قومية ودين معاصران
عرف القرن العشرون، وبداية القرن الحالي، انتشارا كبيرا للرياضة كما لمفهومها "الحداثوي"، إذ أنها انتقلت – شئنا ذلك أم أبينا – من ممارسة شخصية، فردية، كان هدفها "التسلية" والمتعة، كي تصبح ظاهرة اجتماعية ذات اتساع كبير، وذات حضور طاغ بسبب الافتتان الجماعي الذي تحدثه، حتى إن كان أحيانا يبتعد عن السبب الرياضي البحت. فمن التمفصلات الكبيرة التي لا بدّ من أن تطالعنا اليوم، أن الرياضة تنظم جزءا كبيرا ومهما من الحياة الاجتماعية، وعبر هذه التنظيمات يتفرع كثير من الأمور: الاقتصادية (بالدرجة الأولى) والسياسية والوطنية والاتنية (على الرغم من أن هدفها الفعلي عدم التمييز بين الشعوب، ولا بدّ من أنكم تذكرون رحيل هتلر عن المنصة لعدم رغبته في تسليم الميدالية الذهبية للعداء الأميركي الأسود) وحتى الثقافية (لنعط مثالا قريبا، "المهرجان الشعري الأولمبي" الذي أقيم مؤخرا في لندن حيث دعي شاعر من شعراء البلدان المشاركة في هذه الألعاب التي افتتحت منذ أيام)... الخ. فالمجتمعات تجد اليوم في تنظيم الأحداث الرياضية الكبرى أكثر من مجرد مناسبة عادية للتجمع، بل أصبح الأمر بمثابة تظاهرات وظواهر "تموقع" (من إيقاع) و"تموسق" (من موسيقى) الزمن الجماعي، ليحمل في طياته كل التطلعات.
أصبحت الألعاب الرياضية، بمختلف مجالاتها وفئاتها، وسيلة حقيقية لنبش هذا الشغف الفردي والجماعي، إذ انها السبب في إثارة الحماسة عند المتفرجين كما ردات الفعل القوية، وهي ردات فعل لا بدّ من أن تذكرنا بتلك المهمة "الديونوسيسية" كما قرأنا عنها في الاحتفالات والعادات في العصور الإغريقية القديمة. نتناسى فعلا، أن كل لعبة، تحمل شرطها الذي لا نريد أن ننتبه له: هذه الحاجة الدفينة عند المشاهدين كي يشعروا بمتعة جماعية، كي يحسوا معا بالأمل والخيبة، ليقتنعوا بأنهم متحدون في هذه المغامرة الجماعية التي يعيشون لحظتها. بهذا المعنى يجد الباحث الاجتماعي الفرنسي باسكال بونفياس أن هذه الاحتفائية الجماعية أصبحت البديل الحقيقي للأعياد الدينية التي عرفناها في الماضي والتي كانت تجمع أفراد كل طائفة معينة للاحتفال بعيد ما أو ما شابه. بمعنى آخر، أصبحت الرياضة كأنها "دين" آخر، لنقل إنه "دين علماني"، على الرغم من أن بعض الأندية مثلا، لا بدّ من أن تبدو كأنها الناطق الرسمي باسم طائفة معينة (الأمثلة في لبنان لا تعد ولا تحصى على ذلك).
لكن مهما يكن، فثمة قواعد تبنيها الرياضة وثمة أمثلة تتبعها المجتمعات التي تحاول تعميمها. كل الدورات والبطولات، في أي بقعة من العالم، لا بدّ من أن تحتذي قواعد متماثلة، غير مختلفة، إذ تظهر على أنها عامل مهم من عوامل الاندماج الاجتماعي الذي يسمح لأي فرد في أن ينجح وفق موهبته، كما أن من أهداف البطولات والدورات هذه، أن تخلق جوا من العلاقات السلمية بين جميع الدول المشاركة، إذ هي بطولات تثير اهتمام العالم بأسره. فقط تخيلوا عدد المشاهدين الذين يتابعون بطولة العالم في كرة القدم أو عدد مشاهدي الألعاب الأولمبية (بين حاضر في أرض الملعب أو من على شاشة التلفزيون). صحيح أن ممارسة أي لعبة رياضية أو المشاركة في بطولة عالمية هي بمعنى من المعاني مكان ليحسن الفرد التأقلم على الحياة في مجتمع، لكن أيضا يشكل هذا منفذا ممكنا ليهرب المهتم (أكان لاعبا أم جمهورا) من ثقل الحياة المعاصرة ومن ثقل القضايا الاجتماعية التي تلاحقه. تخيّلوا فقط سير لاعبي أميركا اللاتينية الذين وجدوا في كرة القدم مثلا، شرطا أساسيا لتغيير وضعهم الاجتماعي ولتغيير حياتهم بشكل عام. إذ الممارسة الرياضية، هي بمثابة تَشكُل، إعادة اندماج، وأيضا اختراع أبطال، أو بالأحرى "آلهة".
لنعد إلى التسمية القديمة، الإغريقية: كان يسمونهم Athlètes لا sportifs أي ثمة تشكل جسماني انتبه إليه الإغريق. تمكن ترجمة الكلمة الأولى بـ"الرجل ذي العضل"، وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى فكرة الآلهة التي تتشكل عبر التماثيل التي كانوا ينحتونها. لم تكن الأعضاء الأخرى، الجنسية مثلا، مهمة في المفهوم الإغريقي، بل كان على الشخص أن يحمل هذا الجسد المتناسق، المتشكل من خلال العضلات، لأنه يرمز إلى الكثير من الأشياء. ربما التحول، بدا في أن التمثال كان غالبا عاريا، أما الرياضي اليوم، فغالبا ما يرتدي ملابسه، بمعنى أنه اخترع عادة جديدة في ارتداء الملابس، وقد انتبهت دور الأزياء لذلك، إذ أصبحت تطلب من الرياضيين أن يروجوا لملابسها (وللعطور والساعات.. الخ)، وذلك كله قد أفضى إلى علاقتنا الظاهرة بالثياب والملابس (أنظروا كم من ثياب وأحذية تحمل حاليا أسماء منتوجات رياضية، وحتى داخل هذه المنتوجات هناك أحذية رياضية مثلا تحمل أسماء لاعبين معينين). كل ذلك، لم يكن في النتيجة، إلا محاولة كي ينبثق من السلعة وجه بطل، أو وجه "إله"، بمعنى هذا البطل الذي نتماهى معه لأنه بالنتيجة يشكل، هذا البطل، صورة لمثال يحمل الكثير من مثلنا التي نبحث عنها: القوى، السيطرة على الذات، التغلب على الألم، الروح العالية، القيم التقليدية...
ليست فكرة البطل الإله وليدة العصر الحالي، بل هي موروثة في وعينا الفكري، منذ "إلياذة" هوميروس. لنرجع قليلا إلى واحدة من تلك الصور الزاخرة بها هذه الملحمة الاغريقة، وتحديدا إلى تلك المتعلقة بحرب طروادة، حيث كانت "الاحتفالات الجنائزية" السبب في إطلاق سباق للعربات حيث يتواجه "الرياضيون" الذين لم يكونوا سوى محاربين، وحيث كانت الصدف أحيانا تتخذ شكل تدخلات إلهية، أي بمعنى آخر، كانت أهمية المسابقة تسمح لل Athlètes بأن يحدّد نفسه ويقيسها: أي البحث عن البعد "الديني" وعن التقاليد في المواجهة، ولكي يبحث أيضا عن "الفرجة" مراهنا بذلك على قدرته الجسدية وعلى التشويق وعلى ردة فعل الجمهور، المتعاطف معه أو الواقف ضده.
ولو استمررنا في هذه القراءة لوجدنا أن ثمة "معونة إلهية" غير متوقعة، مادية، تحدث فجأة لتقلب كل موازين القوى. هل بهذا المعنى كان هوميروس يحذرنا من الغش؟ مليئة أيضا الألعاب الرياضية اليوم بمحاولات الغش، أقلها قضية المنشطات التي أصابت العديد من الرياضيين والتي حرمتهم من جوائزهم أو من المشاركة في البطولات الكبرى، وهي ظاهرة تحاربها بشدة الاتحادات الرياضية المختلفة. بهذا المعنى لا تبدو الرياضة هنا كأنها جنّة موعودة، بل أيضا صورة عن الانحرافات الكبيرة التي تصيب كل المجتمعات. ثمة رهان اقتصادي أيضا يلعب دورا كبيرا في ذلك، أيّ أن "الفرجة" الرياضية تثير اشمئزازا ما من أجل نزوات أخرى، أو لنقل غايات أخرى، لدرجة أنها شرعت باب الغش والخداع على مصراعيه. يكفي أن نستمع إلى إشاعات الرشاوى. ألم يتحدث الجميع عن الأموال الطائلة التي دفعتها قطر من أجل استضافة بطولة العالم العام 2022 ؟ ربما وربما لا، لكن الإشارة لا بد من أن تقود إلى التساؤل حقا حول انحراف هذه التجمعات الرياضية أي بدلا من كونها تجمعات لرفع الروح الصافية أصبحت اليوم مكانا لهذه التهافاتات المتعلقة بالهوية القومية التي تجلب معها كل أنواع العنف الذي ينتقل ليصيب الرياضة التي اعتبرها رابليه، المفكر الفرنسي، أنها البرنامج التثقيفي الحقيقي لكلّ الإنسانويين (Humanistes)، كما في كتابه "غارغونتويا". (وأهمية رابليه هنا، أنه وبعد أثينا والمدن القديمة جدا، كان أول من تحدث في عصر النهضة عن الرياضة).
إذا من مكان "المحبة" والتسامح والالتقاء، إلى مكان العنف المفتوح، بهذا المعنى تصبح الرياضة "قومية" أي أداة لموسقة السلطات السياسية والاقتصادية الخ،، وهنا النقطة الجوهرية التي تتيح للرياضة بهذا الانحراف الذي يصيبها اليوم، مثلما يصيب الجسد الرياضي الذي يريد أن يزيد في جرعة "روعة الأداء". هل بهذا المعنى يتحول الجسد الحقيقي إلى جسد افتراضي؟ لا بدّ بالتأكيد من إعادة النظر إلى هذا الأمر، وهو يتطلب تحقيقا وبحثا آخر.
في أي حال، ما الرياضة اليوم؟ كل النقاشات التي نسمعها يوميا، لا بدّ من أن تفضي إلى أنها انعكاس لآمالنا وتطلعاتنا، لكنها أيضا تفضي إلى خوفنا الكبير وإلى الرعب الحقيقي الذي يجتاح كلّ تفاصيل المجتمع. أي هي انعكاس لهذا المجتمع بأدق تفاصيله. لم يعد شيئا بريئا، ومع ذلك، لا بدّ من الدفاع عن هذه البراءة، أي بمعنى آخر، نقف اليوم فعليا أمام ظاهرة فقدان القيم الرياضية ومع ذلك نحاول أن نرى دائما أن في الرياضة هناك العديد من الأشكال الايجابية التي يمكن لها أن تحسن هذه الشروط الإنسانية.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد