غسان رفاعي: خواطر فوضوية
1 حينما يغزوك الاكتئاب، من حيث لا تدري، ويستبد بك القرف من حيث لا تتوقع، لا ترى بلسماً يريحك إلا بالاستنقاع في كتاب، كنت اقتنيته، ثم أرجأت قراءته بدافع السأم، تحاول أن تتجاهل، وأن تتناسى ما أنت غارق فيه من فجور سياسي وفسق أخلاقي، ولكن المشاهد الجارحة التي تعرضها عليك القنوات «الجريئة» والندوات المبتذلة التي تلاحقك حتى إلى فراشك، لا تشعرك بإنسانيتك المنتهكة فحسب، وإنما ترغمك على أن تختبئ في صندوق قمامة.
يصر أحد كتاب هذا العصر اندريه جيد على «أن الاكتئاب ليس حالة شعورية تقتحم الإنسان في حالات اليأس والقهر والفشل، وإنما هو «مهنة» لا تليق إلا بالمثقفين»، ويبدو أن هذ القول هو «تشخيص سريري» لا يرفضه المحللون النفسيون الذين يرون «أن المثقف كائن كئيب، يوجعه ما يجري في العالم، ويحاول أن يعبّر عن آلامه وعذابه، ولكنه لا ينجح إلا بإيذاء نفسه، لأنه يكتشف أن قدرته على الحركة محدودة»، لا عجب إذا تحدث بول فاليري عن «التعيس الذي يمتهن التفكير، ولكن لا قدرة له على العمل»، بالإشارة إلى المثقف المعاصر.
2
لا أدري ما الذي أغراني بالانتساب إلى «رابطة المعترفين» التي تضم كتاباً ومثقفين لا تجمعهم إلا الرغبة في «فضح أسرارهم الشخصية» ونشر اعترافاتهم النزيهة الصادقة، على غرار ما فعل جان جاك روسو في كتابه المثير «الاعترافات»، قالت لي صحفية فرنسية تتطلع إلى أن تكون روائية مرموقة: «لا بد للأديب المعاصر من إتقان فن «الستريب تيز STRIPTEASE» لاجتذاب القراء!».
كنا ندعى إلى اجتماعات خاصة في صالة داخلية من مقهى باريسي نستمع إلى اعترافات شاعر أو قاص أو فيلسوف، يروي فيها بصراحة مأساوية تفاصيل عن ممارساته التي يخجل من الإفصاح عنها، وكان يسمح لنا بمناقشة هذه الاعترافات للتأكد من صحتها ونزاهتها وصدقها، وكم كان يدهشنا اكتشاف الخلاف الشديد بين الشخص الذي نعرفه حق المعرفة، وبين الصورة «النزيهة» التي يريد أن يقدمها عن نفسه، وكلما كان الخلاف موغلاً في الجنوح زاد إعجاب أعضاء الرابطة بصاحب الاعتراف، ويبدو أن الهدف من هذا «الإفصاح العلني» هو سبر أعماق النفس البشرية، ونزع الأصباغ والمساحيق عن وجه الإنسان الطبيعي، وكما قال بيير ديمرون مؤلف كتاب «رسالة إلى ممتهني العلاقات الطبيعية» وأبرز أعضاء الرابطة: «الإنسان المعاصر محصن بدروع فولاذية تحتبسه، ولا بد من انتزاعه من داخلها، كيما يستعيد إنسانيته وبراءته».
واللافت أن أعضاء الرابطة لا يعترفون برابطة الدم، ولا بوشائج القرابة العائلية، ولا بالانتماء القومي، ولا بالولاء الديني، ولا يقيمون وزناً إلا «للأنا» المستفردة المتوحشة المنعزلة التي لا تكترث إلا بازدهارها وامتلائها.
3
قد يخفي الخطاب المخملي الملمس الذي يصدر إلينا عبر المنابر السياسية المكلفة الاحتيال علينا، الكثير من النوايا الخبيثة والمخططات والأفخاخ التي تستهدف «احتواءنا» أو على الأصح «افتراسنا»، ولكن بعض الأقلام التي تجاهر بعدائنا، وتنزع «أقنعة المجاملة» و«التعايش الودي» تكشف لنا حقيقة الحوار الحضاري الذي ندعى إليه، ونستجر إلى ندواته، وتسقط الأقنعة وتزيل الستار، ولعل الفضيلة الكبرى لبعض الكتاب الجدد من فرسان «الاعترافات» أنهم لا يخفون دمامتهم، ولا يتسترون على فجورهم الفكري والسياسي، ألم تتحفنا الكاتبة الإيطالية اورانيا فالاتشي، منذ عدة سنوات، قبل أن يتغمدها الله لا برحمته، وإنما بغضبه، بكتاب مرذول أسمته «الغضب والكبرياء» أفرغت فيه كل ما تختزنه من ضغينة ضد العرب والمسلمين، مدفوعة كما زعمت «بمشاعرها الإنسانية الصافية» ويتبارى اليوم جيل من الكتاب الذي يمتهنون الصراحة، في ارتداء سراويل فالاتشي، بعد أن اتهمت مثقفي الغرب بأنهم «خصيان» لا يجرؤون على مجابهة «الوباء العربي الإسلامي» الذي يزحف على الغرب، من كل مكان.
4
يتساءل مؤرخ «طليعي» من هواة الكشف عن «نواياه الدفينة في اللاشعور» عن الأسباب «الخبيثة» التي أرغمت قوى استعمارية متقدمة، ومزودة بكل معجزات التكنولوجيا المتطورة، على التخلي عن امبراطورياتها «التي لا تغرب عنها الشمس»، وعلى الهزيمة أمام شعوب «متخلفة، ضعيفة، متشرذمة»، وكان الجواب بسيطاً للغاية: إن الهجوم الكاسح الذي أفقد الامبراطوريات جبروتها، لم يأت من الخارج، وإنما من الداخل، و«حصان طروادة» موجود داخل هذه الامبراطوريات: إنه «الشعور بالذنب!».
قد يستغرب طرح «الشعور بالذنب» كسبب من أسباب الهزيمة التي مني بها الاستعمار، ولكن «المؤرخ الطليعي» يبادرنا بتفسير لا يخلو من طرافة: «لم تهزم فرنسا في الجزائر بسبب خسارتها أمام المقاتلين المقاومين الأشداء، وإنما بسبب شعور قادتها ومثقفيها أن الحرب التي تخوضها ضد الشعب الجزائري هي حرب غير عادلة، وغير أخلاقية، وغير إنسانية، في أساليبها وممارساتها، ولهذا لا بد من الاعتراف بحقوق الخصم المشروعة لا بقدرته على الانتصار».
ويورد المؤرخ «الطليعي» سبباً آخر: «إذا ما سيطر الشعور بالذنب، وبهذه السهولة، على ممثلي الطبقة السياسية في البلدان الاستعمارية فهو لا يعود فقط إلى أن حسهم الأخلاقي أكثر نمواً واقتداراً، وإنما لأن هذا الشعور يخفي «التعب» والخوف من «انفراط التماسك الوطني داخلياً والملل من استمرار الحرب بكل عبثيتها».
والنتيجة الشوهاء التي يتوصل إليها المؤرخ الطليعي «مرعبة»، في صفاقتها وعجرفتها، يكتب «تيري مونيه» في مقدمة كتابه «معنى الألفاظ»: «تصفية الاستعمار كرم غربي، ورد فعل على الشعور بالذنب، ومن المخجل أن يقابل هذا الكرم بالجحود والعقوق، يجدر بالذين يهدرون حياتهم مجاناً في العالم الثالث أن يراهنوا على يقظة الحس الأخلاقي في الغرب لا على دماء شهدائهم...!».
5
وذات يوم، استخرجت الرابطة جورج اورويل من قبره، ورشت جثمانه بعطر كريسيان ديور، وأعيد طرح مفرداته المغمورة بالغبار في البورصة الايديولوجية، على الرغم من أنها حسب زعم أباطرة الرابطة قد تبدو مدعاة للسخرية، لقد ارتبط صعوده إلى النجومية الأدبية بنشر روايتيه «مزرعة الحيوانات»، و«1984» ولكن من الخطأ الفادح التعامل معه كمنظر سياسي، بعد أن تبين أنه ليس أكثر من شاعر عفوي، يحاول أن يسرق الابتسامات من وجوه المعذبين في الأرض.
كانت روايته «1984» مسدساً كاتماً للصوت إلى الأنظمة الشمولية، من كل المقاسات، يمينية متغطرسة كانت أم يسارية متطرفة، وكانت سوطاً يجلد ظهور الجلادين الذين يجعلون بلادهم زنزانات وحظائر لاحتجاز المواطنين، وتحويلهم إلى قطيع من الماعز، ولكن إعادة طرح اورويل في الرابطة مجدداً يعود إلى سببين: أولهما تحدثه عن «تسريح الشعوب» لمصلحة هيمنة طبقة حاكمة مؤلفة من كبار الأثرياء الذين لا يملون من التخمة، ورجال الأمن الذين يستعذبون الاستبداد والفوقية والإعلاميين المنافقين الذين يفلسفون بدهاء الانحراف الوطني، وثانيهما تحدثه عن «النظافة الطبيعية» عند الإنسان العادي التي تتجلى في سلوكيات «نبيلة وسخية وخيرة»، ويرى فيليب دوسان روبيير أن فكرتي تسريح الشعوب ونظافة الإنسان العادي اعترافان جريئان، وقد يلخصان تاريخنا المعاصر، وما نشهده اليوم من أزمة اقتصادية خانقة تهدد بتدمير النظام الرأسمالي بعد انكشاف ريائه وجشعه، واحتياله، في مقابل انكشاف براءة الإنسان العادي ونظافته، هو الاعتراف الأكبر، ولا يقل أهمية عن اعترافات جان جاك روسو التي كان لها أكبر الأثر في تسريع الثورة الفرنسية.
6
مثير للسخرية هذا التفسير لتصفية الاستعمار سابقاً والنضال ضد الامبريالية لاحقاً، وفاسقة هي النظرية التي تزعم أن الشعور بالذنب عند الغربيين هو الذي حرر الشعوب المضطهدة من الاحتلال والاستبداد والطغيان، ومعيب جداً استرخاص دم الشهداء في العراق وفلسطين وأفغانستان والجزائر الذين لم يكونوا حسب تفسير بعض المتطرفين الذين يفاخرون «باعترافاتهم النزيهة» أكثر من «سماد مجاني» ولّد الشعور بالذنب.
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد