هولوكست المنتصرين الخفي
تواصل منشورات <<الجمل>> في كولونيا، مشروعها في نقل أعمال الكاتب الألماني غونتر غراس إلى العربية، فبعد سلسلة من الكتب، في السنوات الأخيرة الماضية، تُصدر له مؤخرا ترجمة لقصته <<في خطو السرطان>> (نقلها إلى العربية كاميران حوج)، والتي يكمل فيها الكاتب تساؤلاته حول التاريخ الألماني، ولا سّيما التاريخ الحديث منه. هنا مقاربة للكتاب وللكاتب.
هل نستطيع أن <<نتجاهل>> غونتر غراس في الأدب الألماني المعاصر وأن نرى إلى عمارة هذا الأدب وإنجازه من دون حضوره؟
قد يكون صعباً الإجابة عن سؤال مماثل، إذ أن كل محاولة للقيام بذلك، لا بد أن تجعلنا نصطدم بظل هذا الرجل الوارف، الذي شكل ظاهرة حقيقية تستحق التأمل فعلاً مثلما هي تستحق القراءة وذلك منذ صدور روايته الأولى <<الطبل الصفيح>> (صدرت في ترجمة عربية عن <<منشورات الجمل>> في كولونيا). لقد عرف غراس، صاحب العديد من الأعمال المميزة، كيف يغدو <<وعي ألمانيا التاريخي>> (إذا جاز التعبير) الذي أرّق الألمان ولا يزال، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن البعض يصفونه بالمحرّض، في حين أن تحريضه ليس سوى ذلك التساؤل العميق عن المجتمع وعن النسق السياسي القائم في بلاده. بمعنى آخر، تبدو كتابات غونتر غراس كأنها الانعكاس المباشر لآلية المجتمع وصيرورته في كلّ تجلياته. هذا الانعكاس الذي يستمر عبر <<مراقبة ومعاقبة>> (في ما لو استعملنا أحد عناوين كتب ميشال فوكو) هذه <<البانوراما الغريبة>>: التاريخ الألماني. من هنا يحب البعض أن يطلق على غراس لقب <<المتربص الجاثم فوق برج غوطي>>. من فوق هذا البرج عاد ليصوغ، على شكل بيانات <<كاتب للعدل>>، عالم السنوات النازية في <<الطبل الصفيح>> كما في <<سنوات الكلاب>> (صدرت بدورها بالعربية عن <<الجمل>>)، كذلك وجدناه يلعب دور <<المؤرخ المغتاظ>> في روايته <<حقل فسيح>> التي تعالج مشكلة إعادة توحيد ألمانيا. وهي رواية أثارت الكثير من الضجة مثلما أسالت الكثير من الحبر.
ربما كنا لا نزال نتذكر هذه الضجة التي أثارتها الرواية في العام 1995، والتي كانت من أولى الروايات التي تعرضت لإعادة التوحيد الألماني.. ففي حين كان الجميع يبتهجون لهذا <<العيد>>، خالف غراس كل التوقعات ليتحدث عن استعمار <<ألمانيا الغربية>> لألمانيا الشرقية، بمعنى أن سقوط جدار برلين لم يكن سوى الشرارة التي جاءت بنوع جديد من الاستعمار. ما دفع الغالبية باتهامه بمعاداة الحلم الألماني الكبير. أضف إلى إن <<بابا>> النقد المعاصر مارسيل رايخ رانيكي ظهر على غلاف مجلة <<دير شبيغل>> وهو يمزق كتاب غراس هذا.
الصورة كانت أكثر من فضيحة. كانت تصب رأساً في بلورة هذا المفهوم الذي أرساه المستشار الألماني السابق هلموت كول، الذي اعتبر نفسه صانع النصر التاريخي، وموحد ألمانيا في العصر الحديث.
كذلك نجده في مجموعته القصصية التي صدرت بعنوان <<مئويتي>>،(الطبعة العربية عن منشورات الجمل أيضا)، إذ يقدم في مئة قصة قصيرة، مئة حادث تمتُّ بصلة وثيقة إلى المجتمع الألماني، معتبراً أن كل قصة تعود إلى سنة واحدة، منذ بداية القرن العشرين وحتى آخره. صحيح أن الكتاب تعرض للنقد، إذ لم يرض البعض بخيارات غراس أو اختياراته، إلا أن النبرة الحالية، المضادة، لم تجتح وسائل الإعلام، فقد صدر الكتاب بعد نيله جائزة نوبل للآداب العام 1999، أي جاءت الاحتفالات الصاخبة بهذا الفوز، لتطغى على النقد الحاد الذي كان يمكن أن يوُجه إليه.
لكن في ذلك كله، نجد غراس ذاك <<الحكواتي>> الهائل الذي يستعمل في كتبه (وعناوينه بالطبع) كما هائلا من الحيوانات: الهررة، الكلاب، الفأر، الضفدع، السرطان، الخ... للحديث عن التاريخ الألماني (بدءا من العصر <<النيوليتي وصولا إلى سنوات شرودر ومن دون أن ننسى مروره بغابات جرمانيا الكبيرة). هذه الحكاية لم تكن لتبدو كبيرة لولا هذه <<العبقرية>> التي تملك الكثير من <<الرائية>> لتحيلها بهذا الاتساع وبهذه ... الالفة أيضا.
الحرب العالمية مجددا
رأى البعض أن حيازة غراس جائزة نوبل للآداب قد تدفعه إلى التعقل قليلا. لكنه كان رهانا فاشلا، إذ عاد في العام 2002 ليتبوأ الصفحات الأولى في الإعلام الألماني، وذلك بعد نشره رواية جديدة بعنوان <<في خطو السرطان>> التي يكسر فيها محرّماً من محرّمات المجتمع الألماني وسياسته، ويعود فيها إلى الحرب العالمية الثانية، والكتاب باع في أسبوعه الأول أكثر من 400 ألف نسخة، وسرعان ما أصبح <<بيست سيلر>> بداية القرن الواحد والعشرين، في ألمانيا، إذ فاقت عملية النشر كل التوقعات.
هل نجاح الكتاب عائد لجودته؟ <<انه مكتوب بطريقة لامعة وآسرة>>، هذا ما كتبه يومها، مدير مجلة <<دير شبيغل>> رودولف أوغشتاين بنفسه، أو أيضاً كما قالت صحيفة <<سود دوتش زيتونغ>>: <<يجعلنا نتطلع إلى قمة الأدب والجمالية>>. لكن ما هو موضوع الكتاب؟ أو بالأحرى ما هو هذا السرطان؟ هل هو نوع من الزواحف (إذ أن كلمة سرطان بالألمانية تشير إلى السلطعون أيضا) التي كانت تتقدم فوق رمال ما بعد الحرب العالمية الثانية لتختبئ، بشكل غير متوقع، في حُفرِ التاريخ الكبير والعريض؟ أم أنه السرطان، ذاك المرض الذي يسحق كل شيء ولا يقف أمامه أي كائن حي؟
ثمة رسالة قاطعة يبثها غراس في روايته مفادها: <<صحيح أن ألمانيا النازية ولّدت الكثير من الرعب في ألمانيا كما في العالم، لكن هناك العديد من الألمان، وبخاصة الملايين من اللاجئين الذين هربوا من تقدم الجيش الأحمر، قد تعرضوا بدورهم إلى هذا الرعب..>>. هذه هي رسالة غونتر غراس في كتابه، وهي رسالة أعادت وأيقظت، علانية هذه المرة، ذلك الجدال الخافت الذي بدأ منذ نصف قرن تقريباً، والذي تجنبه المثقفون الألمان وبخاصة أهل اليسار منهم إذ كانوا يخشون الوقوع في <<نوع من الجلد الذاتي>>.
تتحدث رواية <<في خطو السرطان>> عن غرق السفينة <<فيلهلم غوستلوف>> التي غرقت يوم 30 كانون الثاني من العام 1945 في مياه البلطيق الباردة وعلى متنها تسعة ألاف شخص، بينهم 4000 ألاف امرأة وطفل. غالبية هؤلاء كانوا من المدنيين الألمان الذين حاولوا الهرب من تقدم الجيش الأحمر إلى الجبهة <<البروسية الشرقية>>. ولغاية اليوم لا تزال تعتبر عملية الغرق هذه من أكبر عمليات الغرق في التاريخ البحري من حيث عدد الموتى الهائل كما من حيث الوسيلة، إذا أن الرعب يكمن في إطلاق غواصة سوفياتية لطوربيد بحري، بدماء باردة ومن دون أي شعور بالذنب، من هنا ليست قصة غرق <<التيتانيك>> (في العام 1912) أمام هذه الكارثة سوى <<مزحة>> (بمعنى من المعاني، إذ كان عدد الضحايا 1513 ضحية).
عبر روايته قصة هذه السفينة، بدءا من عملية بنائها وحتى غرقها، وعبر إعادة تركيبه تاريخ الشخصيات المتداخلة في هذه القضية من خلال كم مهيب من التفاصيل الصغيرة، يكسر غونتر غراس مع صمت ما كان مسيطرا ليجتاز عتبة المحرم. <<فالغوستلوف>> مع جسورها الثمانية المتقابلة وصالات ألعابها وصالوناتها وحوض السباحة الذي فيها وتجهيزاتها غير العادية، و<<حاناتها>> كانت أشبه بالقصر العائم الممثل للقومية الاشتراكية. أضف إلى ذلك كله رحلاتها الأربع والأربعين التي قامت بها إلى النرويج بين العام 1937 تاريخ بدئها بالعمل وتاريخ تحويلها إلى مستشفى عائم خلال سنوات الحرب. وما ذلك كله إلاّ تورية وتلخيصا للسنين الظافرة التي تمتع بها الرايخ الثالث.
يبدو غراس في كتابته هنا وكأنه يتبع أثلام هذه السفينة التي كانت تخلفها وراءها فوق المياه. من هنا لا نجده يخفي أي شيء من نجاح هذه البروباغندا التي عرفتها <<الفيلهلم غوستلوف>>، لأنها سمحت بفضل تنظيمها وقوتها لقسم كبير من الطبقة العاملة أن تقوم بهذه الرحلة الفاخرة و<<الوطنية>> على متنها. من هنا، وما عدا كتاب إنكليزي وفيلم ألماني (يقول عنه غراس في روايته إنه سيء) لم يتناول أحد حادثة الغرق هذه، لتبدو أنها غرقت لعقود في بحر الصمت والنسيان.
من السهل علينا <<تخيل>> أسباب هذا الصمت: لم يكن السوفيات بحاجة إلى جعل قبطان الغواصة التي أطلقت الطوربيد البحري بطلا قوميا لقدرته على إغراق هذه الباخرة التي كانت تحمل كلا هؤلاء المدنيين. ونستطيع أن نتخيل أيضا موقف الغربيين، بعد اكتشافهم مخيمات التعذيب النازية، المليء بالخجل والعار فيما لو حولوا الغرقى الألمان إلى ضحايا يملكون الوزن ذاته. أمام هذه الظروف كلها، تم التغاضي عن لحظة ما من لحظات التاريخ على الرغم من أنها لحظة مليئة بألوف الجثث. من هنا كان بإمكان هذا الشخص، الحائز جائزة نوبل للآداب والصديق القديم للمستشار ويلي براندت والمناضل الشرس في صفوف الحزب الديموقراطي الاشتراكي، أن يتحدث عن هذا الموضوع من دون أن يتهم بالقومية والنازية.
تكمن فرادة غراس في هذه الرواية في اختياره، كراوٍ، أحد الصحافيين <<العاديين>> (حتى لا نقل التافهين) في فترة السبعينيات ويدعى بول بروكريفكي وهو ابن لإحدى الناجيات من هذا الحادث: تولا بروكريفكي. لكن لننتبه جيدا: ليست تولا هذه إلا واحدة من المعارف القديمة وبخاصة بالنسبة إلى قراء غراس. إذ سبق لهم أن التقوها في العام 1960 في واحد من أفضل كتبه <<القط والفأر>> (نجده بالعربية أيضا عند الناشر ذاته). ويقال إن هذا الكتاب ألهب يومها أوروبا الأدبية بأسرها.
على طريقة بلزاك إذاً، يسير غراس في إخفاء شخصياته ليعيد إظهارها في كتاب لاحق. لكن قدرها على المستوى عينه من الإشكالية التي نجدها في القدر الألماني، بمعنى أن تولا هذه، <<هذا المخلوق ذو السيقان النحيفة>>، المصنوعة من الجلد والحشرية، كانت تملك خاصية واحدة في مراهقتها: ابتلاع منيّ رفاقها في المدرسة الذين كانوا يلهون بالغطس في مياه البلطيق. كل هذا ليشير إلى سقوط كاسحة ألغام بولندية، قديمة، في مرفأ دانتسيغ. لم يتوقف غراس يوما من العودة إلى دانتسيغ. إنها مسقط رأسه، ألمه، هوسه، مركز <<محرقته>>، إنها التي تعطي الحياة لكل شيء. لقد ولد في هذه المدينة التي أصبحت مدينة بولندية تدعى غدانسك. أي أننا أيضا، وبعد الحرب، أمام بلد تاه في ذاكرة غراس ليتحول إلى سراب مستمر. إلى شرارات كئيبة. لأن غراس، بهذا المفهوم، بقي هذا <<المنفي>> هذا <<اللاجئ>> البعيد عن وطنه.
الجموع الهيستيرية
عندما شاهدت بعض الصبية ورؤوسهم في الماء المثلجة لبحر البلطيق وسيقانهم الجامدة مرتفعة في الهواء، ابيض شعر تولا. كانت في السابعة عشرة من عمرها حينذاك، وقد نجت لتوّها من غرق الباخرة الألمانية. كانت صور الأجساد التي هرستها الجموع الهستيرية، المكتئبة، لا توال عالقة في عيونها، كما لا يزال في رأسها صراخ الأمهات اللواتي كن يبحثن عن أيادي أطفالهن ليمسكن بها، حين وضعت تولا، ابنها، وهي على متن أحد مراكب الإنقاذ.
