فوّاز حدّاد : الأسئلة هي التي تحدّد توجّه الروائي
يعدّ الروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد من بين الروائيّين العرب البارزين، تطرّق في أعماله إلى كثير من القضايا التاريخيّة والراهنة، وقد تحوّلت بعض رواياته إلى أعمال تلفزيونيّة ومسرحيّة، أُدرجت روايته «المترجم الخائن» ضمن اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر العربية» في دورتها الثانية. يؤكّد حدّاد على دور الرواية الرياديّ، وعلى أنّها الأقدر على تلمّس ما في المشهد البشريّ من اتّساع وتعقيد وزخم وتعدّديّة، وعلى أنّها المرآة المتعدّدة السطوح والتقعّرات لحياة تفرز معضلاتها ومجاهيلها. كما يؤكّد على أنّ الجوائز لا تقدّم ولا تؤخّر، لأنّ العمل المتميّز فعلاً لا يحتاج إلى جائزة.
عن مجمل أعماله، عن عمله الجديد، عن عمله الذي يشتغل عليه، عن آرائه في عدد من المواضيع والقضايا، كان لنا معه هذا الحوار :
ـ تبدو في أعمالك دائم الانشغال بالبحث في القضايا الإنسانيّة، ابتداء بمجموعتك القصصيّة الوحيدة «الرسالة الأخيرة» التي تشكّل نواة لمعظم أعمالك اللاحقة، وحتّى عملك الأخير الهامّ «عزف منفرد على البيانو».. هل بإمكان الروائيّ المساهمة في إيجاد حلول لبعض القضايا..؟!
- لا يمكن فصل القضايا الإنسانيّة عن الرواية. انظر إلى الروايات التي تحسب اليوم من التراث الإنسانيّ، تجدها تصدّت لقضايا عصرها، وهي في جوهرها قضايا كلّ عصر، ولو اختلفت تجلّياتها وأبعادها. عموماً الأدب بطبيعته تأخذه هذه الإشكاليّات المادّيّة والروحيّة، تلك التي تعني الإنسان وعلاقته بالكون والأشياء وبأمثاله من البشر، لا يمكن الكتابة إلاّ من خلال رؤية مركزها الإنسان، ومن العبث القول بموته، مازال الإنسان هو الفاعل الأوّل في الحياة، والعقل المفكّر والمدبّر فيها. إنّ قدرته على البناء والتدمير، تفوق عطاء الطبيعة وفعل الكوارث.
وليس من التزيّد القول إنّ الرواية هي الأقدر على تلمّس ما في المشهد البشريّ من اتّساع وتعقيد وزخم وتعدديّة. يحاول الروائي ليس إعادة كتابة المشهد البشري بشكل موارب أو موازٍ فقط، وإنّما المساهمة في إيجاد حلول للقضايا التي تؤرقه، ويقترح كالآخرين شيئاً ما، تبدو أهمّيّته أقلّ من المشهديّة التي يرسمها. الرواية تضيء الكثير من جوانب الذات ومفاصل الحياة، وربّما حاولت التأثير في البشر، لكن دون أن تحقّق نجاحاً في إجراء تغيّرات ملموسة، إلاّ بالتراكم وعلى المدى الطويل. لكنّها، ولنكن واضحين، تساعدنا على فهم الحياة، وإن كان شيئاً من الصعب تحديده، ويختلف من قارئ لآخر.
ـ كتبت عدّة أعمال تاريخيّة تعدّ من المنعطفات في الرواية السوريّة والعربيّة «موزاييك دمشق 39»، «تياترو 49»، «صورة الروائيّ»، من غير أن تنساق وراء تقييد يَسِم التدوين التأريخيّ.. هل يمكننا القول بأنّك ودّعت التاريخ في الرواية بعد سلسلة من الروايات المعاصرة..؟!
ـ إذا كان الواقع قد ذهب بي إلى التاريخ، فأنا مازلت تحت ضغط هذا الواقع المتحرّك نفسه، ولا أستبعد أن يعيدني إلى التاريخ. إذن لا وداع ولا فراق. الروائيّ يخضع للأسئلة، وهي التي تحدّد توجّهه، أحدها بالنسبة إليَّ، ما الذي جعل الحاضر على هذه الشاكلة الملتبسة؟ لماذا يتعسّر قدوم المستقبل؟... إلخ، بمعنى، أحياناً نحن بحاجة إلى التنقيب في التاريخ. الجواب غير متوفّر في الكتب، ولا يكفي التنقيب، لابدّ أيضاً من التأمّل. قد نجد الجواب أو لا نجده، البحث هو القيمة الأهمّ، ثمّة شيء قد يبقى مفقوداً، الرواية بشكل ما دعوة إلى الآخرين للبحث عنه.
ـ تمّ تحويل عدد من رواياتك إلى أعمال تلفزيونيّة ومسرحيّة، ومؤخّراً كان عمل «الدوّامة» المأخوذ عن روايتك «الضغينة والهوى» التي تعدّ عملاً مفصليّاً مهمّاً، حيث تعالج عدّة محاور رئيسة، قد يكون من أهمّ تلك المحاور، الصراع المزمن بين الشرق والغرب، ورؤية الغرب للشرق.. وقد أبديتَ موقفك أكثر من مرّة حيال تلك الأعمال، على أنّها مبدعة، لكنّها مختلفة عن الرواية.. هل يعني ذلك قصور الصورة عن بلوغ سطوة الكلمة...؟!
- الصورة بحدودها غير قاصرة، وتفوق الكلمة بقدرتها على الوصف، بينما الكلمة لا تعدو أكثر من محاولة في هذا المجال. إنّ وصف منظر طبيعيّ بالكلمات لا يضاهي الأصل، أما إذا أردنا وصف تأثير المنظر علينا، فالصورة قاصرة، وهي بالمقارنة مع الكلمة تبدو سطحيّة وبرّانيّة، للكلمة قدرات لا يمكن للكاميرا، مهما بلغت من براعة، أن تدخل إلى مشاعر الإنسان وأحاسيسه، تكتفي بملامح الوجه، وتستعين بالمونولوج، أي بالكلمة.
إنّ بناء فيلم سينمائيّ يعتمد على المونولوج، سيكون بلا شكٍّ مديناً للكلمة، أي للنصّ الأدبيّ. في هذه الحالة، لماذا السينما، ما دام للصورة الأولويّة؟ بل وتشكل الكلمة تشويشاً على الصورة وتفقدها شيئاً من تأثيرها، بتحويلها الانتباه والاهتمام إلى الحوار، بينما ينبغي التركيز على العرض البصريّ، السينما وبالأساس صور متحرّكة. في تاريخ الفنّ السابع كانت أهمّ الأفلام تلك التي تجري توازناً بينهما. لذلك كان أفذاذ المخرجين السينمائيّين يعتمدون الصمت تأكيداً على قوة تعبير الصورة.
عندما حوّلت روايتي «الضغينة والهوى» إلى مسلسل تلفزيونيّ، أو «تياترو» إلى عمل مسرحيّ. اعتبرت أنّهما يمتّان لعالم مختلف عن عالم الرواية. ومن الطبيعيّ أن يجري تقييمهما بشكل يحيلهما إلى جنسهما. سؤالي دائماً، ترى إلى أيّ مدى استفاد التلفزيون والمسرح من الأعمال الروائية؟! برأيي، من الممكن الاستفادة .
ـ بالتركيز على «الضغينة والهوى» هل يمكننا اعتبارها رواية تتحدّى الأفكار المسبقة للمُستشرقين، وهل يأتي اشتغالك في روايتك التي تدأب على كتابتها حول تصوير الواقع العراقيّ، استكمالاً لدحض الأفكار المُسبقة روائيّاً.. أم أنّ المشهد مختلف...؟!
- بشكل عملي يتحدّى كتابي الأفكار الشائعة عن العرب، وبعضها كان من نتاج الاستشراق، وأغلبها عن الكتب الغربية الرائجة عن شرقٍ هو مادّة للغرائب، والأهمّ في القرن الماضي وبدايات هذا القرن، عن شرق هو مادّة للسيطرة والاستغلال. في الرواية انتقيت لحظة تقع في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، سجلت فيه تجلّيات الصراع في هذه الفترة المعقّدة، وكان النزاع على عدّة مستويات، في لوحة شاملة تغطي هجمة على المنطقة، سياسيّة اقتصاديّة عسكريّة دينيّة دبلوماسيّة ومخابراتيّة.
في ذلك الوقت، بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الدعوة إلى الانتظام في الأحلاف الغربية ضدّ الروس، لجعل المنطقة خط دفاع أول ضد الدول الاشتراكية، مترافقاً مع البحث المسعور عن النفط وظهور إسرائيل. بمعنى ليس هناك سوء تفاهم أو فهم، نحن مُستهدفون، كان المطلوب استعادة السيطرة على المنطقة بعد خروج الاستعمار وانتهاء الانتداب عن سورية ولبنان.
لكن، وهذه ميزة كبيرة للعسكر في ذلك الوقت، أنّهم لم يخضعوا لهذه الخيارات، وأرادوا أن يلعبوا لعبتهم، فطردوا السياسيّين من المسرح. وكانت المأساة أنّهم تبنّوا سياسة حرق المراحل، في وقت كان يحتاج إلى بصيرة سياسيّة.
عملي الحالي يأخذ منحى آخر، في السابق كانت القوى القوميّة واليساريّة هي التي لعبت الأدوار الكبرى في التصدّي للغرب، اليوم تضاءل دور هذه القوى، وظهرت الأصوليّة الإسلاميّة بقواها المعتدلة والمتطرّفة. هذا ما يجب فهمه دون تعنّت، ودون استطرادات مروّعة، وكأنّنا عدنا إلى عهود الظلام، يجب التمييز، المقاومات الإسلاميّة تلعب دوراً فعّالاً ومشرفاً.
لا أفهم، لماذا يوظّف الليبراليّون والعلمانيّون واليساريّون قدراتهم ضدّ التديّن، ويتنازلون عن أدوارهم الحقيقيّة كرائدين للمقاومة والتنوير والعروبة والعدالة... أدوارهم لا تنكر على جميع الجبهات، لماذا اختاروا مواقف هدّامة، وتركوا أماكنهم شاغرة؟
أتكلّم من منطق روائيٍّ، لا يسعدني أبداً النظر إلى الأمور من خلال منظار سياسيٍّ.
ـ في روايتك الأخيرة «عزف منفرد على البيانو» تعالج موضوعاً غاية في الأهمّيّة، الإرهاب الدوليّ، العلمانيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، «المفكّر فاتح القلج، الخبير سليم، الصديق ذي الوجه الطفوليّ، هيفاء.. وغيرهم»، هل تعدّ هذه الرواية بمثابة صفّارة إنذار لما يوشك أن يكون من واقع عالميّ، جرّاء تحكّم واستبداد القوى العظمى بهذا العالم، عبر أجهزتها الأخطبوطيّة التي تتغلغل في الأرجاء كلّها، ولا تترك استقلاليّة لأحد.. هل أردتها رواية استشرافيّة، قراءة مستقبليّة، تنبّؤيّة لواقع مأزوم...؟!
- أردت القول إنّ الدول بدأت في التحوّل إلى دول أمنيّة دون استثناءات كبيرة، وكلّ دولة لا يختلف حجم الأمن فيها عن غيرها إلاّ بمقدار ظهوره إلى العلن، كما أنّ التعاون سارٍ بين الجميع، الإرهاب ليس إرهاباً فحسب، إنّه نظرية كونيّة تعتقد أنّ الدنيا عبارة عن مَعبر إلى الآخرة، وتأخذ فيها مفاهيم الحلال والحرام والإيمان والكفر مبالغات تدميريّة.
المواطن العادي مهدّد من الطرفين، الدولة والإرهاب، وهو من يدفع ثمن تسلّط الدولة أو حروب الإرهاب، التي لا تخفي طموحاتها ولا مطامعها الأخرى، وهي الأساسيّة، وقد تكون الحرب على الإرهاب غطاء لها. ومن البديهيّ عندما تكون هناك حرب، فهذا يعني أنّ الطرفين غيَّبا الأطراف المعتدلة. المؤسف أنّه طالما قرأنا عن حروب كان تجنّبها ممكناً.
ولا غرابة في أن تكون العلمانيّة والوسطيّة من ضحايا هذا الصراع، ما هما بالنسبة إلى الدول سوى أوراق تقامر بها لحسابات مصلحيّة. الدولة أداة قمع عمياء، والإعلام يروّج لهذا القمع.
طبعاً أنا لا أقرأ المستقبل في رواياتي، وإنّما أردت طرح أسئلة، ولم أستطع تجنّب قراءة واقع مأزوم، أو توقّع أشياء، أحدها توطّد الدولة الأمنيّة.
ـ شاركت في البوكر لثلاث دورات، وكنت في الدورة الثانية في القائمة القصيرة، أتاحت لك هذه المشاركات المتابعة عن بعد تارة، وعن قرب تارة أخرى. وقلت(في مقالتك «بوكر العرب» في السفير الثقافيّ 1 كانون الثاني 2010) بأنّك لاحظت عدم خلوّ أيّة دورة من انتقادات حادّة أو خجولة، أو تناقل شائعات مغرضة وغير مغرضة.. لماذا البوكر، ولماذا يدوم اللغط في كلّ دورة..؟!
- أعتقد أنّ السبب هو اختلاف معايير النقّاد من دورة لأخرى، أي ليست هناك معايير ثابتة، وهذا من حسنات البوكر لا سيّئاتها. المهمّ استيفاء الشروط الأساسيّة من حيث جودة العمل والمستوى الفنّيّ المطلوب توافره. المعايير تختلف حول المضمون، ؟ أيّهم يلاقي صدى أكبر لدى المحكّمين.
هذا إذا افترضنا حسن النوايا، ولم تتدخّل أطراف خارجيّة،. الجائزة تحتاج إلى وقت كي تكرّس تقاليدها. عدا أنّ المنافسة تجري بين البلدان العربية. ترى ما هي العوامل التي قد تتدخّل؟! عموماً، ما يجب إدراكه جيداً، أنّ الجائزة لا تقدّم ولا تؤخّر، إنّ عملاً متميّزاً فعلاً لا يحتاج إلى جائزة.
مجاراة الرواية
لم يستطع فيلم مهما بلغ من إتقان، أن يجاري رواية عظيمة. وغالباً يلجأ المخرجون الكبار مثل فيلليني وأنطونيوني، إلى كتابة سيناريو خاصّ بهم أو الإشراف عليه. لا يمكن الاستناد إلى نصٍّ روائيٍّ إلاّ إذا طوّع للسينما بحجّة رؤية مختلفة للمخرج، وفي هذا إفقار للرواية.
استيعاب التاريخ
تنحاز الرواية لتجربتها، وتعطي من خلال السرد الأطراف كافّة حرّيّة التعبير عن أنفسهم. عدا عن قدرة الرواية على استيعاب التاريخ والفلسفة وعلم النفس... في ثناياها وباتّجاهاتها المتعارضة والمتناقضة. إنّها، ولا عجب، المرآة المتعدّدة السطوح والتقعّرات لحياة تفرز معضلاتها ومجاهيلها.
السينما والرواية
السينما العالمية لم تهمل الرواية، وأعادت تحويل الكثير من الروايات إلى السينما أكثر من مرّة، وفي كل مرة تحاول الاقتراب من النصّ لا أن تهمله، بل وتبحث في داخله عن أكثر من تفسير. بينما تجاربنا العربية تحيلنا إلى الكثير من الفرص المضيّعة.
هيثم حسين
المصدر: البيان
إضافة تعليق جديد