70عاماً على غياب مكسيم غوركي
قبل ايام، نشر احد المواقع على الانترنت مقالا عنوانه "تروتسكي يقيم مكسيم غوركي"، لمناسبة الذكرى السبعين لرحيل الكاتب الروسي الشهير (1868- 1936). والحال ان الكاتب والمكتوب عنه، هما من الأسماء التي جعلتنا الإيديولوجيات نبتعد عنهما، او نتجنب افكارهما وادبياتهما. ما يلفت في مقال تروتسكي، طريقته المدهشة في الكتابة. فهذا "الثوري" الذي قتل بفأس ستاليني في المكسيك، لم يجعل من غوركي نبيا، كما فعل غلاة "الواقعية الاشتراكية" والصحافة السوفياتية، بل كتب عنه من حيث يراه، من حيث اراد أن يشخصه. قال: "توفى غوركي، حينما لم يعد لديه ما يقوله"، وسعت الصحافة السوفياتية، قبل ان يبرد رفاته، الى إغراقه تحت جبال من المديح الكاذب غير المعتدل، واصفةً إياه بعبارات، من مثل "العبقري" و"العظيم". لو كان غوركي لا يزال على قيد الحياة، لقطّب جبينه لمثل هذه المبالغات. بيد ان الصحافة البيروقراطية العديمة الكفاءة لها مقاييسها: فاذا كانت رفعت ستالين ورجال نظامه وهم أحياء الى مصاف العبقرية، فلا يمكنها بالطبع حجب هذه الصفات عن غوركي بعد موته. ويضيف تروتسكي ان غوركي "كان كوكبا تابعا للثورة مرتبطا بها بقانون الجاذبية الذي لا يمكن التغلب عليه ودار حولها طوال حياته. ومثل الكواكب التابعة مر في مختلف المراحل، فأحيانا اضاءت شمس الثورة وجهه، وأحيانا أخرى ظهره. لكن غوركي وفي كل المراحل ظل مخلصا لذاته ولطبيعته الثرية، البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه".
لغوركي أكثر من وجه، فلطالما سمي بأبي "الادب الثوري" و"الشعبي"، لكنه كان يجد لذته الكبرى في المآسي والأحزان التي مرت بحياته: "إني مغرم بالمآسي ومولع اشد الولع بتصوير الألم البشري، لا لأني اكره الحياة، بل لأني على النقيض احبها حبا شديدا". يعني اسم غوركي باللغة الروسية، الإنسان الذي يحسّ بالمرارة، وقد انعكست هذه المرارة على كتاباته كلها.
ولد غوركي في مدينة نيجني نوفغراد، لأب كان يشتغل نجارا، مات عندما مكسيم في الرابعة من العمر، فذهبت الأم الى بيت أهلها، وتركت الطفل هناك في رعاية جدته التي كان لها أسلوبها الجميل والفاتن في تلقين الطفل أنواع الحكايات التي شكلت مخزونا له في الكتابة، وقد حاول غوركي الانتحار عندما توفيت الجدة.
عاش غوركي بائسا ومشردا. عمل اسكافيا وبستانيا وطباخا وبائعا متجولا وحمالا. اهتم بالأدب الى جانب العمل الشاق، فقرأ المؤلفات الكلاسيكية، الروسية والأجنبية ووضع مجموعة قصائد منها "أغنية الفلاح العتيق"، وعرضها على صديق له نصحه بأن لا يقرض الشعر ابداً، وكان مأخوذاً ببيت شعري لبوشكين جعله ميزانه النقدي في كل ما يكتب: "ايها الشاعر انت المحكمة العليا لذاتك". نشر غوركي أولى قصصه، "ماكار شودرا"، في صحيفة في مدينة تبيليسي، ثم واصل كتابة المقالات والقصص والتعليقات في صحف القرى والأقاليم. وعندما لفتت نصوصه الكاتب فلاديمير كورولينكو، شجّعه هذا الأخير على الكتابة في الصحف المعروفة في سان بطرسبورغ، فصادق تولستوي وتشيخوف. من هنا بدأ مشوراه مع الادب، الذي لم يكن منفصلا عن واقعه السياسي والاجتماعي والحياتي. فأبطال أدبه حقيقيون وواقعيون، يمثلون إرهاصات الثورة الروسية وأبناء البيئة البائسة التي عاش في نسيجها وكان منها. اما روايته "الأم" فهي صاحبة الفضل في شهرته، وتعتبر من النصوص الممهدة لاندلاع الثورة البلشفية. كتب غوركي الرواية في اميركا، حيث كان "منفيا" بعد اعتقاله في روسيا بتهمة الانتماء الى "ثورة الديسمبريين" عام 1905. الحكاية التي تقف وراء رواية "الأم" باتت معروفة، ففي شبابه كان غوركي إنساني النزعة، انضم عام 1905 الى الثورة التي اندلعت عهد ذاك، واعتقل، لكن ما لبث ان أطلق بفضل موجة عارمة من الاحتجاج العالمي، منها تصريحات للكاتب الفرنسي اناتول فرانس. وما ان خرج من المعتقل حتى توجه للعيش في الولايات المتحدة. بيد ان السلطات الاميركية ما لبثت ان طردته بحجة ان المرأة التي تعيش معه ليست زوجته الشرعية. هكذا عاد الى بلده لينشر رواية "الأم" على شكل حلقات في مجلة اسبوعية، حيث اشتهرت بطلة الرواية، "المناضلة" فلاسوفا، التي "انتشرت" عاطفتها الامومية لتغمر الشعب كله.
منذ صدورها للمرة الأولى، وصفت رواية "الأم" بأنها الكتاب الذي يعبر عن الثورة. مع هذا، فإن النقاد الذي تابعوها منذ البداية، لم يروا فيها سوى شهادة على الحياة التي يعيشها الناس البسطاء او البروليتاريا الرثة. شخصان اثنان على الأقل من "نجوم" القرن العشرين، أعلنا افتتانهما بالرواية، الاول هو السينمائي بودوفكين، الذي حول الرواية فيلما، والثاني الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريخت الذي اقتبس من رواية غوركي مسرحية تندرج في اطار الادب "الثوري".
ومع ان الرواية كانت من النصوص الممهدة البلشفية، فإن غوركي وقف موقفا سلبيا تجاه هذه الثورة، اذ رأى انها شعبوية وديماغوجية اكثر من اللازم. يقول تروتسكي ان غوركي استقبل الثورة بقلق، وفي السنوات الاولى قام بمهمة الوسيط بين السلطة السوفياتية والانتليجنسيا القديمة كشفيع لها عند الثورة، وخاف لينين الذي كان يحب غوركي جدا، من ان يصبح هذا ضحية لعلاقاته وضعفه، وفي نهاية المطاف اختار غوركي الرحيل الطوعي الى الخارج عام 1921، وهناك تمكّن من إكمال الجزء الثالث من سيرته الذاتية ("طفولتي"، "بين الناس"، "جامعاتي")، وكذلك كتابة عملين روائيين، "شؤون أرتمانوف" و"حياة كيم زامقين". ولم يعد الى روسيا الا عام 1928 بناء على طلب شخصي من ستالين الذي أحاطه بعنايته، وأوصله عام 1933 الى منصب رئيس اتحاد الكتاب. اتهمه الستالينيون بأنه كان يحضر اجتماعات تروتسكية، واتهمه الكتاب الغربيون الذين دافعوا عنه اثناء اعتقاله، بالصمت على الفظائع الستالينية، وبعد اشهر أجبره ستالين على الاقامة الجبرية في منزله في موسكو، حيث كانوا يزودونه صحيفة "البرافدا"، التي كانت تنشر اخبار التصفيات والاعتقالات.
يذكر ان غوركي كتب الكثير من المسرحيات واهتم بثقافة الأطفال، وخصوصا انه عاش طفولة شقية مريرة. عام 1936 قضى نحبه جرّاء عملية جراحية، بعدما أتمّ كتابة ثلاثية "ذكريات حافلة" عن عمالقة الأدب الروسي، تولستوي وتشيخوف وأندرييف، والذين رقد الى جانبهم رقدته الأخيرة. حتى اليوم لا يزال الكثير من الشكوك يحيط بوفاته: هل مات حقا بفعل داء الرئة الذي اصيب به، او قيل انه أصيب به، ام تراه مات مسموما بأمر من ستالين شخصيا؟
لاحظ أحد الكتّاب ان الشاعر التركي ناظم حكمت كتب عند وفاة غوركي مقالا في المناسبة جاء فيه "يقولون ان دوستويفسكي وغوركي هما قطبا الادب الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. دوستويفسكي يمثل الماضي والظلمة والخطأ والسأم والبؤس الانساني، اما غوركي فرمز المستقبل والنضال والاشراق والتمرد والقوة الانسانية. دوستويفسكي على الرغم من إبداعه وقابليته في تحليل شخوص روايته التي لا يمكن التنكر لها في عالم الرواية، اضمحل وولّى مع اشراقة العالم الجديد. اصبحت لاعماله قيمة متحفية فقط، بينما غوركي يظل حيا عبر القرون". حينما كتب ناظم حكمت تقويمه الرتيب هذا عام 1936، كان دوستويفسكي يحتل مكانه في قائمة الكتاب الذين حظرت الثورة البلشفية اعمالهم. ولم تقتنع الثورة بأن أعماله الروائية لا تسيء اليها الا بعد سنوات طويلة. ويبدو ان حكمت كان متحمسا للرقابة الستالينية برغم اعجابه بدوستويفسكي، وربما لو عاش الى ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والإيديولوجيات، لكان عرف من هو الذي اصبحت كتاباته في المتحف وخارج التداول.
شوقي نجم
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد