غسان الرفاعي: الهوية العربية وقلب الطاولة
ـ 1 ـ لا أدري ما الذي حدا بـ(أندريه لافونتين)، رئيس تحرير صحيفة (اللوموند) الفرنسية، المحال على التقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً، إلى تسمية كتابه الجديد الذي يقع في 660 صفحة من الحجم الكبير: «ومن بعدهم الطوفان!»، فلم يعرف عن السيد (لافونتين) الخفة الثورية، ولا النزق الرومانسي، ولا المزاح الهازل. إنه أقرب ما يكون إلى صندوق مقفل لا يفتح إلا في المناسبات الضرورية، أو الساعة المبرمجة التي لا تخطئ، ولو هشمت لوالبها.
أذكر أنه قال لي ونحن في الطائرة التي أقلتنا إلى دمشق لإجراء مقابلة مع الرئيس الراحل (حافظ الأسد)، عام 1985:
ـ «يحق لكم أن تغتصبوا التاريخ مجاناً، إذا ثبت أن عملية الاغتصاب ستعطيكم ولداً، ولو كان ابن زنى!».
وحينما بانت عليّ الدهشة، أضاف، وهو يبتسم بمكر:
ـ «أنتم العرب تغتصبون التاريخ، لكنكم لم تستولدوه بعد!».
أغلب الظن أن السيد (لافونتين) ـ وهو مثال فريد في الصلابة والترفع ـ قد قرصته حية سامة، بعد أن أحيل إلى التقاعد، وتفرغ لهندسة التاريخ على هواه، فأخذ يتحدث عن قبضة فولاذية تحكم الطوق على الأفراد والشعوب، وتحرك المصائر على ضربات ضابط إيقاع غير منظور. يكتب في تفاصح: «من حسن طالع الشرق الأوسط أنه مرشح لهندسة جديدة تضع حداً للفوضى والهوس الاثني. لقد ظهر فيه، آخر الأمر، قادة جدد، فهموا اللعبة، وبدؤوا ينسقون مع مهندسيه. وعلى هذا فإن فكرة «قلب الطاولة» التي راودت مخيلة زعماء المنطقة، من مصدق إلى ناصر إلى صدام قد سحبت من التداول ليحل محلهم سادة حكماء ولكن شجعان».
ـ 2 ـ
يعترف السيد (لافونتين) أنه مؤرخ فظ، لا يتأثر بنبض القلب، ولا بدمع العين، ولا بنوافير الدم. يقول: «علمني ربع قرن من العمل الصحفي المضني العاق أن أحافظ على برودة أعصابي، وأن أنتصر على سخونة الحدث!» إنه يقسم الثلث الأخير من النصف الثاني من القرن العشرين الذي لفظ أنفاسه، وبدايات القرن الحادي والعشرين إلى أربع مراحل: مرحلة المعاركات، وتمتد من 1979 إلى 1985، ومرحلة المعانقات وتمتد من 1985 إلى 1989، ثم مرحلة الانفلاتات وتمتد من 1990 إلى 1995، وأخيراً مرحلة «الحرب على الإرهاب»، وتمتد من 2000 إلى المرحلة الراهنة. ثم إنه يميز بين نوعين من الانفلاتات، انفلات مطوّق كالذي جرى في يوغسلافيا والذي يجري في الشرق الأوسط، وانفلات سائب كالذي يجري في السودان. يكتب ببرودة أعصاب: «قد أتهم بالبربرية، ولكن الواقع هو هكذا: هناك مجازر تحاط بالضجيج الإعلامي والدبلوماسي، وهناك مجازر تطمس ويفرش عليها الصمت والدخان، والويل لمن يهجر ويتم تجاهل مجازره!».
ـ 3 ـ
مأساوية هذه الثنائية التي يضعنا أمامها السيد (لافونتين): إما أن نُقتَل بضجيج وحينئذ قد يتوفر لنا من يهتم بنا، فسيبادر إلى مساعدتنا، لا حباً فينا، وإنما طمعاً بنهبنا واسترقاقنا، وإما أن نُقتَل بصمت، وحينئذ نهمل، ويتفرج علينا الجميع، وهم يتصايحون بسعادة: «ومن بعدهم الطوفان!» ومن هذا المنطلق فإن حرص النظام العالمي الجديد على تحقيق السلام في الشرق الأوسط، لم يكن بدافع إنهاء الحرب ولا رفع الظلم، ولا إشاعة العدالة، إنما بدافع تشابك المصالح وإصرار القوى النافذة على إشاعة الاستقرار في هذا الجزء من العالم. ومن الضروري أن يسعى قادة المنطقة، وبكل الوسائل المتاحة، إلى إبقاء بلادهم ضمن مراقبة المجتمع الدولي، وإلا نبذت، وفرش عليها الصمت، وأضحى دم شعبها مستباحاً، وكل من يخرج عن هذه الدوامة المتسخة، ويدعي القدرة على «قلب الطاولة» سيعاقب بالبتر، والاستئصال دون رحمة.
ـ 4 ـ
لا أعرف كيف انقلب (أندريه لافونتين) من شاهد على العصر ـ وهذا ما كان يمارسه طول حياته في صحيفة اللوموند ـ إلى جلاد تاريخي، يهددنا بحتمية أكثر همجية من حتمية العنصريين. لقد زعم أن كل محاولات التمرد على التفوق الغربي في العالمين العربي والإسلامي، تحت شعار «قلب الطاولة» قد فشلت لأنها لم تكن أكثر من «اغتصاب للتاريخ»، لم يعط ولا حتى ابن زنى، وأظهر ارتياحه لأن المنطقة قد أفرزت «سادات» ما، حل مكان المغامرين الحمقى، وقد غفل عنه أو تغافل أن التاريخ مفتوح على كل الاحتمالات وأن الثورات حتى ولو فشلت هي التي حققت التقدم. وإذا كان لابد من أن يدفع الراغبون في الاستقلال والتحرر ضريبة «ومن بعدهم الطوفان!» فقد يكون التردد في دفع هذه الضريبة جريمة وطنية لا تغتفر.
ـ 5 ـ
ولكن (أندريه لافونتين)، خرج علينا، الأسبوع المنصرم، بمقالة حديثة طرح فيها ثنائية أكثر مأساوية من ثنائيته التي طرحها في كتابه، «ومن بعدهم الطوفان». تحدث عن جولة الرئيس الأميركي (أوباما) الأخيرة في أوروبا، وزيارته التي استمرت يومين إلى تركيا، وتصريحاته، وما تركته من أصداء في الشرق الأوسط، وخاصة في العالم العربي، يزعم (لافونتين) أن العرب قد تخلوا عن دورهم في المنطقة، بسبب انقساماتهم، ومشاحناتهم، واستبداد أنظمتهم، وأن المنطقة قد أصبحت خاضعة لتجاذبين، أو تيارين: التيار الإسلامي الأتاتوركي، الذي استفاد من الفكر النهضوي العلماني، وتفاعله مع الغرب، وتتزعمه حالياً تركيا بقيادة رئيس وزرائها (أردوغان) الذي نجح في استقطاب الجماهير العربية مؤخراً، بعد حادثة دافوس وانسحابه من المؤتمر احتجاجاً على صفاقة (بيريز) الرئيس الإسرائيلي، والتيار الإسلامي الاستشهادي الذي مازال يسحر الجماهير العربية الرافضة للهيمنة الغربية، وللصلف الإسرائيلي. يكتب (أندريه لافونتين): «كان اختيار الرئيس (أوباما) لتركيا موفقاً كمنبر لمخاطبة المسلمين، وكانت الكلمات التي كتبها بخط يده في دفتر الزيارات في مقر ضريح (مصطفى كمال أتاتورك)، زعيم تركيا الحديثة معبرة، إذ أبرز أهمية الإسلام العلماني الحداثي في مواجهة الإسلام القرن أوسطي المتزمت. على أنه لابد من الاعتراف بأن ما قاله (أوباما) سيجد أذناً مصغية عند الحكام العرب، ولكن الشارع العربي يظل مسحوراً بالإسلام الاستشهادي...» ويختم (لافونتين) مقاله بنبوءة سوداء لا أدري كيف توهجت في ذهنه، إذ زعم أن «الحكم اليميني المتطرف في إسرائيل سينقض على القدس الشرقية ليكمل تهويدها، وسيتوسع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وسيقبر حل الدولتين على نار هادئة، في الوقت الذي تتصاعد فيه المجابهات بين الإسلام الأتاتوركي، والإسلام الاستشهادي.
ـ 6 ـ
نجد لزاماً علينا أن نذكر (لافونتين) ببعض الحقائق الأولية، ونحن على ثقة تامة أنه تغافل عنها سهواً، أو قصداً.
أولاً: الإسلام إبداع عربي خالص، ولهذا لا يمكن فصله عن العروبة، ولا يجوز إلصاقه جزئياً أو كلياً بحضارة أقوام أخرى، ويترتب على هذه البديهية أن الحل في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون إلا عربياً، أو لا يكون: ان المراهنة على قوى غير عربية، والزعم أنها قادرة على رسم خريطة الشرق الأوسط (ونحن نصر على تسميته العالم العربي) هي مراهنة خاسرة على المدى الطويل. لقد اغتنى الإسلام بتجارب الحضارات الأخرى، واستفاد منها، على هذا النحو أو ذاك، ولكنه حافظ على هويته العربية، وليس بمقدور أحد أن يسقط هذه الهوية عنه.
ثانياً: إن المجابهة بين ما يسمى الإسلام الأتاتوركي والإسلام الاستشهادي ليس مجابهة إيديولوجية خالصة، وإن كانت لها جذور تاريخية، إنها مجابهة موقوتة فرضها أمران: التدخل الأجنبي، وخاصة الأميركي أولاً، ووصول القضية الفلسطينية إلى الباب المسدود ثانياً. وواقع الحال أن هذه المجابهة تجري خلف واجهة هي التنافس بين مبادرة السلام العربية التي تصطدم دوماً بالممانعة الإسرائيلية، العلنية تارة، والمستترة تارات، وبين المراهنة على المقاومة، خصوصاً بعد أن حقق حزب الله في الجنوب اللبناني انتصاراً على الغطرسة الإسرائيلية في صيف 2006، ومن المؤكد أن الإسلامين سيلتقيان حينما تقتضي الضرورة، للوقوف أمام التحديات الإسرائيلية.
ثالثاً: إن استراتيجية الرئيس (أوباما) في الشرق الأوسط لاتزال غامضة، ومثيرة للحيرة والحيطة معاً إذ لم يصدر حتى الآن رفض رسمي قاطع لسياسة (نتنياهو) الاستفزازية حول مستقبل عملية السلام في المنطقة، وتصريحات الموفد الخاص لـ(أوباما) إلى الشرق الأوسط (جورج ميتشيل) متأرجحة وغير ملزمة، بل إن وزيرة الخارجية السيدة (كلينتون) لاتزال تتجنب الحديث بوضوح عن الدولتين، وعن الاستيطان، وعن عودة اللاجئين الفلسطينيين، وقد يكون من السابق لأوانه التحدث عن دعم أميركي لدول الاعتدال، مقابل رفض لسياسة المقاومة. ومن هنا ـ وكما قال (دوهاميل) المعلق السياسي في إذاعة RTL: «ليس من المؤكد أن ترفض الولايات المتحدة سياسة (نتنياهو)، خشية تهجم اللوبيات اليهودية عليها وستستمر في إطلاق التصريحات الملتبسة، تهرباً من اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه».
ـ 7 ـ
لم تكن ثنائية (أندريه لافونتين) في كتابه «ومن بعدهم الطوفان» حول دول يثار حولها الصخب فتحظى باهتمام المجتمع الدولي ودول تحاط بسياج من الصمت الإعلامي، فتفترس في صمت وهدوء. ثنائية صائبة، وأتت ثنائيته الثانية عن الإسلام الأتاتوركي والإسلام الاستشهادي لتزيد تحليله غموضاً ومجانبة للواقع، عسى أن يستفيد من غفوته، وأن يواجه حقائق المعاصرة بجدية أكثر، ومسؤولية أخلاقية أسمى وأعلى.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد