمود عباس ومحمد دحلان وأريئيل شارون وضباط من الاستخبارات الأميركية CIA. وقال فاروق القدومي (أبو اللطف) إن ياسر عرفات أودعه هذا المحضر قبيل وفاته، وهو يتضمن المداولات التي جرت بين هؤلاء المجتمعين في أثناء التخطيط لاغتياله.
أما الفضيحة المجلجلة في هذا الحقل من التزوير فقد أثارها ريتشارد فولك، القانوني الأميركي المعروف والمقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الذي اضطر، جراء نزاهته وحياده، إلى نشر إعلانات كبيرة في الصحف العربية والفلسطينية والإسرائيلية (راجع مثلاً: جريدة "الحياة"، 12/10/2009) يكذب فيها المعلومات المغلوطة التي زودته بها حركة حماس والتي، بناء عليها، صرح لقناة "الجزيرة" أن السلطة الفلسطينية طلبت تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في جنيف حتى آذار/مارس 2010 بسبب وجود علاقة لعائلة الرئيس محمود عباس بملكية الشركة الوطنية للاتصالات، ولأن إسرائيل تهدد بوقف أعمال هذه الشركة إذا أصرت السلطة الفلسطينية على استغلال هذا التقرير. ومن أبشع أنواع اللؤم في هذا المجال ما فعله أحد "المتلصصين" حين فبرك مقالة باسم غسان بن جدو ونشرها في جريدة "الوطن" العمانية في 18/2/2012، وجعل عنوانها: "أسطورة عزمي بشارة احترقت حتى النهاية وتفحمت". ومع أن غسان بن جدو أرسل تكذيباً فورياً ينفي فيه أن يكون هو كاتب المقالة، إلا أن الصحيفة رفضت نشر التكذيب، الأمر الذي شكل اعتداءً مزدوجاً على الحقيقة، وعلى حق المتضرر في التصحيح وتفنيد الكذب.
[ [ [
في خاتمة المطاف يمكن القول إن هؤلاء الذين امتهنوا حرفة تزوير النصوص وفبركة "الوثائق" وما زالوا يتمادون في دس النصوص المزورة و"الوثائق" المفبركة على الصحف والمجلات الرصينة، إنما هم مرضى نفسانيون. ولو بقي الأمر عند هذا الحد لهان الوجد؛ فكلنا مرضى بمعنى من المعاني. والفارق أن هؤلاء المرضى يستخدمون، لا الكذب وحده، بل الأذية والاعتداء في الوقت نفسه، أي أذية الأفراد والجماعات، والاعتداء على الحقيقة معاً، الأمر الذي يجعلنا نصنف هؤلاء الأشخاص في سجل "مزوِّر خطر".

صقر أبو فخر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...