من هذا السرد، يصف لنا غراس البلطيق أيضا. لكننا أمام نوع من السرد المتشظي الذي لا يسير وفق خط أفقي. قفزة من هنا، حكاية من هناك، تسلسل كرونولوجي في بعض الأحيان، ليلتف على طريقة الفلاش باك. سنوات الحرب بالتأكيد لكننا أيضا في الستينيات والسبعينيات. نعود أيضا إلى <<دافوس>> حيث قتل شاب يهودي غوستلوف النازي. يصف غراس عبر عينيّ ابن تولا (الصحافي)، لنقفز إلى بعض الأجيال اللاحقة، التي تروي قصة الباخرة على طريقتها أي وفق المفهوم النازي الجديد.
للمرة الأولى، يأتي كاتب ألماني ذو شهرة كبيرة، ليقدم تحية إلى هؤلاء ال12 مليونا ونصف مليون نسمة، الذين توجب عليهم، بين ليلة وضحاها، أن يتخذوا قرار الفرار لإنقاذ أنفسهم من الموت والقتل. في مناخ من الرعب الذي غذته حكايات الاغتصاب والمجازر، عبر كلام إحدى شخصيات الرواية يرثي غونتر غراس هذه <<العذابات الكبيرة التي اختفت وراء الصمت، وهو صمت عائد إلى أن الغلطة التي ارتكبت (النازية) كانت ساحقة والندم له الأولوية>>، لذلك <<أصبحت هذه القضية حكراً على اليمين المتطرف>>، إنها <<خسارة لا تُعوّض>>.
بعد الحرب، شهدنا في واقع الأمر، <<نبرة سيئة>> في ألمانيا الغربية. اكتشفت الأجيال الشابة، برعب، مسؤولية ذويهم عما ارتكب تحت الحكم النازي، لذلك لم يرغبوا في استدعاء ذاكرة جلجلة هؤلاء المهاجرين. أما في <<ألمانيا الشرقية>>، المرتبطة بالاتحاد السوفياتي، فكان الموضوع يمثل نوعاً من <<التابو>>، من المحرم الغوص فيه. ولم يُذكر إلا في العام 1997، حين أثار الكاتب الألماني ف. ج. زيبالد النقاش حين وشى بجبن المثقفين وصمتهم تجاه عذاب الألمان، تحت قصف الحلفاء الجوي، في بحث له بعنوان <<الحرب الجوية والأدب>>.
مع رواية غراس الأخيرة، ثمة <<مرحلة ضرورية>> قد تم اجتيازها، هكذا عنونت الصحف الألمانية وحيّت الكاتب بصوت واحد. حتى <<بابا>> النقد الألماني الأدبي مارسيل رايخ رانيكي، الملقب ب <<هدامة الكتب>> والذي هاجم كتب غراس الأخيرة، انحنى بهيبة أمام <<أفضل كتب غراس>>.
تعكس رواية <<في خطو السرطان>> إذاً، تمزق الألمان الأليم تجاه تاريخهم المعاصر. من هنا، يحاول الراوي الذي ليس هو سوى ابن تولا أن ينسى الظروف الدرامية لولادته، التي تجعل منه الرسول المحتم الذي اختاره القدر كما والدته ليروي الكارثة.
إلا انه لا يستطيع ذلك، فيأتي كونراد، ابنه، ليضطلع بهذه المهمة، بيد ان عائقاً يجعل من كلامه غير ذي، إذ انه ينتمي لليمين المتطرف، ونجده يعلن على موقعه الخاص على الانترنت عن ضرورة الوصول <<إلى انتقام دموي>>.
إزاء ذلك، يشهد موقع الانترنت هذا، نقاشاً حامياً يدور بين كونراد وشاب يقدم نفسه على انه يهودي يذكر بأن الباخرة كانت تحمل أيضاً ألف جندي ألماني، كانوا يرفعون علم الحرب العائد للبحرية الألمانية.
بعض النقاد تحدثوا كثيراً عن هاتين الشخصيتين، اللتين لا ترويان إلا مقاطع قصيرة عن حياتهما الخاصة، معتبرين أن كونراد ليس سوى فيلهلم غوستلوف (الذي تحمل الباخرة اسمه) وهو الذي كان قائداً للجناح النازي في سويسرا، والثاني، ليس سوى قاتله، اليهودي دافيد فرانكفورتر...
في علاقة تتأرجح بين الحب والبغض، يقرر الاثنان أن يلتقيا، وعند نهاية يوم مشرق قاما خلاله <<بإعادة برمجة العالم وتخيله>> يقتل كونراد مواطنه، ويختم غراس روايته بالقول: <<لن يتوقف هذا. هذا لن يتوقف أبدا>>.
اسكندر حبش
المصدر السفير
إضافة تعليق جديد