يومٌ مع جماعة "الدعوة والتبليغ" في مصر
"ستكون واحداً منا. عليك أن تتخلى عن الدنيا ومفاتنها. ستُمارس مهنة الأنبياء، فعليك أن تكون أهلاً لتلك المهمة العظيمة"... بتلك الكلمات أصبحت عضواً في جماعة "التبليغ والدعوة".
في زاوية صغيرة في مسجد يقع في نهاية حارة ضيقة من حي فيصل، لا وجود لتعليمات وزارة الأوقاف والصحة من حيث التباعد الاجتماعي والنظافة، إذ يتكدّس الكثير من أعضاء الجماعة الذين قرروا أن تكون تلك الزاوية مقراً للدعوة والاعتكاف.
عقب صلاة العشاء، أطلب من شيخهم الأكبر المعروف بالشيخ حافظ الانضمام لهم، فيوافق معلناً مبادئ الجماعة ونهجها.
يقول الشيخ حافظ الذي يتخطى الستين من العمر: "نحن نعمل بين رفع الآذان والإقامة، نجوب الشوارع وندعو الناس في المحلات والدكاكين إلى الصلاة".
أتساءل: "لكنني يا شيخنا لا أفقه في أمور الدين شيئاً"، فيجيب الشيخ بأن "الدعوة لا تحتاج إلى المعرفة"، عملاً بالحديث النبوي "بلّغوا عني ولو آية". "هذا هو هدف الجماعة، أن تبلغ للناس ما تعرفه فقط حتى ولو كانت نصيحة"، يقول.
يستدرك الشيخ: "هناك بعض المحاذير التي نراعي تجنبها حالياً وقت الدعوة ومنها أن تكون دعوة لا تبليغ"، موضحاً بالقول: "قديماً كانت الجماعة تُعرف بكونها جماعة التبليغ والدعوة، فقد كان تبلغ أصحاب الديانات المختلفة وتعرفهم بالدين الإسلامي باعتبار ذلك ركناً رئيسياً في جماعتنا. لكن مع التغيرات السياسية التي طرأت على البلاد، وتحديداً عقب الأحداث الإرهابية في فترة التسعينيات، وتعرض الأخوة الأقباط إلى القتل وحرق الكنائس والتهجير الإجباري، توقفنا عن تبليغهم تماماً، وهذا لا يخالف الدين في شيئ بناءاً على قوله تعالى ′ولكم دينكم ولي ديني′".
"هل تم إلغاء التبليغ بدافع ديني فعلاً أم خوفاً من بطش الدولة؟"، أعُقّب بالسؤال على كلامه، فيرد بأن الجماعة لا تريد أي صدام مع الدولة، لذلك فإن القاعدة الثانية من "الممنوعات" هي عدم التحدث في السياسة.
يقول: "لا شأن للجماعة أبداً بالأحداث السياسية التي تدور في الداخل أو الخارج، إنما غرضها دعوة العامة إلى الصلاة، ومن الصلاة إلى سائر الفروض الأساسية التي حثّ عليها الدين الحنيف"، ثم يستشهد بالآية القرآنية "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
من أهم أدوات قيادتهم... كيف لعبت الرؤيا دوراً في عمل الإخوان المسلمين؟
بعد 27 عاماً افترق البنا عن أحمد السكري... كيف أنهى التحرش صداقة مُؤسسَيْ "الإخوان"؟
ناهضت الإخوان وتواصلت مع ضباط يوليو واختطفت البابا... قصة "جماعة الأمة القبطية"
يوضح الشيخ حافظ أن حتى هذه الآية لا يمكن تحقيقها بشكل كامل، فلا يوجد في مذهبهم نهي صريح عن المنكر لأن ذلك، بحسب اعتقاده، تدخل في الشأن السياسي للدولة، فالسلطة وحدها هي من تعاقب المجرم على فعلته.
ويضيف: "لذلك فإن القاعدة الثالثة من المحاذير تتمثل بعدم التعرض إلى أصحاب الأفعال الإجرامية، نحن ندعو من نتوسم فيه الخير ولا نتدخل في ما نراه من منكرات حولنا". لكن من هو مؤسس الجماعة؟ وكيف انتشرت حول العالم؟
يشير الشيخ حافظ إلى أن الدعوة نشأت مع بداية الخلق، فهي عمل الأنبياء من آدم إلى محمد، ثم امتدت إلى العارفين بالدين. "تلك مهمة إنسانية اختص بها الله عباده الصالحين"، يقول.
أما عن طريقة الدعوة، فيجيب: "اختيارات الكلمات الطيبة والترغيب الحميد والابتسامة الرحبة من أهم عوامل إنجاح الدعوة"، مشدداً بالقول: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
تحولات فكرية و"عشاء فاخر"
الليل للتهجد وقيام الليل وقراءة القرآن، وللتعارف أيضاً.
الشيخ أبو عبيدة من أبرز أعضاء الجماعة، يخرج معهم ثلاثة أشهر في السنة ويسافر من محافظة لأخرى تاركاً عمله كصاحب محل للمنظفات.
أسأله: "كيف له أن يترك زوجته وابنه عبيدة طوال تلك الفترة؟".
تنفلت منه ضحكة وهو يقول: "لكنني غير متزوج، أبو عبيدة هو لقب بديل عن اسمي الحقيقي تامر"، شارحاً سبب تغييره: "كان هذا الاسم مصدراً لسخرية الأخوة في جماعة الإخوان المسلمين، فاضطررت إلى أن أجد لنفسي كنية جديدة تناسبني".
كان تامر عضواً في الجماعة وعضواً في حزبهم المنحل، وعقب أحداث 30 يونيو الشهيرة (إنهاء حكم محمد مرسي) اعتُقل لمدة سنتين بعدها خرج من السجن والتحق بـ"جماعة الدعوة".
"ستكون واحداً منا. عليك أن تتخلى عن الدنيا ومفاتنها. ستُمارس مهنة الأنبياء، فعليك أن تكون أهلاً لتلك المهمة العظيمة"... بتلك الكلمات أصبحتُ عضواً في جماعة "التبليغ والدعوة"، فماذا بقي من عمل الجماعة في مصر؟
يوضح أبو عبيدة: "لا أنتمي لغير الدين الإسلامي، وكل ما في الأمر أنني كنتُ أبحث عن الطريق الأقرب إلى الله، انتقلت من الإخوان إلى الدعوة ليس خوفاً من بطش الحكومة، لكن بقناعة ولدت بداخلي – خاصة في فترة المعتقل- بأن هذه الجماعة لديها طموحات سياسية بعيدة عن الدين، إذ كنتُ أبحث عن الله فوجدتني تحت مظلة الشيطان".
يعتقد تامر أن الدين لا يمكن أن يحث على العنف ضد الآخر أبداً فهو دين الرحمة، وأن فرضية الجهاد لكي تكون صحيحة يجب أن تكون تحت إشراف الدولة نفسها وليست حكراً على شيوخ تُسخر أتباعها لتحقيق منافع شخصية وشديدة الذاتية.
لكن كيف يدبر أبو عبيدة المال اللازم للدعوة والحياة؟ يجيب: "الله يرزق الجميع البشر والحيوانات والطيور دون تمييز حتى من كفر به سيجد رزقه، تلك رحمة الرب، فما بالك بمن يعيش لنشر دعوته".
كان قد انتهى من جملته تلك عندما سمعنا دقات على باب المسجد الذي أُغلق عقب الانتهاء من صلاة العشاء، ليدخل علينا شباب من محل "الكحلاوي" للمشويات يحملون وجبات طعام للأعضاء، من باب التبرع من قبل صاحب المحل.
نقدم "البونبوني" ونحصل على خيبة الأمل
بعد رفع آذان الظهر تتشكل عدة مجموعات، لكل مجموعة أمير ونائب للأمير من أجل التجول في الشوارع وممارسة الدعوة.
بالطبع، اخترت مجموعة الشيخ حافظ الذي كان حريصاً على أن يملأ جيوبنا بـ"البونبوني" (حلويات) قبل الخروج، مع تجديد النية بأن ما نفعله في سبيل الله.
نبدو كالغرباء ونحن نمشي بالشوارع، أربعة شيوخ بملابس أفغانية وشاب (أنا) ببنطال رمادي وجاكيت أزرق، فأبدو غريباً وسط غرباء.
ندخل محل لخياطة الملابس، يلقي الشيخ حافظ على الأسطى عصام صاحب المحل السلام، فيرد الأخير متوجساً.
يقول الشيخ حافظ: "معذرة لم نأتِ لإزعاجك، وإنما جئنا لنقول كلمتين لوجه الله: أنت مسلم، أليس كذلك؟".
يجيب عصام بـ "الحمد لله".
يضيف الشيخ حافظ: "عظيم جداً، وأنت أيضاً تعرف أن الصلاة عماد الدين وأن أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة الصلاة، إن صلحت صلحت باقي أعماله وإن فسدت فسدت باقي أعماله".
يرد الأسطى وقد ترك المقص جانباً: "طبعاً لذلك فأنا أداوم على الصلاة من صغري".يرتاح وجه شيخنا المستبشر خيراً، وقبل أن يستأنف حديثه تدخل امرأة تصطحب طفلاً، تندهش من التجمهر داخل الدكان فتتردد بين الدخول والخروج.
بعد صمت تقول للشيخ حافظ: "والنبي يا شيخ أرغب في خدمة منك". يطلب الشيخ منها أن تبوح بما تريد، فتقول وهي تتأمل وجوهنا: "زوجي معمول له عمل سفلي، من يومها وهو لا يغادر البيت ولا يرغب في العمل حتى ساءت أحوالنا، هل يمكنك فك العمل؟".
يوضح لها الشيخ حافظ أن ما تقوله لا ينتمي إلى الدين الإسلامي إنما هي "خرافات وخزعبلات".
تتساءل المرأة: "أليس السحر والجن مذكوران في القرآن؟". يشير بأن هذا صحيح، وقبل أن يوضح وجهة نظره تقاطعه المرأة: "أنتم شكلكم شيوخ أونطة".
"قديماً كانت الجماعة تُعرف بكونها جماعة التبليغ والدعوة، فقد كان تبلغ أصحاب الديانات المختلفة وتعرفهم بالدين الإسلامي. لكن مع التغيرات السياسية التي طرأت على البلاد، توقفنا عن التبليغ تماماً"... قصة جماعة "الدعوة والتبليغ" التي ظهرت في مصر خلال السبعينيات
أما داخل دكان الحلاقة فكانت الأمور مختلفة. الحلاق الذي يمارس مهنته لم يرحب بنا كما ينبغي، كما أنه رفض الحلويات التي قدمها الشيخ حافظ للحلاق وزبائنه.
يعلق الحلاق بسخرية: "من يضمن لي بأن هذه الحلوى ليست مسمومة؟ من يضمن لي بأنكم لستُ مجموعة إرهابية تعمل لحساب دول معادية؟".
نرتبك جميعاً، في حين يقول الشيخ حافظ: "المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده، لا يمكن أن نمد أيدينا بالأذية إلى أحد".
يتدخل زبون: "ألم تكن جماعة الإخوان من المسلمين؟ والجماعات الإسلامية أليست تنتمي إلى ما تنتمون إليه؟ كلكم من عقلية واحدة لا يمكن الوثوق بها".
يسأل الحلاق بغلظة: "ماذا تريدون منا؟".
يجيب الشيخ: "ندعوكم إلى الله".
يضحك الزبون: "وهل نحن كفرة مثلاً؟ نحن نعرف الله أكثر منكم".
يصيح الحلاق: "اتكلوا على الله من هنا، وإلا أبلغنا الأمن الوطني عنكم".
"لا توجد جماعات غير مشبوهة"
عارف محمد هو خطيب في "مسجد الرحمة" في كفر طهرمس فيصل وموظف في وزارة الأوقاف. يوضح في حديثه لرصيف22: "هذه الجماعة نشأت في الهند، ربما كان ذلك في عشرينيات القرن الماضي، لكنها ظهرت في مصر في السبعينيات، على يد الشيخ إبراهيم عزت إن لم تخني الذاكرة".
يأخذ محمد على الجماعة عدة أمور منها:
أولاً، اقتصار الدين على الدعوة فالدعوة جزء من الدين وليست الدين بأكمله، فالأهم من الكلام الفعل، والعمل يجب أن يسبق الحديث لذلك، والعمل هنا يشمل الصلاح في كافة أمور الحياة وبذلك يصبح عمل المسلم أكبر دعاية حية وصادقة للدين.
ثانياً، الدعوة لأصحاب العلم، حيث يؤمن محمد بأن الدعوة ليست مشاعاً يقوم بها كل من هب ودب، وإلا فما فائدة معاهد إعداد الدعاة بل ما هي فائدة الأزهر الذي تكفل بتلك المسألة منذ نشأته الأولى؟
ثالثاً، لا ضمان للنوايا، إذ يعتقد محمد أنه لا يوجد جماعة أو فرد حتى يمكن أن نعرف نيته الحقيقية التي ربما تكون النقيض لأقواله، خاصة أن مصر عانت من الجماعات التي تدعي بأنها مسالمة، وأنها جاءت لتنشر الحق فإذ بها تقاتل من أجل مكاسب سياسية، و"لنا في جماعة الإخوان المسلمين نموذجاً".
يضيف عارف: "الكثير من الجماعات تدعي أنها تختلف عن الجماعات الأخرى، هذا الاختلاف قد يكون ظاهرياً بينما في الباطن تقوم على خدمة بعضها البعض بما يسمى بالتجنيد التدريجي".
يوضح موظف "الأوقاف" رأيه بأن "الشاب الذي يسعى إلى معرفة الله وكيفية إرضاءه في الأصل قد تجده في بداية مشواره يسمع عمرو دياب كما يسمع عمرو خالد، ثم ينتهي به المطاف بأنه يُكفّر عمرو دياب وعمرو خالد أيضاً، وربما يُبيح دمهما".
ويُشير بأن هذا التحول الفكري الكبير لا يحدث بين يوم وليلة، فلا أحد يستيقظ من نومه وقد أصبح إرهابياً مستعداً لدفع حياته مقابل ما يؤمن به، موضحاً كلامه بالقول: "يحدث الأمر تدريجياً، حيث يلجأ الشاب إلى الشيخ المودرن الذي يخاطبه بمفاهيم عصره، ثم ينتقل إلى الشيخ المتشدد الذي يدعوه إلى ترك متع الحياة، ثم الشيخ الذي يحفزه على قتال المجتمع باعتباره كافراً تجب محاربته".
ويرى محمد أن السينما والدراما هي من سطحت تلك الفكرة وفرّغتها تماماً من مضمونها، مستشهداً بفيلم "دم الغزال" الذي يعرض قصة الشيخ جابر ريان، أمير إمارة إمبابة في التسعينيات، وكيف أنه في الحقيقة انتقل من جماعة لأخرى حتى اعتلى قمة الهرم التعصبي. و"لا يمكن أن ننسى بأن عبود الزمر بدأ مشواره خلال تلك الجماعة لذلك يطلق عليها ′حاضنة الإرهاب′"، حسب قوله.
يُتابع خطيب "مسجد الرحمة" كلامه بالتأكيد على وجوب أن "تكون الدعوة حكراً على الأزهر"، وأن "تقتصر على مساجد الدولة، لأن ما يحدث في النور لن ينتج عنه أفكار ظلامية".
وحين يحكي عن المفارقة بين ما يجري اليوم وما حدث منذ عدة سنوات حين قرر الأزهر أن يمارس الدعوة بين الشعب المصري يبتسم. ويقول: "تم منعه بأمر سيادي"، متسائلاً: "كيف نمنع الأزهر وهو حصن الدين والدولة من ممارسة مهامه بينما نتساهل مع جماعات مجهولة المصدر والتمويل والنوايا؟".
تعاليم الرواقيين الأخلاقية مؤسسة على مبدأَيْن:
(١) أن العالم محكوم بقانون شامل ثابت ليس فيه استثناء.
(٢) أن طبيعة الإنسان الأساسية طبيعة عاقلة، فصاغوا آراءهم الأخلاقية في هذا المبدأ: «عِشْ على وفاق الطبيعة.» يعنون بذلك شيئين:
(أ) يجب أن يعمل الناس على وفاق الطبيعة بمعناها الواسع أعني على قوانين الطبيعة التي تحكم العالم.
(ب) أن يعملوا على وفاق الطبيعة بمعناها الضيق، أعني حسب أهم شيء في طبيعتهم وهو الجزء العاقل، فيسير الإنسان على حسب ما يرشد إليه العقل خاضعًا لقوانين العالم تكون حياته حياة أخلاقية، فالفضيلة هي السير حسب العقل، والإنسان الحكيم هو من يُخْضِع حياته لحياة العالَم ويُعِدُّ نفسه ترسًا في دولابه الدائر، والخضوع للعقل قال به أفلاطون وأرسطو من قبلهم وإنما الفرق في شرح الرواقيين لهذا المبدأ، فأرسطو مثلًا عد أهم جزء في الإنسان عقله كما قال الرواقيون، ولكنه عد الشهوات جزءًا من الإنسان له مكانه ولم يتطلب محاربتها وإنما تطلب ضبطها بواسطة العقل، أما الرواقيون فعدوها شرًّا محضًا يجب إبادته، وصوروا الحياة حياة حرب بين العقل والشهوات يجب فيها أن ينتصر العقل ويظفر بالشهوات يعدمها، ومن ثم كانت نظراتهم تنتهي بالتقشف والزهد وعدم التوازن بين قوى الإنسان.
قد جعل أرسطو الفضيلة أكبر شيء قيمة، ولكنه مع هذا جعل للمال والظروف والأشياء التي حولنا قيمة في الحياة، أما الرواقيون فقالوا: لا خير في الوجود إلا الفضيلة، ولا شر إلا الرذيلة، وما عداهما فشيء تافه لا قيمة له، فالفقر والمرض والألم والموت ليست شرورًا، والغنى والصحة واللذة والحياة ليست طيبات، فإذا انتحر الإنسان وأعدم حياته لم يعدم شيئًا ذا قيمة، واللذة ليست ذات قيمة، وعلى الإنسان ألا يبحث عن اللذة، فالسعادة الحقة في الفضيلة، والإنسان يجب أن يكون فاضلًا لا للذة ولكن لأنه الواجب، وليس هناك درجات للفضائل ولا للرذائل، فكل الفضائل خير ومتساوية في الخير، وكذلك الرذائل.
والفضيلة مؤسسة على شيئَيْن: العقل والمعرفة؛ لهذا كان المنطق والطبيعة ونحوها من العلوم ليست لها قيمة ذاتية، إنما قيمتها في أنها أساس للفضيلة، وأساس الفضائل كلها الحكمة، ومن الحكمة تنبع فضائل أساسية أربع، وهي: بعد النظر والشجاعة، وضبط النفس أو العفة، والعدل، وإذا كانت الحكمة أساس هذه الفضائل كان من حازها حاز كل شيء، ومن فقدها فقد كل شيء، والإنسان إما فاضل بكل ما تدل عليه الكلمة، وإما شرير بكل ما تدل عليه الكلمة، وليس في العالم إلا اثنان: حكيم ومغفل، ولا شيء بينهما، وليس هناك تدرج من الشر إلى الخير، فالحكيم هو الكامل، وهو الحر والغني، وهو الملك حقًّا، وهو الشاعر وهو الفنان والنبي، وليس للمغفل إلا البؤس والقبح والفقر، وهؤلاء الحكماء في الدنيا قليلون، وكلما تقدم الزمن زادوا قلة.
وقد وضع الرواقيون قواعدهم هذه قاسية جافة كما رأيت، ثم أخذوا يعدلونها ويستثنون منها حسب ما ألجأتهم إليه الظروف، فعدلوا نظرهم في إبادة الشهوات لما رأوا أن ذلك مستحيل، وإن كان ممكنًا فهو يؤدي إلى الفناء العاجل، والعجز عن العمل، فقالوا: إذن، إن الحكيم لا يفقد شهواته ولا يستأصلها، ولكن لا يسمح بنموها. كذلك عدلوا قولهم بأن كل شيء عدا الفضيلة والرذيلة لا يُؤْبَه له، فلما رأوا أن هذا لا يسير مع الحياة العملية أعلنوا أن من الأشياء التي لا يُؤْبَه لها ما يفضل بعضه بعضًا، فإذا خُيِّرَ الإنسان بين الصحة والمرض اختار الصحة، وقالوا: إن ما عدا الفضيلة والرذيلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما يفضل، وما يُجْتَنب، وما يُهْمَل فلا يهم. كذلك عدلوا رأيهم في أن الإنسان إما حكيم وإما مغفل، فقد رأوا أن أبطال العالم ورجال التاريخ والسياسة ينطبق عليهم ما ذكروه عن المغفلين؛ لأنهم ليسوا حكماء على الإطلاق، فهم كثيرًا ما ينغمسون في الرذائل، حتى الرواقيون أنفسهم لا يخلون ممن يرتكب الأخطاء أحيانًا، وفضلاؤهم لا يصح أن يُقارَنوا بسقراط وديوجنيس فاعترفوا بأن من الناس من ليسوا فضلاء، ولكنهم يقربون من الفضلاء.
وقالوا: ومهما بلغ الإنسان من استقلاله عن العالم الذي يحيط به، واستغنائه عن كل شيء مكتفيًا بنفسه فإنه لا بُدَّ متصل ببني جنسه في كثير أو قليل، وهو بما رُكِّبَ فيه من نفس عاقلة يدرك أنه جزء من الكون، وأنه مضطر لذلك إلى العمل من أجل الجميع، ويدرك كذلك أن سائر الكائنات العاقلة لا تختلف عنه نوعًا ولا تقل عنه فيما لها من حقوق، وأنهم يخضعون لنفس القانون العقلي الذي يخضع له هو، ويدرك أيضًا أن الطبيعة إنما أرادت بهؤلاء جميعًا أن يعيشوا معًا في مجتمع واحد، يعمل الواحد من أجل الآخر، فقد جبلت في الإنسان غريزة الاجتماع الذي لا بُدَّ لنشأته وقيامه من شرطَيْن: العدالة والحب بين الأفراد، وبغيرهما لا يُرجَى لمجتمع دوام البقاء؛ ولذا فلا مندوحة للحكيم أن يصادق الحكماء جميعًا، وأن يبادلهم حبًّا بحب.
ويرى الرواقيون أن هذه الصلة بين أفراد الإنسان لا يجوز أن تقتصر على أبناء الوطن الواحد، فالعالم كله أمة واحدة لا فرق بين رجل ورجل، ولقد تابع زينو بهذا الرأي المدرسة الكلبية متابعة وَفِيَّة لم يُغيِّر في رأيهم شيئًا، حتى قِيل عن الكتاب الذي ألفه زينو وأسماه «في الدولة» أنه «كُتب على ذيل كلب» إشارة إلى أنه تأثر في كتابه هذا آراء الكلبيين خطوة خطوة.
فلم يَرَ الرواقيون مبررًا للتفريق بين بني الإنسان في المعاملة ما داموا ينتمون جميعًا إلى أصل واحد، ويسيرون إلى غاية واحدة ويخضعون لقانون واحد، وهم أعضاء جسم واحد، فيجب وجوبًا لا مفر منه أن نعامل كل إنسان كائنًا من كان، معاملة حسنة طيبة، لا نستثني من ذلك العبيد، فهم كذلك جديرون منا بكل عناية وتقدير.
والدين الحق عند الرواقيين هو الخضوع لقوانين الكون وصروفه المقدورة، وهو تلبية حاجات المجتمع وخدمته، والتقوى هي عبادة الآلهة ومحاكاتهم حتى نرتفع إلى ما هم فيه من كمال، هي في صفاء القلب ومضاء العزيمة، فليس الإيمان الصحيح والدين القويم إلا الحكمة والفضيلة، وبعبارة أخرى الدين والفلسفة شيء واحد.
عمرو عاشور
إضافة تعليق جديد