فالتر بنيامين، عن وحشة لا خلاص منها
تكمن قيمة الأدب في أعمال فالتر بنيامين (1892 ــــ 1940) في نظريّته عن اللغة، التي يصفها الناقد راينير روشليتز بأنّها مثاليّة البنية وغيبيّة الاستلهام ورومانسية المصدر. وهي ــــ إلى جانب كونها وسيلةً للتعبير ــــ تتمتّع بـ«القدرة على كشف جوهر الإنسان... فكلمة الشاعر ونثر الكاتب اللذان يسمّيان الأشياء في حقيقتها، هما إذاً الشكل الأصيل للغة».
يكتب فالتر بنيامين عن «شارع ذو اتجاه واحد» (1928) الذي صدرت طبعته العربية أخيراً عن «دار أزمنة» في عمان (ترجمة أحمد حسّان). إلا أن خطوات القراءة في هذا الكتاب لا يمكنها إلا أن تتشعّب في اتجاهات شتى. البدء من الصفحة الأولى لن يكون شرطاً على القارئ، فنقطة الانطلاق يمكنها أن تكون في المنتصف أو الأخير. ليس من رابط بين مقالات لا تنصاع بطبيعتها لأن يشملها سياق واحد، سوى أنّ صاحبها يلقي بلغته ظلاً شعرياً أحياناً وسردياً أحياناً أخرى، وهو أمر لم يكن من عادته في مؤلفاته الأخرى.
يهدي بنيامين كتابه إلى الليتوانية الثورية التي أسهمت في تحوّل فكره إلى المادية. وفي هذا الكتاب، يقدّم نفسه كاتباً يميل إلى الإبداعي أكثر منه إلى الفلسفي والنقدي، ليكشف عن الطفولة واللغة وعلم النفس والجمال والسياسة أيضاً. وكانت الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ قد رأت في تقديمها لـ«شارع ذو اتجاه واحد» في نسخته الإنكليزية، أنّ «صعوبة أسلوب بنيامين يمكن أن تُفهم كجزء أساسي من مشروعه الفلسفي، ويمكن من خلال قراءته الإحساس بمزيج من الفلسفة الغربية والماركسية».
وإن كان بنيامين يبدو في «شارع ذو اتجاه واحد» مفتوناً بالكشف عن مظاهر ذاته الداخلية، وأفكاره، وشيء غامض من ماضي بنيته الذهنية، فهو يفعل ذلك قائلاً أيضاً إنّه لا ينبغي الحديث عن كل تلك التفاصيل والخصوصيات إلا ضمن شيء أكبر منها وهو البنية التاريخية لزمانها. بنيامين هو ممّن عاشوا حقبة خطرة، كانت خلالها المذاهب الفلسفيّة والسياسيّة كلها على مسافة واحدة منه، ليتحوّل من اللاهوتية إلى المادية في موضع، ويهودياً رافضاً للصهيونية في موضع آخر.
إلّا أنّ الحديث عن تقديم فالتر بنيامين إلى العربية يحمل مفارقةً في باطنه. هذا الناقد الذي يعدّ مرجعاً في دراسات الترجمة، والمعروف كواحد من أعظم المنظّرين فيها (صاحب «مهمة المترجم» و«عن اللغة بحد ذاتها ولغة البشر»)، لم يُقدَّم إلى العربية إلّا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، كان أحدثها هذا العام مع «شارع ذو اتجاه واحد»، إضافةً إلى «شارل بودلير غنائي في عصر الرأسمالية» (دار ميريت» ــــ القاهرة) و«مقالات مختارة» (دار أزمنة ــــ عمان). وها هو الآن ينتقل إلى المكتبة العربية، بعدما مرّ بثلاث مراحل، يوم كان مجهولاً تقريباً في حياته ثم تحوّل إلى قطب وعلم ومرجع منزّه عن النقد، ثم صار الآن مؤلّفاً كلاسيكياً على حد تعبير روشليتز، وغدا عرضةً للنقد والمراجعة.
لعلّ بنيامين أهم فلاسفة ونقّاد القرن العشرين. وقد كانت صحّته العليلة سبباً في علاقته الوطيدة بالكتب والأدب والفسلفة، مثلما كانت سبباً لأن يضعه والده تاجر الانتيكات الثري في مدرسة داخليّة بعيداً عن عائلته في مدينة تورينجيا الألمانية. كلّ تلك الظروف دفعته باكراً إلى أحضان الفلسفة، والوجود الشاحب والخجول في الأوساط الأدبية.
وإن كان بنيامين يرى أنّ ثمّة رجالاً يسيئون للكتب، مثلما هناك رجال يسيئون للعاهرات ــــ وهؤلاء بنظره هم النقّاد! ــــ فهو واحد من أهمّ النقاد الذين قدّموا قراءة خاصة جداً لأعمال بودلير وبريخت وبروست وكافكا وغوته وغيرهم. لقد آمن بإمكان تجديد النقد الأدبي والفلسفة. وخصوصيته كناقد تتّضح لدى قراءة «مقالات مختارة»، حيث يقدم تأمّلات عميقة في الأدب والتشكيل والفن الفوتوغرافي وثقافة الصورة وأثرها في الفنون... إضافة إلى مقالته الشهيرة عن السريالية التي ناقش فيها الطاقة الثورية في أعمال بروتون وسوبو وديسنوس وإيلوار.
أمّا عمل بنيامين الأخير المعروف بـ «بواكي باريس» (1939) الذي وصفه بأنّه «مسرح كل معاركي وأفكاري»، فضمّ مجموعةً كبيرةً عن كتاباته عن باريس في القرن التاسع عشر. وقد بحث فيها الواقع الاجتماعي والمدني والفني والأدبي للمدينة. علماً أنّ بنيامين تنقّل بين باريس وبرلين وإيطاليا.
عندما بدأت الحرب العالمية الأولى، كان حلم بنيامين أن يقدّم ترجمةً مختلفةً لبودلير إلى الألمانية. في تلك الفترة، كانت صداقاته تتوطّد بريلكه وشوليم بعدما أكمل أطروحته في «مفهوم النقد في الرومانسية الألمانية»، ونال عليها درجة الدكتوراه. لكن بدلاً من أن يستمرّ في العمل أكاديميّاً، انتهى مستقبله في هذا المجال عندما هوجم بسبب مقالته «نشوء التراجيديا الألمانية» عام 1925. ويبدو أنّ ذلك لم يكن حدثاً سيئاً. إذ كرّس بنيامين جلّ وقته للبحث والترجمة والكتابة للصحافة، فقدّم ترجمته المرجعيّة لرائعة مارسيل بروست «بحثاً عن الزمن الضائع»، ومقالته المهمّة عن «الفن في عصر التكنولوجيا» و«نظرية في فلسفة التاريخ». هكذا، تتابعت كتاباته ومقالاته، وظل يحاول إتمام «بواكي باريس» طيلة حياته، لكنّ هروبه المستمر من النازية، ومحاولات انتحاره الفاشلة، وسوء أوضاعه النفسيّة والصحية والمادية... حالت دون ذلك. وإن كانت صداقاته بهيرمان هسه وحنّة أرندت وكورت فايل وثيودور أدورنو وجورج باتاي وآسيا لاسيس ــ التي وجدها نزيلة مصح للأمراض النفسية حين زارها في موسكو ــ مثّلت عوناً وجودياً ومادياً له أحياناً. إلّا أنّ كل ذلك تضاءل أمام وحشته الداخلية، حتى وصل إلى القشة التي قصمت حياته بعدما فشل في بلوغ البرتغال عابراً إسبانياً إلى الولايات المتحدة، هرباً من الجيش النازي الذي كان على وشك دخول باريس.
لو صبر ذلك الفيلسوف الشاب (48 عاماً) يوماً واحداً فقط، لكان قد نجح في بلوغ أميركا. إذ أفلح رفاقه كلّهم في العبور والنجاة، بعد يوم واحد على انتحار بنيامين بحبوب المورفين في فندق في بلدة بورت ـــ بو Port-Bou على الحدود الفرنسيّة ــــ الإسبانيّة، بعدما فشل في التنكرّ بهيئته تلك، وبثياب اللاجئين التي لم يستطع التخلّص منها. لكن هناك أطروحات مختلفة بشأن موته، منها من يقول إن الفاشيين قتلوه، ومنها من ينسب الجريمة إلى عملاء الستالينيّة.
في كتابه «شارع ذو اتّجاه واحد» الذي قال عنه بنيامين «إن هيئتي الأقدم تختلط فيه بهيئتي الأحدث»، أفصحَ هذا الناقد عن نفسه مبدعاً يمتلك اللغة الشعرية أيضاً. في مقطع «أدوات خيالية»، يقول: «رجل، يعتقد أنه منبوذ، يقرأ، ويغتمّ لرؤية الصفحة التي يودّ أن يطويها، مقطوعةً فعلاً وأنّها هي أيضاً لم تعد بحاجة إليه».
- إن كانت ترجمة فالتر بنيامين من الألمانية إلى لغات قريبة مثل الإنكليزية والفرنسية (التي كتب بها أحياناً) واجهت مشاكلها وأثارت خلافات ومعارك كثيرة، فكيف تكون الحال إذا نوقشت ترجمته إلى العربية؟ أين مكانها بالنسبة إلى رؤية بنيامين نفسه إلى الترجمة؟ إذ يرى أنّ الترجمة الأدبية قد تنتج شكلاً من سوء الفهم للنص الأصلي، بينما يمكن أن تنكشف في النص بشكله الجديد مظاهر كانت خفية أساساً وتختفي تلك الواضحة ويتعذّر الانتباه لها.
ما قُدِّم إلى العربية من أعمال بنيامين كان بجهود المترجم أحمد حسان الذي ترجم بالتتابع كتابه الذائع الصيت «شارل بودلير غنائي في عصر الرأسمالية» و«مقالات مختارة» وأخيراً «شارع ذو اتجاه واحد».
تذكّر ترجمة حسان لبنيامين بمقولة شلايرماخر مترجم أفلاطون إلى الألمانية، بأنّ ثمة احتمالين للترجمة: إما أن يَترك المترجم المؤلف في سلام ويحرك القارئ باتجاهه. وإما أن يترك القارئ في سلام ويحرّك الكاتب نحوه. لكن السؤال لمن يجهل مؤلفات بنيامين بلغتها الأصلية، إن كانت ترجمة حسان المنقولة عن الفرنسية تقدم بهذا المعنى ذلك الجوهري واللاجوهري (الفكري والشعري وهالة اللغة) في كتاباته؟
غير أن هذا القارئ نفسه لا يمكنه إنكار لغة حسان التي حفظت أو ابتدعت حرارة في النص بلغته الجديدة. فهو لم ينقل كتابته من لغة إلى أخرى فحسب، بل حاول توطين الكاتب في لغة جديدة وتغريب القارئ إلى لغة أخرى أيضاً، إضافة إلى التعريف الشامل ببنيامين، وعدم إحداث الانقطاع المعرفي الذي يحدث في الترجمات العربية عادة.
وإن كان حسان يقدّم ترجمةً عن الترجمة، فهل يعني هذا نقل عيوب تلك الترجمة إلى العربية أيضاً، من نقص في التعليقات والهوامش وغياب بعض المقالات أيضاً؟ هذه المسألة لا تتعلق بمؤلفات بنيامين فحسب، ولا بحسان الذي قدّم قطعة فنية بحق، إنه سؤال يتعلق بالترجمات العربية عموماً.
نوال العلي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد