لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟
هل تتوافق الإسلامويّة مع المواطنة والعيش المشترك؟
من المتعاطفين مع الإسلامويّة من يصفها بأنّها حركة عادة ما تتوافق مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، حتى ولو بمفردات قد تبدو مختلفة، ومنهم من يشير إلى أن ثمّة تيّارين يتواجدان ويتصارعان داخل جماعات الإسلام السياسيّ؛ أحدهما يتوافق مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك والآخر مناهض لهذه القيم، وأنه من السابق لأوانه معرفة لمن ستكون الغلبة في نهاية الأمر، ومنهم من يعتقد أن الإسلاميّين في طريقهم إلى التحول إلى التوافق مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، على الرغم من التحدّيات الكثيرة التي تنتظرهم في هذا الطريق. هؤلاء المتعاطفون مع الإسلامويّة يفترضون – ولو ضمنيّا – أن عدم توافق الإسلامويّة مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، مثل الديمقراطيّة وحقوق الإنسان وتقبّل الآخر وقبول التنوّع ليس بمشكل بنيويّ يكمن داخل فكر حركات الإسلام السياسيّ على وجه العموم.
ثمّة حقائق وملاحظات معاكسة لهذا الفهم غابت عن هذا التيّار الغربيّ المتعاطف مع الإسلامويّة:
أولا: تجاهل أن النصوص المؤسّسة للإسلامويّة ترفض التنوّع، وتَجنح للاعتقاد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فميل المعتقدين لنبذ القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك لا جدال فيه، بل نستطيع القول إن اللجوء للعنف من طرفهم ضد الآخر مؤكّد، ولا بدّ أن يظهر عاجلا أو آجلا؛ فالإسلامويّة هي رؤية شموليّة سياسيّة حركيّة للدّين، تعتقد أن هناك نموذجا معدّا مسبقًا يجب على المسلم اتباعه، وغير مسموح بالبحث عن نموذج “إسلاميّ” آخر غير نموذجهم.
يتجاهل هؤلاء أن نموذج الإسلامويّة أو فهمها الخاص المفعم بالسياسة للإسلام وَضَعَه بشرٌ، ولكن يُلبِسونه رداء القداسة، ويتماهى فيه الدّيني بالسياسي بدرجات مختلفة تبدأ بتأصيل العلاقة بين الدّيني والسياسيّ، مروراً بتقديس تلك العلاقة نهاية بتسيِيس كلّي للديني. لذلك يتعارض هذا النموذج كليا مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك كما تبيّن الاستشهادات التالية لأهم منظّري الإسلامويّة؛ فحسن البنا مُنشئ الجماعة ومُرشدها الأوّل يربط بين الدّيني والسياسي ولشموليّة نمط تديّنه الذي يقدّمه كأنه الإسلام ذاته، يقول: «نحن نعتقد أن أحكام الإسلام شاملة تنظّم شؤون الحياة في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنّون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العباديّة أو الروحيّة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسيّة ودين ودولة وروحانيّة وعمل ومصحف وسيف»، ويكمل عبد القادر عودة أحد أهم المنظّرين في جماعة الإخوان المسلمين في نفس الاتجاه محدثا الدمج الكلّي للسياسي في الدّيني وللدّين في الدولة، فيصبحان شيئاً واحداً لا يقبل التجزئة، يقول: «أصبحت الدولة في الإسلام هي الدّين، وأصبح الدين في الإسلام هو الدولة».
ثم يتعدّى القرضاوي مرحلة ربط الدّين بالسياسة وحتى مرحلة تقديس تلك العلاقة بجعل الدّين السياسي (الإسلامويّة) ديناً يحتوي الدّين نفسه، فيقول إن الإسلام (يقصد الإسلاموية أو فكر الحركات الإسلامية) أوسع من كلمة “دين” ويفصل ذلك قائلا: “ولذا فقد جعل علماء الأصول المسلمون الدّين إحدى الضرورات الست التي جاءت الشريعة لحفظها”.
تلك الرؤية الشاملة للعالم world view التي تتبنّاها الإسلامويّة تجعل من الفضاء الدولتي فضاءً دينيّا بامتياز؛ فالدولة تصبح هنا ضرورة دينيّة، وحتى الفضاء العام يجب أن يكون مشبعا بالدّيني تمام التشبع ومصادرا بالكامل من طرف الدّيني.
أما المصادر الرئيسة لشرعيّة نظام الحكم بحسب تلك الرؤية، فتتمثل في التوافق التامّ مع نمط التديّن الإسلاموي، والذي يمثّل فيه نمط التديّن الخاص بجماعات الإسلام السياسيّ تحديدا هو المصدر الوحيد للشرعيّة السياسيّة للدولة.
أخيرا، تنظر الإسلامويّة للتشريع لا باعتباره اجتهاد بشرٍ، ولكن من خلال ما تعتبره أنه شريعة الله، وهي في الحقيقة فقهُها وفتاوِاها الخاصّة التي حوّلتها بمرور الوقت إلى “أصول الدين” ...
إنها عمليّة هويّاتيّة بامتياز، ومبدأ تأسيسيّ للاجتماع البشريّ في دولتهم “الثيوقراطيّة”، حيث شريعتهم ورؤيتهم الخاصّة للدّين تصبح هي الأساس الذي يقوم عليه النظام السياسيّ والدولة. لا يمكن إذن أن تتوافق تلك الرؤية للعالم مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك.
ثانيا: تتجاهل تلك الرؤية الانعكاس الفعليّ لتلك الرؤية للعالم على سلوكيّات حركات الإسلام السياسيّ التي تقدّم نفسها بصفتها طائفة دينيّة ذات أهداف خاصّة، فرأينا من يقول من المنتمين إليها "اللهم أمتنا على الإخوان"، ومن يقول إنه "لا يصح الزواج من غير الإخوانيّة لأنها أدنى" …إلخ، ومنهم من يصف مخالفِيه في الرأي من أبناء وطنه حتى المسلمين منهم قائلا: “هؤلاء خصومنا ونعلم أنهم خصومنا، ولكن لم نباشرهم بعداوة ظاهرة؛ لأن غايتنا أبناؤهم ونساؤهم وأحفادهم، نحن لا نرغب في هؤلاء، نحن نرغب في أبنائهم، وأبناؤهم عندنا اليوم، وغايتنا أن نفصل أبناءهم عن رأيهم والحمد لله أن الله وفّق في ذلك”. وبالتالي قابليّة هذا التنظيم في الاندماج في الفضاء العام الوطني مشكوك فيها، فما بالك بالقول إن تلك الجماعة يمكن لها أن تتوافق مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك ويروَّج لها على أنها البديل الديمقراطي لبعض الأنظمة العربيّة كما يفعل هؤلاء المتعاطفون مع الإسلامويّة من الأكاديميا الغربيّة.
ثالثا: تجاهل “متلازمة الإخوان المسلمين”؛ أي مجموعة من العلامات والأعراض والظواهر المرتبطة مع بعضها تُلازم وتَنتج عن أي تواجد لهم في الفضاء العام وتتنافى مع القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك:
- احتكارهم الحقيقة والدّين.
- عزلة مُنتسبِيهم الشعوريّة عن المجتمع.
- الاستعلاء بنمط تديّنهم على المجتمع.
- سيادة شعار “أينما تكون مصلحة الجماعة فثم وجه الله” في ممارستهم السياسيّة.
- تحوّل المجتمع لحالة الصراع الدائم، ليصبح مجتمعا منقسما على نفسه وصولا للحروب الأهليّة.
- غياب مفهوم المواطنة وسيادة فكرة ولاء الفرد للجماعة وامتداداتها العابرة لحدود الدولة الوطنيّة.
خلاصة الأمر أنه لتوفير بيئة سياسيّة تسودها القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك يتوجّب تفريغ الفضاء الدولتي من الديني والعقدي والإيديولوجي؛ فالدولة لا يجب عليها أن تتديّن ولا أن تعادي الدّين، كما لا يجب أن تكون مؤدلجة ولا أن تعادي الفكر.
وفي الفضاء العام، يجب أن تحصر المنافسة بين الفاعلين السياسيّين على من يُدير الدولة بشكل أفضل في إطار دولة تنمويّة، وإخراج الدّين من مجالات المنافسة والصّراعات السياسيّة.
في هذا الفضاء العام، يكون للحركات والقوى السياسيّة الحق في اختيار وتبنّي المرجعيّة والإطار الأخلاقي؛ سواء أكان دينيّا أو أيديولوجيّا، لكن لا ينبغي فرض تقديسها على الآخرين أو منعهم من نقدها.
فضاء عام سياسيّ لا تعزل فيه الآليّة السياسيّة للديمقراطيّة (صندوق الاقتراع) عن معاييرها وشروطها السياسيّة والفلسفيّة الكامنة وراءها والتي بدونها لا يمكن للديمقراطيّة أن توجد.
شرعيّة الحكم يجب أن تكون قائمة وفقط على شرعيّة الإنجاز، وأن ما اتفق الناس عليه لتنظيم شؤون حياتهم هو المصدر الوحيد للتشريع.
تلك المعايير هي وحدها التي تستطيع ضمان القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، وهي تتعارض كليّا مع النصوص المؤسّسة لفكر حركات الإسلام السياسيّ أو “الإسلاموية”.
وائل صالح - موقع أصوات أونلاين.
إضافة تعليق جديد