هل تعمد المشقة عبادة؟
فَهِم البعضُ أن غاية العبادة هي إجهاد العبد، لذلك كلما زدنا المشقة زاد الثواب، واستدلوا بقول النبي لعائشة: “أجرُكِ على قدر نصبكِ -أي تعبك-“، وحين أراد بنو سلمة الانتقال جوار المسجد النبوي نهاهم النبي وقال لهم: “إن لكم بكل خطوة درجة”، وكان النبي تتورم قدماه من العبادة، ولا يخفى على أحدٍ عبادة الصالحين وما بها من مشقة.
وقال لي أحد الشيوخ أنه يتوضأ بماء بارد في الشتاء مع توفرِ الماء الساخن، ويذهب لأبعد مسجد بدلًا من المجاور طمعًا في زيادة الأجر، وحين يُخَيَّر بين الأيسر والأصعب يختار الأصعبَ طمعًا في الثواب الأكبر، ويقلل من استهلاكه للرخص!
مبدئيًا لا شك أن ما يلقاه المرء من مشاقٍّ ومتاعبَ في طريق العبادة وعمل الخير عمومًا بحيث تكون ملاصقة للعمل يُثاب عليها، وهو صريح واضح في قوله تعالى: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ”.
لكن محل البحث: هل المشقة مقصودة لذاتها، ومن ثم علينا أن نتعمد المشقة ونجهد أنفسنا ما استطعنا؟
هل المشقة مقصودة لذاتها؟
لا شك أن امتثال الأوامر الإلهية والطاعات يشوبه بعض المشقة، لكن هذه المشقة ليست مقصودةً لذاتها؛ إذ لا فائدة من تعمُّد المشقة، وإنما هي لاحقةٌ بالعمل، وقدر المشقة هنا هو القدر المعتاد، أما إن زادت عن العادة تتدخل الرخص الشرعية.
وقد راعى الشارعُ -سبحانه وتعالى- ألا تزيد مشقةُ العبادات عن المعتاد وتصبح حرجًا وعنتًا، وهو مراده من قوله تعالى: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”، لذلك رخَّص القعود في الصلاة، والاضطجاع إن وجد المصلي مشقة، ورخَّص الإفطارَ في رمضان في السفر والمرض: “وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ”، والسبب: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”.
يقول العز بن عبد السلام: “قد عَلِمْنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوبَ الشرع إنما هو مصالحُ العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقةُ مصلحة، بل الأمر بما يستلزم المشقةَ بمثابة أمر الطبيبِ المريضَ باستعمال الدواءِ المرِّ البشع، فإنه ليس غرضُه إلا الشفاء، ولو قال قائل: كان غرض الطبيب أن يوجده مشقة ألمِ مرارةِ الدواء لما حَسُن ذلك فيمن يقصد الإصلاح”.
ويقول البوطي: “المقصود من شرع الحكم هو تحقيق مصالح العباد المتمثلة في المقاصد الخمسة، وما يراه المكلفُ من مشقةٍ لدى القيام به إنما هو في حكم الوسيلةِ إلى تلك المصالح، أي أن الله شاء أن تكون الوسيلة إلى تحقيقِ أحكامِه بذلَ شيءٍ من الجهد لحكمةٍ أرادها”.
النبي ينهى عن تعمُّد المشقة
جاء ثلاثةُ رجالٍ إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي، فلما أُخبِروا كأنهم تقالوها؛ فقالوا: وأين نحن من النبي؟ قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله إليهم، فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
كما رأى النبي رجلًا قائمًا في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يستظل، ولا يتكلم، ولا يجلس، وأن يصوم، فقال رسول الله: “مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صيامه”.
وحين خرج رسول الله عامَ الفتح إلى مكة في رمضان، صام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماءٍ فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب.
فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: “أولئك العصاة، أولئك العصاة”.
هل أَمَرَ النبي بتعمد المشقة؟
أولًا: بخصوص قول النبي لعائشة: “المثوبة على قدر نصبكِ -أي: تعبكِ-“، فقد قال الراوي: قال النبي: “المثوبة على قدر نصبكِ، أو قال: نفقتكِ”، وبذلك فالفقرة التي هي محل الاستدلال مشكوك فيها من قِبل الراوي.
فلو قال النبي: “على قدر نفقتكِ”، فعِلَّةُ زيادةِ الثواب هنا أنه كلما زادت النفقة زادت المصلحة المحقَّقة.
وحتى لو قال النبي: “قدركِ على قدر نصبكِ”، فيقول البوطي: “المشقة التي تستلزم العبادة يتفاوت الأجر عليها حسب تفاوتها شدة وضعفًا، لا من حيث كونها مشقة، بل من حيث توقف الطاعة عليها، فأجر العبادة ثابتٌ أصالة، وأجر المشقة ثابتٌ تبعًا، وهو ما قصده النووي في شرحه للحديث إذ قال: “الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النَّصَب والنفقة، والمراد بالنَّصَب: الذي لا يذمه الشرع”، وأقول: النَّصَب الذي لا يذمه الشرع هو ما كان وسيلةً غيرَ متكلفٍ بها إلى عبادة مشروعة، فلو اصطنعَ المشقةَ اصطناعًا للقيام ببعض الطاعات لم يُثَبْ عليها، بل ربما أُخِذَ بسببها”.
ثانيًا: بخصوص حديث النبي لبني سلمة، حين قالوا: كانت ديارُنا نائيةً عن المسجد؛ فأردنا أن نبيعَ بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله فقال: “إن لكم بكل خطوة درجة”.يشرح الشاطبيُّ علةَ هذا النهي ويقول: “إن هذا الحديث لا دليلَ فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في البخاري ما يفسره، فإنه زاد فيه: “وكره أن تُعَرَّى المدينةُ قِبَلَ ذلك؛ لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها”.
قدر العمل على قدر المصلحة لا المشقة.
من الملاحظ على البعض اختيارُه لأكثر الأعمال مشقةً وجهدًا؛ طمعًا في الثواب الأكبر! لكن مَن قال إن العملَ الأشقَّ ثوابُه أكبر؟!معلومٌ أن الطاعاتِ المختلفةَ ليست على درجةٍ واحدة، فتختلف أهميتها، فعلى أيِّ أساسٍ تتفاوت؟
يقول العز بن عبد السلام: “المصالح والمفاسد في رتبٍ متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائرُ والكبائرُ وعقوباتُ الدنيا والآخرة”.
ويقول الشاطبي: “المفهوم من وَضْعِ الشارع أن الطاعةَ أو المعصيةَ تَعْظُم بحسب عِظَمِ المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها”.ولذلك قد ثبت من عدة طرقٍ أنه رُبَّ طاعةٍ غيرِ مجهِدةٍ ذات مصلحةٍ أكبر تورِّث ثوابًا أكبرَ من طاعةٍ مجهِدة، فقال النبي: “الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، أفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” فرغم أن رفعَ الأذى مجهدٌ أكثر من تحريك اللسان بالشهادة، إلا أن الإيمان بالله وتوحيده أعظم.
هل يجوز التقرب لله بتعمد المشقة؟
لو كانت المشقة مقصودةً لذاتها لكان للمرء أن يخترعَ عباداتٍ وطاعاتٍ من نفسه للدلالة على القدرة على التحمل، إلا أنه قد أجمع العلماء على أن الله لا يُعْبَد إلا بما شرَّع.يقول العز بن عبد السلام: “لا يصح التقربُ بالمشاق؛ لأن القُرَبَ كلها تعظيمٌ للرب سبحانه وتعالى، وليس عينُ المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا”.ويقول الشاطبي: “إذا كان قصدُ المكلَّف إيقاعَ المشقة فقد خالفَ قصْدَ الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصدُ بالتكليف نفسَ المشقة، وكلُّ قَصْدٍ يخالف قَصْدَ الشارع باطل؛ فالقصد إلى المشقة باطل”.
هل ترك الرخص يزيد الثواب؟
يجب أن نسأل أولًا: لماذا شرَّع الله الرخص ورفع الحرج عن المكلَّفين؟
يقول الشاطبي: “اعلم أن الحرجَ مرفوعٌ عن المكلَّف لوجهين:
– أحدهما: الخوف من الانقطاع في الطريق، وبُغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
– والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليفَ أُخَرَ تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما.
فأما الأول: فإن الله وضع هذه الشرعة المباركة حنيفيَّةً سمحةً سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحبَّبها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كُلِّفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: “وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ”، فقد أخبرت الآية أن الله حبَّب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزيَّنه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.
وفي الحديث: “عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا”(17).وفي حديث قيام رمضان: “فإنه لم يخف عليَّ شأنُكم، ولكن خشيت أن تُفْرَض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها”.
وحين دخل النبيُّ المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: حبلٌ لزينب، تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: “حلوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر، قعد”.
وحاصل هذا كله أن النهيَ عن الحرج لعلةٍ معقولةِ المعنى مقصودةٍ للشارع، وإذا كان كذلك فالنهي دائرٌ مع العلة وجودًا وعدمًا، فإذا وُجِدَ ما عَلَّل به الرسول، كان النهيُ متوجهًا ومتجهًا، وإذا لم توجد فالنهي مفقود”.
وخلاصة قول الشاطبي أن الرُّخَصَ مشرعةٌ لعلل ومقاصد: ألا تتزاحم الأعمال على المرء؛ فتأدية العبادة يعطل عملًا آخرَ مهمًا، وألا يدخل الحرجُ والعنتُ في العبادة؛ فتصبح مكروهةً ومنفرة.
لذلك فإن وَجَد المرءُ أن تأديةَ العبادةِ لا تزاحم عليه أعمالَه ولن يدخل الحرج في عبادته، فله أن يختار: إما أن يأخذَ بالرخص أو لا، أما إن زاد التعب، بحيث يزاحم عليه أعماله ويُدخِل الحرجَ في دينه، فيجب عليه الأخذ بالرخص.
عبادة النبي والصحابة محبةٌ وليست مشقة.
العبادات المجهِدة التي كان يداوم عليها النبيُّ والصحابةُ والصالحون ليست دليلًا على تعمدِهم المشقة؛ فهم لم يتعمدوا المشقة، ولو تعمَّدوها ما زادهم عبادةً وصلاحًا، وإنما قصدوا التقربَ من الله، والاستزادةَ من مناجاته، والأنسَ بذكره، واستحضارَ جلاله، فأطالوا الصلاة، وأقاموا الليل، وحجوا البيت، وزادوا في الصدقات، حتى أصبحوا لا يبالون بمشقةٍ وجهد، فهذه العبادة في ظاهرها المشقة، لكنَّ في قلوبهم لذةَ العارفين وشوقَ المحبين، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي تتورم قدماه من الصلاة، هو نفسه يقول عنها: “أرحنا بها يا بلال”(21)، فهو محِبٌّ أكثر منه مُعذِّبٌ لنفسه.
المشقة اضطرار.
الوضع الصحيح للمشقة: أنها دائمًا في وضع اضطرار، لا نتعمدها ولا نقصدها، ولا نستخف بها، بل لا نلجأ إليها إلا اضطرارًا، وعندئذٍ فقط نختبر شجاعتنا في الصمود.يقول بيجوفيتش: “البحث عن المشقة ليس شجاعة، بل جنون. فالشجاعة هي استعداد الإنسان أن يواجهَ بحكمةٍ المتاعبَ التي لا يمكنه تجنبُها”.
ويَلْمَح خالد محمد خالد جانبًا من عظمةِ النبي وتجنبِه المشقة، فيقول: “وجد النبيُّ أصحابَه يُعذَّبون في مكة؛ فأمر بهجرتهم إلي الحبشة. لماذا وفي بقائهم إغراءٌ لغيرهم بالدخول في الإسلام؟
هنا تومض عظمة النبي؛ فهو لا يريد حربًا أهلية، ولو كان فيها يقين نصره، لا يطيق أن يرى أصحابَه يُعذَّبون، مع علمه أن التضحيةَ ضريبةُ كلِّ جهاد، لكن التضحيةَ تُبْذَل حين لا يكون هناك مفرٌّ من بذلها، أما الآن وهناك سبيلٌ لحماية المسلمين فليذهبوا إليه”.ونختم بلفتةٍ قرآنية، إذ يقول تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا”.
يقول سيد قطب: “وإنه لما يستحق الانتباه هنا أن النهيَ الذي أعقب الأمر بالاستقامة لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظةٍ وتحرجٍ قد ينتهي إلى الغلوِّ والمبالغةِ التي تحول هذا الدين من يسرٍ إلى عسر، والله يريد دينَه كما أنزله، ويريد الاستقامةَ على ما أَمَر، دون إفراطٍ ولا غلو، فالإفراطُ والغلوُّ يُخرِجان هذا الدينَ عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتةٌ ذاتُ قيمةٍ كبيرة”.
خالد باظة - المحطة
إضافة تعليق جديد