هيلاريون كبوشي: الطريق إلى فلسطين

30-01-2020

هيلاريون كبوشي: الطريق إلى فلسطين

حضر الجمهور وغاب الرسميون عن الندوة التكريمية لذكرى المطران المناضل هيلاريون كبوشي، التي جرت في مكتبة الأسد الوطنية بمبادرة من دار "دلمون" وشاركت فيها مع الأب الياس زحلاوي والمفكر حسن حمادة والصحفي سركيس أبو زيد مدون مذكرات المطران في السجن، مع فيلم وثائقي مؤثر أعدته الصحفية وسام زين الدين.. والواقع أن استعادة مثال المطران المقاوم حامل لواء "لاهوت التحرير" هي الوصفة القديمة والوحيدة الصالحة حتى اليوم لعرقلة "صفقة القرن" فلكي تكتمل الصفقة يجب أن يكون هناك بائع ومشترٍ، ولن تنجح صفقة القرن طالما أن هناك مقاومون لعملية البيع، بيع فلسطين .. فيمايلي كلمتي عن هذا الرجل العظيم:

"مازال الطريق إلى فلسطين كدرب الجُلجُلَة، بينما القضيةُ صليبُنا الذي نُمتَحَنُ به كُلَّ يوم"

عندما تعلَّمْتُ القراءةَ في كنيسة الآباء "الكبُّوشيين"، التي اختارها لي والداي المسلمان في ستينيات القرن الماضي، كنتُ أنظر إلى تمثال المُخَلِّصِ في القاعة الكبرى، كمزيجٍ بين "عَلِيّ" و"المسيح"، كي أتماهى مع المثال الذي تربَّيتُ عليه في بيت أهلي، فكان مثالي مزيجاً من الرَّحمة والقوَّة، الأمر الذي ساعدني فيما بعدُ، على فهم شخصيَّة المطران "هيلاريون كبُّوشي" الذي كان يتردَّدُ اسمُهُ في نشرة الأخبار وجريدة والدي منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ قِبلتَنا ومشروعَنا الثَّوريَّ، قبلما ينكرُها غالبيَّةُ العرب سوى السُّوريين منهم، إذ كانت خريطةُ فلسطينَ قلادتَنا المعلَّقَةَ في رقابنا، بدلاً من الصَّليبِ والقرآن، فأخلصْنا لها أكثرَ من أيِّ شعبٍ آخَرَ، ومازلنا نحملُ لواءَها منذُ أيام "عزِّ الدين القَسَّام"، مروراً بالمطران "كبُّوجي"، وصولاً إلى "صدقي المَقت"، المناضلِ الذي تحرَّرَ مؤخَّراً من معتقلاتِ العدوِّ الإسرائيلي بعد سبعةٍ وعشرين عاماً من الأسر، ولم يتمكَّنُوا من كَسْرِ إرادة المقاوم لديه.. جميعُهم ساروا على "دربِ الجُلجُلة"، وكانوا "مسيحَ" عصرهم الذي يصلُبُهُ الإسرائيليون كُلَّ يوم.

كذا كان المطران "كبُّوشي"، الذي وَضَعَهُ القَدَرُ على طريق "المسيح"، عندما كان يمُرُّ في دهاليز المعتقل، من أمام السُّجَناء اليهود، فيبصُقُون عليه، ويشتُمُونَهُ كما فعلَ أجدادُهُم من قبلُ، بينما هو يتصبَّرُ على الجوع والبرد والإهانات، بعدما أدرك أن وجودَهُ في المعتقل يشكِّلُ جوهرَ نضاله الإنساني، فتأقلَمَ معه، وكأنَّهُ باقٍ إلى الأبد، فكانت مرافعاتُهُ أمام جلَّاديه، بمنزلة صلاةٍ للرَّبِّ والشَّعب، كما ورد في مذكَّراته القيِّمة التي دونها الزميلان سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس في روما، وطبعتها دار "دلمون" السُّوريَّة مؤخرا ، لتُعيدَ تذكيرَنا بالرَّجُل الذي حاصر حصارَهُ، وهزمَ سَجَّانيه، ووحَّد مشاعرَ الأمَّة على اختلاف قومياتِها وأديانِها، إلى أن جاءنا الإخونجُ وفصائلُهُم التي فَكَّكَتْ الصَّفَّ المقاوم، إذ أسلموا القضيَّة الفلسطينيَّة، وأعادونا إلى "سقيفة بني ساعدة"، واختزلوا قُدْسَنا بالمسجد الأقصى، وحوَّلُوا صراعَنا القوميَّ المُوحِّدَ لنا، إلى صراعٍ دينيٍّ مُفَرِّقٍ بيننا، فخدموا منطقَ الإسرائيليين ومزاعمَهُم التاريخيةَ المبنيَّةَ على الأساطير الإبراهيميَّة، وهذا أسوأُ ما مرَّتْ به القضية الفلسطينية، حيث باتَ المطبِّعُون يستشهدون بها ليُعيدوا سيرةَ يهوذا، ويبيعُوا فلسطينَ ببراميلَ من النَّفط الأسود، يؤكِّدُ ذلك إعلانُ أكبر أعدائنا بنيامين نتنياهو، الذي قال مفتخراً قبل بضعة أيام: "لقد تغلَّبْنا على التَّهديد الكبير الذي تمثَّلَ بالقومية العربية" ..

اليومَ نستعيدُ ذكرى المناضل "هيلاريون كبُّوشي"، الذي كان ملهِماً لنا، ومحرضاً ضدَّ الظُّلمِ والاستبداد مهما كان مصدرُهُ، لعلنا نستيقظُ على أن العدالةَ الاجتماعيةَ، هي مصدرُ قوة الأمم، وقوةِ أعدائنا الذين مازالوا منتصرين علينا بخسائرَ أقلَّ ممَّا قدَّمناهُ من تضحيات، حيث خسِرْنا رابطةَ العروبة، لتملأ فراغَها العصبيَّاتُ الدينية، بينما انتصر الآخرون بترسيخ أركان دولة المواطنة والعلمانيَّة، وبتنا نحن العَرَبَ، دُولاً ضعيفةً بلا سيادة أو كرامة، يستغلُّنا الأصدقاءُ والأعداءُ بلا خجلٍ، بعدما غدونا مقسَّمِي الولاءِ بين الشَّرق والغرب، كما كان العربُ أيام الغساسنة الموالين لبيزنطة، والمناذرة الموالين لفارس، حيث تاريخُنا مازال يدور على محوره مثل "حمار الطَّاحون"، بينما تاريخُ غيرِنا يمتدُّ نحو المستقبل، فنحنُ لم نحسُمْ بعدُ معركةَ العقل ضدَّ النَّقل منذ أيَّامِ الأمين والمأمون إلى يومنا هذا...

أيُّها الحضور الكريم...
علينا أن نعيدَ تقييمَ وتثمينَ دماءِ شهدائنا، وتضحياتِ مُناضِلِينا، وأن نَتَّعِظَ بهم، ونقيسَ أعمالَنا على مستوى فدائِهِم، باعتبارِهِم صراطَنا المستقيمَ، ومثالَنا الذي نسيرُ بهديِهِ نحو الجمهوريَّةِ المُثلَى التي تليقُ بنضالِ عظمائنا...
تحيا سورية وفلسطين... 
ولْيخلدْ اسم "هيلاريون كبُّوشي" في صدورنا أبدَ الدَّهر..

 


نبيل صالح ـ  الإثنين 1/27/ 2020 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...