نوري اسكندر وجذور الموسيقى السورية
اشتهر الباحث والموسيقي نوري اسكندر باشتغاله على الموسيقا الشرقية وبحثه عن جذورها وجمعها ونقلها من تراث شفوي معرض للضياع، إلى مدونات يمكن أن تعطي فكرة واضحة عن التطورات التي مرت فيها في مختلف العصور.
حيث سيتمكن المهتمون بالموسيقا أن يتابعوا آخر أعماله في الحفلة التي سيقيمها في دار الأسد للثقافة والفنون في السابع من شباط الحالي.. في هذا الإطار وحول الموسيقا الشرقية القديمة وضرورات تطوير الموسيقا السورية الرائدة تاريخياً.. هذا اللقاء:
ـ ينتظر المهتمون بالموسيقا عملك الجديد الذي سيقدم في السابع من الشهر الحالي.. فهل يمكن إعطاؤنا فكرة عنه؟
في الحفل الذي سيقدم في السابع من الشهر الحالي، سيطلع الجمهور على أعمال جديدة، وسيتم توزيع قرصين ليزريين يحتوي الأول كونشرتو للعود ولأوركسترا الحجرة (آلة الوتريات) والثاني كونشرتو (تشيللو) مع الوتريات، ثلاث آهات صغيرة ومغناة بعنوان (مدخل إلى الصوفية) هذه التجربة الموسيقية الغنائية تعتمد على التراث في الموسيقا الدينية الإسلامية وأيضاً الموسيقا المسيحية، وهي من كلمات ياسر حمود وخير الدين الأسدي، وهناك في القرص الثاني حوار المحبة الذي كتب عام 1995 وقدم في مهرجان الأغنية السورية في حلب وهو عبارة عن مجموعتين من الكورال تضم تراتيل دينية مسيحية وإسلامية تشكل نسيج الشعب السوري منذ زمن طويل.. والجدير ذكره أن هذا العمل يقام برعاية السيدة أسماء الأسد التي تولي اهتماماً خاصاً بالموسيقيين السوريين وذلك بهدف دعم الابداع وخلق مناخات جديدة على صعيد هذا الفن الراقي في حياة الانسان.
ـ من المعروف أنك اشتغلت على جمع الموسيقا السريانية القديمة، فما هو هذا المشروع وما النتائج التي توصلت إليها؟
عملت في الموسيقا السريانية منذ عام 1958 حتى الآن، ومنذ أن كنت شمّاساً في الكنيسة اكتشفت ألحاناً كثيرة مع تنويعات وإبداعات مركبة ضمن الطقوس الدينية على مدار السنة، وقد جمعت كل ذلك من المصدر تماماً فهذه التنويعات كانت تراثاً شفهياً فقمت بكتابتها موسيقيا ومن ثم طبعتها في حلب ضمن كتابين (تقليد رها) و(دير الزعفران) باهتمام من سيادة المطران يوحنا إبراهيم رئيس أبرشية حلب للسريان الأرثوذكس.
ـ هل لك أن تشرح لنا أهمية تلك التنويعات بالنسبة إلى التراث السوري بشكل عام؟
تعتبر الموسيقا السريانية وهذه التراتيل من ضمنها، مرجعية هامة للموسيقا السورية ذات الشخصية المتميزة وهي تتألف من قسم من الألحان القديمة التي كانت تغنى في المعابد قبل المسيحية والقسم الآخر هو من الألحان الشعبية، وقسم من تأليف وإبداع أناس آخرين يحبون الموسيقا منهم الفخارون الذين لعبوا منذ القديم دوراً متميزا في الموسيقا.. إضافة إلى ذلك هناك تأثيرات أخرى للألحان اليونانية حيث تتجاوز خمسين لحناً جاءت من جزيرة قبرص وكريت في القرن السابع والثامن وقام بترجمتها يوحنا الدمشقي ثم ترجمت إلى السريانية وتم غناؤها.
مجموعة التراتيل هذه، ورغم اسمها الديني، هي ألحان شعبية تعود إلى ما قبل المسيحية حيث يمكننا القول إنها تشكل مرجعية الموسيقا السورية. وهناك مرجعية أخرى هي الموسيقا الفلكلورية الموسيقا الدينية الإسلامية والموسيقا البيزنطية.. كلها تشكل جذور الموسيقا السورية ذات الشخصية الخاصة كما أسلفنا.
الموسيقا السريانية منتشرة في الكنائس السريانية في بلاد الشام، لكن الوجه الآخر لهذه الألحان هو الألحان العربية من قدود وموشحات، فالقدود وحسب دراساتي المقارنة مع الموسيقا الإسلامية والشعبية في سورية، وجدت كثيرا من الألحان المشتركة بين التراتيل السريانية والألحان الشعبية وبين القدود والموشحات وقد قدمت نماذج من هذا النوع العربي والسرياني وكل إنسان يستمع إلى المجموعات الدينية الإسلامية في سورية والموشحات والقدود يشعر أنها تنتمي إلى جذور سورية قديمة ومنها السريانية.
ـ هل ثبت علمياً أن السوريين هم من اكتشف السلم السباعي؟
هناك ثورة حضارية استخدمت السلالم الموسيقية في العراق وأوغاريت فشعوب المنطقة كانت تستخدم الموسيقا بشكل كبير خصوصاً في طقوس العبادات وكان لهذه الموسيقا مكانة هامة في المجتمع القديم وقد ظهرت على النقوش والصور كجوقات تعزف على آلات نفخية وهي تدل على أن للموسيقا أهمية كبيرة في سورية ما قبل المسيحية والاسلام.
ـ هل موسيقا نينوى وأوغاريت المعروفة حالياً جزء من هذا التراث؟
موسيقا نينوى ألفها موسيقي إيراني أما الأوغاريتية فهي رقيم وجد عليه العلماء علامات موسيقية ترجموها وعزفوها لكن هذا الرقيم الأوغاريتي لا يكفي لاعطائنا فكرة عامة حول الوضع الذي كانت عليه الموسيقا في الألف الأول والثاني قبل الميلاد، لكننا نستطيع الاستنتاج والتأكد من وجود سلم سباعي كامل وذلك من اكتشافات بلاد ما بين النهرين.
بما أن الموسيقا قديما لم تدون بكميات كبيرة، لم نتمكن من معرفة شخصيتها تماما، ورغم ذلك فهي لم تضع تماماً لأنها انتقلت إلى الوجدان الجماعي وتركت فيه آثارا موسيقية واضحة يمكننا دراستها والبحث عنها.. كذلك يمكننا دراسة الموسيقا الدينية بأشكالها المتعددة، ومن الممكن أن نصل إلى روحيتها وليس حرفيتها وذلك عبر دراسة المجموعات الصوفية الدينية الإسلامية والألحان الدينية المسيحية بشكل عام، من الممكن إيجاد هذه العبارات والخلايا الموسيقية التي توصلنا إلى روح الموسيقا السورية، طبعاً إلى جانب دراسات أخرى تتعلق بعلم الجمال والآثار التي تساعد في هذا المجال.
ـ أليس من المحتمل أن تظهر في المستقبل اكتشافات جديدة تقدم نماذج أكثر وضوحاً وتنوعاً من الموسيقا القديمة؟
المؤثر أن الموسيقا التي تطورت في العصر العباسي خصوصا كانت تشكل مجموع الموسيقا الموجودة في المنطقة، لكنها لم تصل إلينا كما يجب ربما لأن الموسيقا أصبحت غير مستحبة في وقت ما وربما لأن الموسيقيين أرادوا الاستئثار وعدم إعطاء ألحانهم لأحد.. فرغم أنهم وجدوا أساليب للتدوين الموسيقي لكنهم لم يدونوها، فكل ما وصل إلينا هو ما تناقلته الأجيال شفهياً.
في العصر العباسي كتب العلماء الموسيقيون العرب أبحاثاً كثيرة وغنية في علم الصوت والنسب الرياضية والذبذبات والمدارس الموسيقية المختلطة وفيما بعد انتقلت هذه الدراسات كلها إلى تركيا في العصر العثماني ومازالت تركيا تتعامل مع هذه الدراسات بجدية جيدة.
يبدو أن القدماء أولوا اهتماماً كبيراً للموسيقا.. بماذا تفسر ذلك؟
نعم، الموسيقا كانت تخدمهم في عباداتهم الدينية وطقوسهم في الميثولوجيا والأساطير وصراع الآلهة والبشر.. في كل هذه الأمور كانت الموسيقا تلعب دوراً هاماً جداً في التعبير والرقيمات المكتشفة في المراحل المختلفة تدل على ذلك بشكل واضح.
في المسيحية، خف الاهتمام بالموسيقا قليلاً وبقيت ضمن جدران الكنيسة ألحان تخلق الأجواء الروحية التي تساعد المؤمنين في العبادة وشكلت وألفت ألحان كثيرة ضمن الطقوس.. أما في الإسلام فكانت الموسيقا تعاني حظاً أقل من السابق نظراً لبعض الآراء للأئمة التي حرّمت الموسيقا وبعض الآراء الأخرى التي سمحت، ولكن الموسيقا بقيت أيضا في الإسلام حاملاً للمعاني المقدسة ضمن التراتيل وضمن الآيات القرآنية من خلال التجويد القرآني.
أما في التجمعات الصوفية فكان للموسيقا دور أهم وأكبر ضمن الطقوس مثل (الموالد والأذكار والأعياد...الخ (أما الآن صارت الموسيقا متمثلة في ثلاثة اتجاهات أساسية: مجموعة الفلكلور الشعبي وضمن مجموعة من الألحان الدينية وكذلك مجموعة الألحان السائدة الاستهلاكية التي تقدم ضمن الملاهي.. وهذا الخط الثالث حصلت فيه تداخلات أكثر من الخطين الآخرين دخلت فيهما تأثيرات جانبية من قبل الغزاة والمستعمرين ومن قبل التقاليد، وموسيقا البلاد المجاورة، لذلك فإن الموسيقا الشعبية والدينية تبقى أكثر مصداقية وأهمية كمرجع أساسي لأي دارس أو مؤلف موسيقي.
اليوم نلاحظ بشدة أن الخط الاستهلاكي يتطور بسرعة متأثرا بالموسيقا المجاورة للشعوب، أما الموسيقا الخاصة والأغاني التي تمثل الشخصية السورية فهي كميات قليلة نظراً لعم رجوع الموسيقيين إلى المراجع في التراث الموسيقي في سورية.
الآن وبعد دراستي للموسيقا في القاهرة وانفتاحي على الموسيقا العالمية ودراستي للموسيقا الشعبية والعربية ضمن التراث )الموشحات والقدود والأدوار (اكتشفت أن الموسيقا العربية بمقاماتها وأجناسها غنية جداً وتحوي على مضامين موسيقية ضمن قوالب وصيغ متعددة.. كل هذه الموجودات والمنتجات توحي بصدق وجدية الأساتذة السابقين في الموسيقا من خلال انتاجهم ودراساتهم وقد لاحظت أيضا أن الموسيقا العربية في هذه الفترة التي تمتد مئتي سنة مضت كرست على منطق الطرب في الموسيقا، طبعا الطرب شيء هام ورائع في موسيقانا العربية لكن الطرب وحده غير كاف لشحن الانسان العربي في هذه الأيام التي نجحت فيها تطورات سريعة في الفكر والفنون والثقافة.
موسيقا الطرب التقليدية صارت تشد الناس في حالة تشبه الاستلاب وكأنه لم تعد هناك مشكلات أخرى تهم الإنسان العربي في حياته المعاصرة فابتعد الانسان عن مشكلاته وهمومه ومتطلبات حياته ضمن هذه الحالة الاستلابية الطربية.. لذلك انصب اهتمامي أكثر فأكثر حول كيف نطور موسيقانا ضمن مقاماتها وأجناسها في موسيقا تحمل وتحوي مضامين متعددة ضمن حوارية جدلية وتفاعلية تمكنها أن تلعب دورا ايجابيا داخل الإنسان العربي، هناك الكثير من الأساتذة قالوا إن الموسيقا العربية ليست صالحة لمشاركة العقل في البنية الموسيقية المتطورة الجيدة لأنها تحوي مسافات لا تركب لها هارمونيات وبوليفونيات، الى ما هنالك من علوم حديثة في الموسيقا العالمية، لذلك هي عاجزة عن هذا الدور.. لكنني أرد على الأساتذة أن المقامات والأجناس العربية ليست هي السبب بل السبب هو العاملون في الموسيقا العربية الذين فضلوا العمل السهل فانقادوا إلى الموسيقا السابقة ضمن طربياتها وتقليدها وقواعدها الجاهزة.
لذلك منذ عام 1964 وحتى الآن وأنا أخوض تجارب موسيقية من أجل تطويع المقامات والأجناس بمرونة وأصالة ضمن حركة حوارية ديناميكية لخلق حوار موسيقي وفكري في آن واحد ولخلق موسيقا جديدة مستمدة من التراث السوري والعربي وبلغة موسيقية محلية مستفيدا من المعطيات الايجابية في الموسيقا العالمية في علوم الهارموني والصيغ المفتوحة...الخ.
في هذه الحفلة سوف نسمع خلاصة هذه التجارب بعلامات موسيقية جديدة وفورمات وصيغ مكتوبة بصيغة مفتوحة )فورم سوناتا (و)الروند) و ضمن روحية المقامات والأجناس العربية.
سيطلق C.D عدد اثنين ليطلع الناس وذلك برعاية السيدة أسماء الأسد التي دأبت على رعاية الموسيقيين بهدف دعم الابداع وخلق مناخات جديدة في الموسيقا بشكل عام.
زيد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد