مؤتمر«موسكو »للحوار الوطني السوري بعد وفاة مفاوضات «جنيف»
تحضّر الخارجية الروسية لعقد مؤتمر للحوار الوطني السوري في موسكو. موسكو ليست مجرد موئل لعقد المؤتمر المرجوّ، وإنما هي إطار سياسي للحوار والحل، وفق قواعد جديدة تتجاوز بيان «جنيف 1» العتيد؛ ذلك أن المشهد الدولي والإقليمي تغيّر كليا مذ ذاك؛ فالتفاهم الروسي الأميركي ـــ وكانت ذروته الاتفاق على تدمير الكيماوي السوري مقابل وقف العدوان الأميركي ـــ سمح بالرعاية الثنائية للمفاوضات بشأن سوريا، وفتح الباب أمام انعقاد «جنيف 2»؛
اليوم، بعد انفجار الصراع بين العملاقين في أوكرانيا، والعودة إلى أجواء الحرب الباردة والعقوبات والمقاطعة وسباق التسلّح، انتهى السياق الدولي السابق للأزمة السورية، وتبلور سياق دولي جديد، رُسمت معالمه حول الظاهرة التي احتلت المشهد كله، أي ظاهرة الإرهاب؛ الولايات المتحدة ذهبت نحو تجنيد حلفائها في تحالف حربي ضد «داعش» ، بينما ذهبت روسيا نحو التصدي للإرهابيين، وللأخطار الإقليمية المحدقة بسوريا، عبر زيادة تسليح الجيش السوري، كماً ونوعاً.
وفي مسار موازٍ، السعي نحو حل سياسي، يقطع الطريق على احتمالات التصعيد الأميركي والتركي، ويسمح للروس بالإمساك الكامل بخيوط الملف السياسي السوري.
سوريا وافقت، كما صرّح وزير الخارجية، وليد المعلّم، ، على المشاركة في «موسكو 1»؛ صحيح أنها كانت تفضّل عقد مؤتمر الحوار السوري ـــ السوري في دمشق، لكنها أبدت تفهمها للطلب الروسي؛ خصوصا أن العلاقات السورية ـــ الروسية تتجه إلى آفاق استراتيجية غير مسبوقة في جميع المجالات.
في «جنيف 2» كان الوفد السوري يلح على أولوية محاربة الإرهاب؛ الآن، أصبحت هذه الأولوية مكرسة في قرارات أممية، وتشكّل عنوانا للتحالف الأميركي للتدخل في سوريا والعراق، في حين كان وفد المعارضة يلح على أولوية نقل السلطة في سوريا؛ وهي قضية لم تعد مطروحة على جدول الأعمال الدولي. هكذا، فإن «موسكو 1» لن يكون استمراراً لـ «جنيف 2»، ولكنه سيؤكّد هذه المعادلة الجديدة.
الوفد السوري سيكون جاهزا لدى توجيه الدعوات، كذلك المعارضة الداخلية ـــ السلمية التي تحتفظ روسيا بعلاقات وطيدة مع أطرافها. هذه الأطراف التي رفضت أو مُنعت من حضور «جنيف 2»، ستكون حاضرة في «موسكو 1» الذي لن يستثني أحدا سوى الإرهابيين التكفيريين. وهذه ميزة أولى للمسعى الروسي، بخلاف ما حدث في «جنيف 2»، حين كان همّ الدول الغربية، كما كتب هيثم مناع، «ممارسة حق الفيتو على كل من ليس تحت السيطرة من المعارضة وكل من ترفض الدول المشاركة في التمويل والتسليح والتمرير للمسلحين (تركيا، السعودية، قطر) اعتباره معارضة سورية».
الميزة الثانية أن الروس يأملون باستعادة مفاتيح حل الأزمة السورية، من أيدي القوى الإقليمية والدولية، إلى الداخل السوري، ما يسمح بتفاهمات خارج الضغوط، وتوحيد السوريين في مواجهة الإرهاب.
بدأت الخارجية الروسية، بالفعل، مباحثاتها مع أوساط في «الائتلاف السوري» الذي احتكر تمثيل المعارضة في «جنيف 2 «. وإذا كان معاذ الخطيب، رئيس وفد « الائتلاف» إلى موسكو، كرر، بعناد الأطفال، المعزوفة القديمة حول «رحيل الرئيس بشار الأسد»؛ فإنه يدرك، ولا بدّ، أن مجرد الذهاب إلى العاصمة الروسية، لا للسياحة وإنما للتباحث حول «تطورات الأزمة السورية»، يعني، بوضوح، الانطلاق من تلك التطورات بالذات، وأهمها ثلاثة، (1) تجديد شرعية الرئيس في انتخابات ذات صدقية عالية، على الأقل بالنسبة للخارجية الروسية التي أعلنت، منذ 5 حزيران 2014، أن «انتخابات الرئاسة السورية شهدت نسبة مشاركة عالية وجرت في أجواء حرة ونزيهة، فاز فيها الأسد بأغلبية ساحقة، رغم محاولات المعارضة المسلحة، تخويف المواطنين»؛ (2) النجاحات الميدانية المتراكمة للجيش السوري، وفق الخطة الموضوعة لتحرير المدن الكبرى وشبكة المواصلات في ما بينها؛ (3) التفاهم الواقعي الناشئ بين دمشق وواشنطن في سياق الحرب على « داعش»، والذي يعزّزه المسعى الأميركي للتعاون مع إيران ضد ذلك التنظيم الإرهابي؛ فرسالة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى قائد الجمهورية الاسلامية الإيرانية، علي الخامنئي، في هذا الصدد، هي، في الواقع، رسالة إلى الأسد، ولا يمكن ترجمتها، ميدانيا، من دونه.
«الائتلاف» الذي وافانا ميشيل كيلو، في أكثر من مقال له، بتفاصيل تفكّكه الداخلي وانهزامه الذاتي، لم يعد يحظى بغطاء دولي أو اقليمي؛ تجاوزته «التطورات»، كما تجاوزت «الجيش الحر»، ولم يعد أمام قواه وشخصياته من أمل للبقاء في الميدان السياسي، سوى بالتفاهم مع الروس، وهذا يعني التفاهم مع دمشق.
وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، سمع، وسيسمع، بالطبع، الكثير من مداخلات المعارضين، المنفصمة عن الواقع الفعلي لموازين القوى، لكنه سيداري الابتسام، متفهما الاحتياجات النفسية للمعارضين، وكذلك، اضطرارهم إلى التنافس، في ما بينهم، في التشدد اللفظي؛ ففي النهاية، لا تعدو مساعي موسكو مع أولئك الذين فاتهم القطار، إلا أن تكون سلّما للنزول عن الشجرة. ينطبق ذلك، أيضا،ً على الزعيم اللبناني، وليد جنبلاط ؛ فالأخير عاد أدراجه إلى الحليف الروسي القديم، كيما يجد لنفسه موطئ قدم في الترتيبات السورية ـــ اللبنانية التي تتبلور، اقليميا ودوليا. هنا، يمكنه أن يلعب دورا في التحضير لـ «موسكو 1».
تنظر دمشق إلى «موسكو 1» باعتباره حاجة سياسية روسية، لا سوريّة؛ فالدولة التي تكاد تنهي أربع سنوات من الصمود، لم تعد، اليوم، في خطر أو قلق يضطرها للتفاوض مع خصوم محليين، فقدوا الدعم الشعبي والرعاية الدولية؛ فالصراع في سوريا الآن، تخطى المحاور الداخلية المتعلقة بمطالب سياسية أو اجتماعية أو جهوية أو طائفية، و تحوّل إلى صراع دولي ـ اقليمي محوره الرئيسي هو معالجة الظاهرة الإرهابية المتنامية في المشرق العربي؛ وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نقرأ التفاهم الواقعي بين دمشق وواشنطن، بل وآفاق التحالف مع مصر السيسي، والخرق العُماني للمقاطعة الدبلوماسية الخليجية لدمشق ــــ حيث جرى افتتاح سفارة السلطنة مجددا ــــ وكذلك اقتراب عودة العلاقات التونسية ـــ السورية الخ.
ومن الواضح أن الأغلبية الساحقة من السوريين تصطفّ، اليوم، وراء الدولة والجيش في مواجهة الإرهابيين، وبحثا عن السلام والأمان، بينما أصبح اجتثاث الإرهاب ـــ لا اجتثاث نظام الرئيس الأسد ـــ هو الهدف المركزي الذي لا يمكن تحقيقه من دون دمشق، المطمئنة إلى أن القضية السورية، تحولت إلى كونها قضيّة روسيا المكافحة لبناء نظام دولي متعدد القطبية.
غير أن السياسة السورية تمتلك من المرونة والحس بالمسؤولية، ما يجعلها تتعاطى بجدية مع «موسكو 1»، أملا بالتوصل إلى إطار وطني للئم الجراح ومجابهة الإرهاب وإعادة البناء؛ فهل تغتنم المعارضة السورية، بكل أطيافها، هذه الفرصة الأخيرة لاحتلال المواقع الممكنة في مشروع وطني أم أنها ستواصل التصرّف بعقلية «الربيع العربي»، حين كانت فضائية «الجزيرة» تقود الجماهير المضلّلة نحو الكارثة، وتنجح القوى الرجعية في الخليج وتركيا والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، في مسلسل استخدام البترو دولار والدعم الامبريالي والغضب الشعبي المشروع، لتسقيط الدول ونشر الفوضى؟ لقد صمدت سوريا، الوقتَ الكافي لانتهاء لعبة «الثورات» الملوّنة الملوّثة بدماء الوطن والمواطنين؛ وعلى المعارضة السورية الآن أن تواجه لحظة الحقيقة.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد