غسان رفاعية: أين حب اليوم من الأمس
تحب النساء أن يتغزل بهن الرجال, وتحب المرأة أن يقول فيها شاعر بيتاً من الشعر, فكيف لو قال فيها قصيدة.
كانت هناك جرأة في شعراء التراث العربي يشببون بالنساء وكن يقبلن ذلك برحابة صدر, حتى سميت نساء بأسماء شعرائهن مثل جميل بثينة, أو كثير عزة, أو قيس ليلى..وكثير من هذا.
ربما كانت هناك حرية لا نعرفها اليوم.. فلو قال شاعر قصيدة بامرأة معروفة الاسم والعائلة لقادته إلى المحاكم ونالت منه تعويضا كبيراً.. فهل شعراء هذا الزمان أقل شجاعة من شعراء ذاك الزمان..?وهل نساء هذا العصر أقل حرية من حرية تلك النساء اللواتي فعلن المعجزات في الايحاء بالشعر ودفع الشعراء إلى التغزل بهن, بل وقبول اللقاء بالشعراء كي يقولوا شعراً بهن, ولو نظر كتاب المسلسلات التلفزيونية إلى أخبار تلك النساء, لألفوا مسلسلات في الحب والهوى والوداع والفراق ما يجذب الناس في طول الأرض وعرضها.
فهي قصص جذابة على مدار التاريخ والجغرافيا في كل الشعوب والأمم..وما من أمة إلا لها قصص حبها, خصوصاً بين الملوك والامراء وعامة الشعب.
إلا أن الأمة العربية في تراثها العظيم أغنى من كل الأمم في قصص حب شهيرة امتزج فيها الجد بالهزل.. والواقع بالمخيلة الشعرية المبدعة.. فلا ينطق شاعر بامرأة إلا عن عشق.
وأجمل الشعر ما قيل في الحب.. هكذا اشتهر عمر بن أبي ربيعة وقيس بن الملوح, وجميل الذي كني اسمه باسم حبيبته, وكثير الذي كني اسمه هو الآخر باسم حبيبته.. سألوا في ذلك الوقت شيخ قبيلة, من قيس.. ومن ليلى?
فقال ساخراً لكل شاعر ليلاه..ولا نستطيع في العصر الحاضر أن نقول عن شاعر ما إن اسمه اقترن باسم حبيبة معروفة, وإذا استثنينا نزار قباني الذي قال شعراً ببلقيس, فلأن بلقيس كانت زوجته وعندما كانت حبيبته قبل الاقتران بها.. لم يتجرأ أن يقول فيها قصيدة بالاسم والعائلة..
صحيح أن نزاراً قال شعراً بكوليت خوري ذلك أن كاتبتنا الجميلة كانت متحررة ولا تخاف من التقاليد الموروثة وقبلت هذا الشعر وتحدثت عنه, والأولى بها الآن أن تنشر هذا الشعر ليعرف الناس كم هو شعر عظيم ورائع, فنزار وبلقيس في رحاب الله الآن.. فمن يعترض على ذلك.. ربما يعترض أولاده كما اعترضوا على مسلسل (نزار قباني) الذي مثل شخصيته تيم الحسن..
ومع ذلك لم يتجرأ المسلسل على كشف حبيبات نزار وكن كثيرات.. وأنا على معرفة بواحدة منهن لم تتزوج وظلت على ذكراه حتى الساعة.. رجل آخر كشف عن اسم حبيبته هو الشاعر عمر أبو ريشة.. وعندما لغط الناس باسميهما في عصر يسمى عصر الانفتاح والحرية, ما اضطر الشاعر أن يتزوج بها سراً ثم انكشفت الحكاية بعد وفاته, ودخلت قصتهما المحاكم وانتهت على خير وأذكر أن اسم السيدة (م.س) وهي شاعرة أيضاً وتحتفظ بالكثير من شعر عمر فيها وتعتز بهذا الشعر اعتزازاً كبيراً.
ومن منا لا يتذكر قصيدة (لا تكذبي) للشاعر مأمون الشناوي التي قيل إنه كتبها بالمطربة نجاة, حيث أشيع في ذلك الوقت أن الشناوي كان يحب نجاة, ثم اكتشف أن أديباً كبيراً آخر كان يحبها أيضاً هو الكاتب يوسف ادريس.
وكما اشيع أيضاً أن المطربة المذكورة كانت تحب هذا الحب دون أن ترتبط بهما, كما هو الحال مع أي حسناء, وربما كانت تلتقي مرة مع هذا ومرة مع ذاك.. فخرجت من الشناوي تلك القصيدة الرائعة التي تحمل عنوان: لا تكذبي, لحنها محمد عبد الوهاب خصيصاً لتغنيها نجاة.. وهي أول من غناها..وغناها محمد عبد الوهاب أيضاً.. لكن القصيدة اشتهرت عندما غناها عبد الحليم حافظ ومطلعها:
لا تكذبي إني رأيتكما معا
فدعِ البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة فأنكر وادعى
وهي من أجمل ما كتب الشناوي ومن أجمل الالحان التي ألفها الموسيقار محمد عبد الوهاب, ومن أجمل ما غنى عبد الحليم حافظ.
اعرف شعراء متزوجين لكنهم في نفس الوقت عشاق لنساء آخريات ذلك أن الشعر لا يولد إلا من المعاناة.. وعندما تصبح الحبيبة زوجة يهبط عنصر الوحي, عندما تتحول الحياة بين الحبيبين إلى مؤسسة زواج على ما فيها من مشكلات مادية واجتماعية.. فيفقد الحب سحره الذي يتألق عادة في رومانسيته, وبالتالي في تلك اللقاءات الحميمة.
وإذا استعدنا قصص التراث وخصوصاً حكاية عزة مع كثير التي كانت تحب شعره وترويه, لكنها رفضت الزواج منه والسبب أنه كان يشبب بها في شعره.
ومع ذلك كانت تلتقيه ليكتب بها مزيداً من الشعر, ومن قصتهما معاً, أن جميلاً دخل على الخليفة عبد الملك بن مروان, وكان كثير دميماً, فلما نظر إليه عبد الملك قال:
أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
فقال كثير:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وتحت ثيابه أسد يزير
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أكثرها فراخا
وأم الصقر مقلات تزور
فقال عبد الملك: إن كنا أسأنا لك اللقاء فلسنا نسيء لك الثواب, فاذكر حاجتك, فقال: حاجتي أن تزوجني عزة.
فوجه إلى أهلها فأحضرهم وأمرهم بتزويجه إياها, فقالوا: يا أمير المؤمنين, هي امرأة بالغ لا يولى على مثلها, ونحن نعرض ذلك عليها, فإن أجابت إليه امتثلناه, فأمر بإحضارها, فأحضرت, فعرض عليها التزويج فقالت: بعدما شهرني بين العرب وشبب بي فأكثر ذكري? ما إلى هذا سبيل! فقال لها: فإذا أبيت هذا وكرهته فاكشفي عن وجهك فثقل ذلك عليها, ثم فعلت ومضت مكشوفة الوجه إلى بعض حجر عبد الملك, فدخلت الحجرة ونظرت إلى كثير مغضبة, فقال بعض من حضرها: جنت.. جنت.. فأنشأ كثير يقول:
أصاب الردى من كان يهوى لك الردى
وجن اللواتي قلن عزة جنت
ولما رأت من حولها نقص الحيا
رمتني بباقي وصلها ثم ولت
فحلفت أن لاتكلم كثيراً سنة, فلما انصرفت من الحج بصرت بكثير وهو على جمله يخفق نعاساً فضربت رجله بيدها وقالت: كيف أنت يا جمل? فأنشأ كثير يقول:
حيتك عزة يوم البين وانصرفت
فحي ويحك من حياك يا جمل
ليت التحية كانت لي فأبدلها
مكان يا جمل حييت يا رجل
فحن من جزع إذ قلت ذاك له
ورام تكليمها لو تنطق الابل
ودخلت عزة على سكينة بنت الحسين بن علي ذات يوم, فقالت لها: يا عزة..أرأيتك إن سألتك عن شيء هل تصدقين? قالت: نعم.. قالت ما عنى كثير بقوله..
قفى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها..
فحانت وقالت: فداك أبي.. إن رأيت أن تعفيني, فقالت:لا أعفيك بل أعزم عليك, قالت: كنت وعدته قبلة, قالت: انجزيها واثمها عليّ (يا سلام من يقول مثل هذا الآن في حياتنا المعاصرة)
ومن أطرف ما في حكاية هذين العاشقين:
أرادت عزة أن تعرف مالها عند كثير, فتنكرت له ومرت به متعرضة, فقام فأتبعها فكلمها, فقالت له: فأين حبك عزة? فقال: أنا الفداء لك, ولو أن عزة أمة لي لوهبتها لك.
قالت: ويحك! لا تفعل فقد بلغني أنها لك في صدق المودة ومحض المحبة والهوى على حسب الذي كنت تبدي لها من ذلك وأكثر, وبعد, فأين قولك:
إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا
أبينا وقلنا الحاجبية أول
فقال كثير: بأبي أنت وأمي, أقصري عن ذكرها واسمعي ما اقول.
ثم قال:
هل وصل عزة إلا وصل غانية
في وصل غانية من وصلها بدل
قالت: فهل لك في المجالسة? فقال لها: وكيف لي بذلك, فقالت له: فكيف بما قلت في عزة وسيرته لها? فقال: أقلبه فيتحول إليك ويصير لك, قال فسفرت عن وجهها عند ذلك وقالت:أغدراً وتنكاثاً يا فاسق? وإنك لها هنا يا عدو الله.. قال: فبهت وسكت ولم ينطق وتحير وخجل.
ثم إنها عرفت أمرها ونكثه وغدره بها.. واعلمته سوء فعاله وقلة حفاظه ونقضه للعهد والميثاق, ثم قالت: قاتل الله جميلاًً (أي الشاعر الآخر جميل بثينة) حيث يقول:
لحا الله من لا ينفع الود عنده
من حبله إن مدّ غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم
على العهد حلاف بكل يمين
و أنشأ كثير يقول بانخزال وحصر وانكسار, يعتذر إليها ويتنصل مما كان منه ويحتال في دفع زلته متمثلاً بقول جميل, بل ويقال إنه سرقه من جميل ونحله إلى نفسه:
ألا ليتني قبل الذي قلت شبب لي
من المزعف القاضي وسم الذرارح
فمت ولم تعلم عليّ خيانة
إلا رب باغي الربح ليس برابح
فلا تحميلها واجعليها جناية
تروحت منها في مياحة مائح
أو أبوء بذنبي إنني قد ظلمتها
وإني بباقي سرها غير بائح
وبعد, أين شعر اليوم من شعر الأمس, وأين حب اليوم من حب الأمس.. ولنا بقية..
ياسين رفاعية
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد