ما هي مشاكل التكامل الاندماجي الوطني لدول المنطقة:
الجمل: تعتبر مشكلة التكامل الاندماجي الوطني، من أعقد المشكلات التي ظلت تواجه دول العالم الثالث في فترة ما بعد الاستقلال، وقد شكلت هذه المشكلة البؤرة الرئيسية المركزية التي خرجت منها الأزمات والاحتقانات التي عصفت بالاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي ولّد الحروب الأهلية والتوترات الإقليمية في بلدان العالم الثالث.
التكامل الاندماجي الوطني، يقصد به، عملية التوحيد الداخلي وانصهار الفئات والشرائح الاجتماعية على أساس اعتبار وحدة الانتماء الوطني، وفي منطقة الشرق الأوسط ماتزال الكثير من الدول تعاني من ظاهرة عدم تحقيق تماسك القوام الاجتماعي الوطني، على النحو الذي أدى إلى مواجهة هذه البلدان إلى الكثير من العواقب الوخيمة، ومن أمثلة ذلك:
• لبنان: تقوم صيغة الدولة اللبنانية على أساس المحاصصة الدستورية بحيث يتم تقسيم السلطة بين الطوائف، لا على أساس اعتبارات المواطنة والكفاءة، وإنما على أساس اعتبارات الانتماء الطائفي، وقد أدى تسييس الانتماءات الطائفية إلى بروز العديد من الكيانات السياسية الطائفية، الأمر الذي قاد –على خلفية التعبئة السياسية وصراع السلطة والثروة- إلى المزيد من الاختلالات في توازنات المصالح الاقتصادية والسياسية داخل لبنان، الأمر الذي فتح أبواب الحرب الأهلية اللبنانية، والتي أصبحت ظاهرة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط.. وأصبح معها كلما خرج لبنان من حرب أهلية، فإن الاستقرار الذي يتمتع به لا يكون سوى مجرد محطة جديدة في انتظار الحرب الأهلية القادمة.
• العراق: برغم جهود النظام العراقي السابق في بناء التكامل الوطني الاندماجي، إلا أن تورطه في الصراعات الداخلية (خلافات مع الشيعة، وخلافات مع الأكراد)، والصراعات الإقليمية (الحرب ضد إيران، احتلال الكويت)، والصراعات الدولية (رفض الانسحاب من الكويت، ورفض مطالب الجامعة العربية، ورفض قرار مجلس الأمن، ومواجهة التحالف الدولي).. جميعها أدت إلى تفاقم الخلافات، لا بين العراق وجيرانه وحسب، بل وداخل العراق نفسه، الأمر الذي استغلته القوى الخارجية (إسرائيل، أمريكا، بريطانيا) وقامت باحتلال العراق، واستغلال عدم قيام النظام العراقي السابق بإنجاز عملية التكامل الاندماجي الوطني، بعملية زرع الفتن والنزاعات بين الفئات والشرائح الاجتماعية العراقية المنقسمة، التي لم يتفرغ النظام السابق لعملية دمجها وصهرها ضمن بوتقة الانتماء الوطني.
التجربة السورية في بناء التكامل الوطني الاندماجي، تعتبر الأكثر نجاحاً في منطقة شرق المتوسط، مقارنة بدول المنطقة الأخرى، فلبنان غير قادر على التحول من دستور المحاصصة الطائفية إلى الدستور الذي يستند على اعتبارات المواطنة والانتماء الوطني، والعراق أصبح باتجاه اصطفاف طائفي- إثني- فيدرالي إن لم يؤد إلى تقسيمه فإنه سوف يؤدي إلى فدرلة العراق طائفياً واثنياً ضمن ثلاثة كيانات لا يوجد بينها إلا دستور المحاصصة الطائفية. أما الأردن فمايزال مقسماً ضمن هرم يجلس على رأسه العاهل الأردني، وتقبع في قاعدته العشائر الأردنية.. وترتبط قاعدة وقمة الهرم وفق خطوط عقد اجتماعي عشائري، أصبح مهدداً بالانفراط في ظل الضغوط الدولية والإقليمية، ولولا الرعاية الإسرائيلية- الأمريكية للنظام الملكي، لكان وضع عملية التكامل الاندماجي الوطني أفضل في الأردن، وعلى ما يبدو فإن مخطط إسرائيل- أمريكا إزاء الأردن يهدف إلى كشف الغطاء ونزع الفتيل عن العقد الاجتماعي العشائري- الملكي في الوقت المناسب، والأمر كله على ما يبدو رهن إشارة إسرائيل، وبعدها يصبح الأردن، شيئاً آخر.
تتميز سوريا بظاهرة الوحدة في التنوع، وهي ظاهرة فريدة من نوعها لا في منطقة شرق المتوسط، بل وفي عموم بلدان العالم الثالث، ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
- التنوع: يوجد في سوريا تنوع ديني (إسلامي، مسيحي)، وطائفي (إسلامي: سني، شيعي، اسماعيلي....الخ. مسيحي: كاثوليكي، أرثوذكسي...الخ).. وتنوع لغوي (عربي، كردي، أرمني، ادايجي... حوالي 16 لغة ولهجة).. أما التنوع الاثني فيمكن القول بأنه لم يعد يشكل فاصلاً مثلما هو موجود في الكثير من دول العالم، وذلك بسبب عملية الانصهار التي قطعت شوطاً طويلاً متقدماً على النحو الذي ألغى (الفوارق الاثنية في سوريا).
- الوحدة: يتميز السوريون على اختلاف أديانهم وطوائفهم ولغاتهم بوحدة وقوة مشاعر الانتماء الوطني السوري والقومي العربي.. ويعطون الأولوية القصوى لهذه الانتماءات.
إن أبرز المعالم في نجاح عملية التكامل الاندماجي الوطني، وتوحيد الانتماء الوطني السوري والقومي العربي، تمثلت في:
• التنمية المتوازنة: برغم كل الانتقادات والخلافات حول أداء الاقتصاد السوري، إلا أنه يعتبر الأكثر نجاحاً في المنطقة، ومن أبرز الدلائل على توازن التنمية، زوال الفوارق بين المدينة والريف في سوريا، ومن يذهب إلى أي قرية (أو ضيعة) سورية، فإنه يجد خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات والعلاج والتعليم والأمن متوفرة ومتاحة بالكامل.. كذلك تتميز الأسواق السورية بالتوازن، بحيث نجد أن أسعار السلع الأساسية والضرورية متساوية في كل المحافظات، الأمر الذي جعل المواطن لا يواجه ضغوط اختلاف وتباين الأسعار.. وهذه المظاهر وغيرها لا نجدها في كل دول المنطقة، حيث مايزال الفرق واسعاً بين الريف والمدينة، والأسواق تتضمن المزيد من التباينات واختلالات الأسعار الحادة، على النحو الذي أدى إلى ظاهرة الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة، وأيضاً إلى شعور سكان الأرياف بالظلم والضيم من جراء تدهور الخدمات وارتفاع الأسعار غير المبرر.
• التسامح الاجتماعي: أدت التنمية المتوازنة والتعبئة السياسية الفاعلة المستندة إلى الوطنية السورية والانتماء القومي العربي إلى تفشي ظاهرة التسامح الاجتماعي بين سكان القطر العربي السوري، وحالياً تضم المدن السورية الرئيسية ومحافظات القطر، خليطاً من كافة فئات وشرائح سوريا الاجتماعية، وهم يتعايشون برغم انتماءاتهم الفرعية، ضمن هوية واحدة رئيسية تقوم على اعتبارات وحدة المواطنة وحب الوطن.
• التفاعل الإيجابي: يتميز الأداء السلوكي للفئات والشرائح الاجتماعية السورية بالإيجابية إزاء قضايا البيئة المحلية والوطنية والعربية، فالشارع العربي السوري يرفض التدخل الأجنبي أياً كان، ويرفض الارتباط بالقوى الأجنبية أياً كانت، وحصراً تركز منظومة القيم الاجتماعية على متغيري وعي الذات، والاعتماد على الذات في مواجهة المشاكل والأزمات المستعصية.
وعموماً نقول: لقد أدت التجربة السورية في التكامل الاندماجي الوطني إلى درء الكثير من الأزمات المحلية والإقليمية عن سوريا والسوريين، وعلى سبيل المثال، نجد أن الحروب الأهلية التي اندلعت شتى بلدان العالم الثالث قد انتقلت عدوانها بكل سهولة إلى دول الجوار، والآن برغم أن سوريا تقع في منتصف مثلث الصراعات الداخلية الأخطر في العالم: العراق، لبنان، فلسطين.. فإن عدوى هذه الصراعات لم تستطع الانتقال إلى سوريا، وهي ظاهرة لا يوجد مثيل لها في العالم المعاصر، فقد انتقلت عدوى الحروب في منطقة الهند- الصينية (جنوب شرق آسيا) خلال فترات صراعات كمبوديا، لاوس، فييتنام. وانتقلت عدوى الحرب الأهلية الأثيوبية إلى الصومال. وانتقلت عدوى الحرب الأهلية في جنوب السودان إلى أوغندا وكينيا ودارفور وتشاد. وانتقلت عدوى حروب يوغسلافيا إلى عموم منطقة البلقان.
لقد أدى تقدم السوريين في عملية التكامل الاندماجي الوطني إلى تماسك القوام المجتمعي السوري بشكل ألغى تماماً حساسية الفوارق والانتماءات الدينية والطائفية والاثنية، وما لا يعرفه الكثير من العرب، وأيضاً ما لا يعرفه الكثير من السوريين أنفسهم هو أن كل من حكموا سوريا قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد كانوا من الأكراد.. وفي هذه الحقيقة تأكيد واضح على تماسك القوام الاجتماعي السوري وعلى أن الشارع السوري يهتم بالانتماء الوطني دون غيره في كل الاعتبارات المتعلقة بوحدة الوطن والمواطنة، ومن هنا نقول: إن تجربة التكامل الاندماجي الوطني، جديرة بالاهتمام والدراسة، والإهداء لشعوب العالم الثالث الأخرى التي مزقتها الصراعات الداخلية، وعلى وجه الخصوص: لبنان، العراق، والصومال والسودان.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد