غزة تنتصر بدمائهاوإسرائيل تغرق في الانقسام: وقف لإطلاق النار على مرحلتين
في تمام اليوم الخمسين للحرب الإسرائيلية على غزة، بدا للجميع أن الجرف ليس صامداً، وأنه مال نحو التسوية. وقاد هذا إلى فرح في غزة، وغضب في إسرائيل.
هذه هي المحصلة الأولية لأطول حرب خاضتها إسرائيل، ليس على الجبهات بعيداً، وإنما «داخل البيت». التفاصيل ليست على درجة عالية من الأهمية. المهم هو الانطباع. صورة النصر التي تترسخ في الذهن.
في قطاع غزة، رغم الدمار والثكل والجراح، خرجت الناس تعبر عن فرحتها. رأت الناس في ما جرى انتصاراً لصمودها ولأداء مقاومتها في وجه العدوان. فرحت لأنها واجهت آلة الدمار الأشد فتكاً، وخرجت واقفة على رجليها تهتف للمقاومة. مَن لم يكن في غزة مساء أمس لن يعرف طعم الفرحة. فرحة الخروج من الملاجئ والعودة إلى البيوت، والاطمئنان إلى أن ما كان لن يعود قريباً. إنها فرحة الراضين بما تحقق، حتى من دون أن يعلموا ما تحقق. في نظرهم ما تقبل به المقاومة، مقبول عليها.
في إسرائيل الصورة مغايرة. رؤساء بلديات في الجنوب يعتبرون اتفاق وقف النار خنوعاً للإرهاب، ويدعون سكان بلداتهم إلى عدم العودة إليها. الحلبة السياسية هائجة مائجة: كيف يتخذ قرار كهذا من دون التصويت عليه في الحكومة أو في «الكابينت». أما الجمهور فحدّث ولا حرج: 80 في المئة من الإسرائيليين، وفق استطلاع نشرته القناة الثانية، غاضبون على أداء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. 90 في المئة من الإسرائيليين غير راضين عن الاتفاق.
فصائل المقاومة الفلسطينية تعرض الاتفاق الذي لم تنشر صيغته بشكل رسمي، لكنه يعتمد على تفاهمات العام 2012، على أنه انتصار كبير. فهو في نظرها ينص على فتح المعابر بشكل نظامي، وعلى تسهيل دخول المساعدات وإعادة إعمار القطاع. وهو يقر بحدود لغزة، ويمنع اعتداءات إسرائيل عليها ويحظر الاغتيالات. وعملياً فإن الاتفاق يسمح لحكومة التوافق الوطني بالعمل وقيادة إعادة الإعمار، وهذا يسهل حل المشاكل الداخلية بين السلطتين. وهي تشدّد على أن الاتفاق لا ينطوي على أي إشارة لا من قريب أو بعيد حول نزع سلاح القطاع، وأن القضايا الإستراتيجية ستحلّ خلال شهر في مفاوضات مكثفة.
في إسرائيل موقفان: واحد يعرض الاتفاق على أنه انتصار ساحق، حيث لم تنل المقاومة لا الميناء ولا المطار وأنها جلبت للاتفاق رغماً عنها، وآخر يعتبر ما جرى هزيمة كبيرة. وبين هذا وذاك، هناك من يقول بأنه كان أمام إسرائيل خياران لا ثالث لهما: الحسم، وهو يتطلب معركة قاسية ومكلفة على مختلف الصعد، والثاني هو التسوية. وقال وزير الاستخبارات يوفال شتاينتس إن الحكومة الإسرائيلية قررت أنها لا تريد الحسم العسكري، وهذا يعني عملياً أنها تريد التسوية. وقد كلفت بأمر التسوية وفداً أمنياً رفيع المستوى، بقيادة رئيس «الشاباك» يورام كوهين ورئيس الطاقم السياسي - الأمني عاموس جلعاد ورئيس شعبة التخطيط في هيئة الأركان. وقد جلبها هؤلاء للقيادة المكلفة باتخاذ القرار، والتي تضم إلى جانب نتنياهو وزير الدفاع موشي يعلون ورئيس الأركان بني غانتس. ووافق هؤلاء على آخر صيغة مصرية، وبناء عليه تم إعلان وقف النار. وفي كل الأحوال تعتبر إسرائيل أن إعادة الفلسطينيين إلى المسار المصري، يعتبر أحد الإنجازات، لأنه يمكن الركون لاحقاً إلى الدور المصري في منع تعاظم قوة «حماس».
لكن القصة لم تتوقف عند هذه النقطة. فنصف أعضاء المجلس الوزاري المصغر الثمانية يعارضون هذه الخطة: وزراء الخارجية أفيغدور ليبرمان والاقتصاد نفتالي بينت والأمن الداخلي اسحق أهرونوفيتش وجلعاد أردان من «الليكود». وربما أن نسبة المعارضة داخل الحكومة أكبر. وفي نظر كل هؤلاء، لا سؤال سوى: كيف أنه بعد 50 يوماً من الحرب نضطر لقبول واقع كنا نرفضه من قبل؟ ومن المؤكد أن اتفاق وقف النار مع المقاومة في غزة، يؤذن بفتح النار من كل الجبهات الداخلية على نتنياهو وعلى الحكومة.
فالقصة في نظر الكثيرين تكتيكية واستراتيجية. ويشير المعلق السياسي في القناة الثانية أمنون أبراموفيتش إلى أن الحرب فتحت أعين الكثيرين على حقائق جديدة: إسرائيل التي تهدد إيران، كيف كانت ستبدو لو أنها اضطرت لخوض حرب على جبهتي القطاع ولبنان في الوقت ذاته؟ ولا أقل من ذلك، كيف سيتصرف نتنياهو ويعلون، وهما أصحاب نظرية أن المسألة الفلسطينية غير قابلة للحل، بعد أن فشلت نظرية إدارة الصراع؟ والأهم كيف اضطرت إسرائيل التي ترفع شعار عدم التفاوض تحت النيران، إلى التفاوض على وقف النار تحت النار؟
الأسئلة كثيرة، وهي بحاجة إلى لجان تحقيق مختلفة، سياسية وعسكرية وقضائية. لكن هذه الأسئلة بدأت تطرح قبل انتهاء الحرب وستزداد مع انتهائها. بل هناك من يتساءل، إذا كانت إسرائيل قد عادت إلى تفاهمات العام 2012 بعد 50 يوماً، ما الذي كان يمنع ذلك بعد خمسة أيام؟
عموماً يبدو هذه المرة أن حرب الاستنزاف انتهت، بعد أن صمد الفلسطينيون في غزة أمام حرب الطحن والتقطيع. وكان اليوم الأخير يوماً تصعيدياً بامتياز، بدأ بتكثيف تدمير الأبراج باستهداف برجي المجمع الإيطالي والباشا بعد أن كانت دمرت إسرائيل برج الظافر. وظل رد المقاومة متواصلاً حتى اللحظة الأخيرة، حيث أطلقت صواريخ باتجاه تل أبيب لتوحي بشكل رمزي أن المقاومة لا تزال قوية. وقبل دقائق من بدء سريان الهدنة، أعلنت الشرطة الإسرائيلية مقتل مستوطنين. واستشهد 10 فلسطينيين وأصيب العشرات امس.
وكانت الخارجية المصرية أعلنت، في بيان، أنه «حفاظاً على أرواح الأبرياء، وحقناً للدماء، واستناداً إلى المبادرة المصرية في العام 2014 وتفاهمات القاهرة في العام 2012، دعت مصر الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى وقف إطلاق النار الشامل والمتبادل، بالتزامن مع فتح المعابر بين قطاع غزة وإسرائيل، بما يُحقق سرعة إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية ومستلزمات إعادة الإعمار والصيد البحري انطلاقاً من 6 أميال بحرية، واستمرار المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين، بشأن الموضوعات الأخرى خلال شهر من بدء تثبيت وقف إطلاق النار. وفي ضوء قبول الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بما ورد في الدعوة المصرية، فقد تحددت الساعة السابعة لبدء سريان» الهدنة.
وأكدت مصر مُجدداً «التزامها الثابت بدورها الذي تمليه حقائق التاريخ والجغرافيا، وبمسؤولياتها الوطنية والعربية والإقليمية، وبما ينبثق عن ذلك من العمل على تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني ودعم قيادته، والحرص على تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة، من خلال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة لتحقيق السلام والأمن في المنطقة، وبما يُسهم في ازدهار ورخاء كافة دولها وشعوبها».
وبحسب ما أشيع عن نقاط الاتفاق فإن وقف النار تمّ على أساس مرحلتين: الأولى، وقف النار وفتح المعابر، والثانية تبدأ خلال شهر لمعالجة المطالب الاستراتيجية للطرفين، وبينها فتح المطار وإنشاء الميناء وتجريد غزة من السلاح. وهنا تبدأ الأهمية الكبيرة لما سيحدث في الأيام القليلة المقبلة في نيويورك، حيث تحاول الإدارة الأميركية تمرير قرار يتعلق بالقطاع والتسوية عموماً ويشكل غطاء دولياً داعماً لمفاوضات الشهر.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد