مياه تركيا إلى اسرائيل ... الروح تدب في الفزاعة من جديد
منذ ثمانينات القرن الماضي وأثناء تولي طورغوت اوزال رئاسة الوزراء في تركيا، دأبت مصادر اسرائيلية وتركية على الترويج لمشروع يرمي الى نقل المياه العذبة من نهر مانافغات التركي الذي ينبع من هضبة الاناضول ويصب قرب مدينة انطاليا على ساحل البحر الابيض المتوسط وتوصيلها الى ميناء عسقلان في اسرائيل.
في تلك الفترة بلغ غضب رئيس الوزراء التركي اوزال مداه بسبب ارتفاع اسعار النفط وبالتالي ارتفاع قيمة الفاتورة التي تدفعها تركيا جراء استيرادها النفط من البلدان العربية (العراق وبلدان الخليج). لذا، طالب في بعض تصريحاته الغاضبة بحجز نصيب لتركيا من ثروة ذلك النفط، لأنها تزود سورية والعراق بالمياه من نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الهضاب التركية ويسيران في الاراضي السورية والعراقية مسافات طويلة، ثم يلتقيان في شط العرب جنوب العراق، قبل ان يصبا في الخليج العربي!
لم تكن مقاربة اوزال بين موضوعين لا رابط بينهما، بحسب القوانين الدولية، هي الأبرز، اذ لم يكن الغضب التركي مقتصراً على بعض البلدان العربية فقط، بل كان هناك غضب عارم أيضاً، بسبب وجود بعض القواعد الخلفية لـ»حزب العمال الكردستاني» في سورية والعراق. اذ كان هذا الحزب يشن عمليات عسكرية في بعض المناطق التركية، في جنوب شرقي البلاد، ولا يزال حتى اليوم، على رغم اعتقال زعيمه عبدالله اوجلان بعدما طلبت منه سورية مغادرة اراضيها، خصوصاً ان الغضب التركي ترجم حشوداً عسكرية أنذرت بحرب حقيقية بين البلدين عام 1998.
لذا، تنفيساً لهذا الغضب العارم وتنفيذاً لسياسات استراتيجية تركية تتعلق بالمياه كانت رُسمت سابقاً، تم الاعلان عن:
- البدء بدرس انشاء عشرات السدود المائية على نهري دجلة والفرات لحرمان سورية والعراق من اكبر كمية من المياه يمكن حجزها وتعطيل وصولها الى البلدين. علماً ان القانون الدولي يفرض وصول كميات مناسبة من مياه الانهار العابرة للبلدان المتجاورة. وقد نشأت أزمات متلاحقة ومضايقات حقيقية في تلك الفترة، هددت بتغييرات جغرافية وديموغرافية في سورية والعراق اذا استمرت تركيا في التلاعب بكميات المياه المتدفقة الى البلدين.
- السعي الى توطيد العلاقات مع اسرائيل – وهي رغبة مشتركة – من خلال انشاء حلف بينهما، واقامة تعاون أمني وعسكري وتبادل تجاري... ومنافع اقتصادية اخرى، أهمها: الاعلان عن محاولة لانشاء مشروع نقل مياه من تركيا الى اسرائيل.
مشروع فزّاعة!
ومن يومها، كلما حصلت زيارة من جانب مسؤولين اسرائيليين الى تركيا او العكس، وخصوصاً في موعد مراجعة شراكتهما السنوي، كانت تصدر تصريحات من الجانب الاسرائيلي تأتي على ذكر المشروع – الفزّاعة. وغالباً ما كان يتولى السفير الاسرائيلي في انقرة الحديث عن ذلك المشروع. بل حدد، في احد تصريحاته، كمية 50 مليون متر مكعب لنقلها سنوياً من ميناء انطاليا التركي الى ميناء عسقلان على الساحل الفلسطيني المحتل. وثمة مصادر صحافية تفيد ان اتفاقاً رسمياً وُقّع بين البلدين لتنفيذ المشروع.
السؤال الاساس في هذا المجال: اذا كان المشروع يعزز الشراكة والتحالف السياسي بين تركيا واسرائيل، فكيف يمكن نقل المياه وتوصيلها الى ميناء عسقلان؟
توالت التصريحات والاجتهادات الاسرائيلية التي تفيد ان ذلك يمكن ان يتم عبر وسائل عدة:
1- من خلال انابيب! الا ان عقبة مرور هذه الانابيب في الاراضي السورية واللبنانية براً، تحول دون تنفيذ المشروع في هذه المرحلة، بسبب الظروف والصراع القائم بين اسرائيل وهذين البلدين.
2- من طريق حفر أنابيب ومدها في البحر! لكن تبين ان ذلك غير عملي ومكلف جداً. ويمكن تعطيل الانابيب البحرية وتفجيرها بسهولة من جانب أي جهة متضررة.
3- من خلال تحميل حاويات بحرية ضخمة لنقل المياه بين الميناءين التركي والاسرائيلي، قيل ان كندا تتولى تصنيعها من مادة البلاستيك. الا ان المصادر الخبيرة والمتابعة افادت ان بعض تلك الحاويات انفجر وغرق حطاماً في البحر من تلقاء نفسه، بسبب تعقيدات فنية تتعلق بالتصنيع والتحميل والتيارات والامواج والعواصف البحرية...
ويفيد الخبراء أن 50 مليون متر مكعب من مياه الشفة ليست كمية كبيرة، ويمكن مصانع تحلية مياه البحر أو المياه المبتذلة في اسرائيل توفيرها بسهولة اذا ارادت اسرائيل ذلك. وتبين ايضاً ان كلفة نقل كميات المياه المشار اليها تزيد عن كلفة التحلية كثيراً. كما تبين انه في حال اعتماد خيار نقل المياه جدياً من انطاليا الى عسقلان، بعيداً من الاخطار، فيجب إعداد وبناء تجهيزات فنية مهمة تتعلق بالبنية التحتية، فضلاً عن تجهيز معدّات للاغراض المتعلقة بنقل المياه في الميناءين المذكورين. وهذا يكلف كثيراً، خصوصاً اذا اقتصر الأمر على نقل المياه بين تركيا واسرائيل فقط.
عاد السؤال نافراً منذ وصول حكومة حزب «العدالة والتنمية» ذات التوجهات الاسلامية في انقرة، وانتهاجها سياسة أقل انحيازاً واكثر توازناً في العلاقة التركية مع اسرائيل والبلدان العربية، بما في ذلك مع الفلسطينيين: هل من مصلحة تركيا الابقاء على مشروع – فزّاعة، اطلقت عليه صفة «استراتيجي» بين تركيا واسرائيل، مع ما يتركه ذلك من تأثيرات في العلاقات مع البلدان العربية؟ علماً ان مشروع نقل المياه بين البلدين تبين انه غير مجد، عملياً وتجارياً واقتصادياً، وأن فاتورة الكلفة ستكون عالية جداً، خصوصاً ان اسعار مادة النفط المهمة جداً للتشغيل والنقل والتفريغ وصلت الى مستويات قياسية غير مسبوقة!
لذا، فإن حفظ «ماء» الوجه قضى بتعليق تنفيذ المشروع – الفزّاعة، وإعلان ذلك اخيراً بين الحكومتين التركية والاسرائيلية، «على أمل اعادة احيائه في المستقبل»، بحسب ما جاء في البيان الرسمي المشار اليه. وذلك في ظل نجاح الستار الدخاني الذي قام على مبدأ «أفضل وسائل الدفاع هو الهجوم» الذي تولى بكفاءة التغطية على خطة انشاء عشرات السدود المائية على الانهار التركية – من بينها دجلة والفرات – وتم التلاعب بكميات ونوعيات المياه التي يسمح بجريانها الى سورية والعراق!
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد