أيهم ديب:بين منطق "عبدلكي" وواقعية "سماوي" في الإنتاج التشكيلي السوري
الجمل – أيهم ديب: الحمار الواقف في النقطة 3.1427 درجة 3° 8' 3 من خط العرض شمال الاكواتور و النقطة 101.710درجة 101° 42' من خطوط الطول الى الشرق من الخط الرئيس المتوسط عند الزوال هو عمل فني لا يمكن تثبيته إلا بالصورة مباشرة قبل تفكيكه و إرساله الى التحنيط حيث يعاد إنتاجه بعد ذلك على شكل حمار محنط ليوضع في المتحف على خلفية الصورة التذكارية، أو بالمجاذفة مالياً و اللجوء الى الفنان داميين هرست ليعيد إنتاج الحمار في متتالية عضوية تتحدى وحدة الهوية الثقافية لمخلوقنا المحتمل.
يطرح الفن اليوم على الجميع أسئلة تتعلق بتمدده في الجسد الثقافي للمجتمع المعاصر. ليس أول الأسئلة ما شكل الفن، و لا آخرها: الى أين سيذهب كل هذا الفن، أو متى يتوقف الفن عن توالده و إنتاج نفسه سواء في حياة العمل الواحد أو في الصيغة المفتوحة للثقافة التي تسمح بتحولات غير ثابتة للعقل الذي ينتج اللغة التي تمنح كلمة الفن طاقتها التي لا يبدو انها خاضعة للقوانين الفيزيائية الطبيعية من حيث شروط تحولها او انتاجها او انتقالها.
في سوريا، و في زمن محدد هو شهر حزيران، شهدت الساحة الفنية جدلا يصدف انه جامع و حقيقي. أي أن موضوعته تهم الجميع بعمق و تدفعهم للبحث عن اجوبة. و هو شيء أساسي في انتاج ثقافة موضوعية و جديرة.. ففي الوقت الذي يمكن القول أن الجدل الفني لم يكن حاضراً في الساحة الفنية السورية، أتت غاليري أيام لتفتح الباب على مصراعيه، و السبب هو انها لمست عنصراً هو في صلب هوية المكان. حتى و لو لم يرد احد الاعتراف به ألا و هو المنطق المادي الذي يحكم ناتج الفن السوري.. و حتى لا يساء فهمي سألمح فقط الى حقيقة غياب البحث المفاهيمي و الإنتاج الفني الذي ساد دول العالم، والتزام الفنان السوري بفنية يمكن وصفها بالحرفية المادية، مهما تسامت في دوافعها و موضوعاتها.
بقي الفن السوري أميناً للحرفة و متسربلاً بجسدها المادي، لهذا كانت الصفعة التي وجهها السيد خالد سماوي – عبر حواره في يوميات ثقافية- هي الأكثر تاثيراً في وجه المشهد التشكيلي السوري .
السيد سماوي فعل في الفن في سوريا ما فعله جورج بوش في السياسة المعاصرة: لقد أحرق قواميسها و تركيباتها الشعرية و وضعها في صيغة واحدة اقتصادية: المال هو المحرك و هو الصيغة الرياضية التي يمكن معادلة أي شيء بالاستناد اليها.. هذا يشبه ما حدث في معظم صيغ الحياة في المجتمع المعاصر تحت تأثير صعود المنطق الاقتصادي و تربعه على سلم القيم الانسانية. ففي علم النفس تم تفكيك الحب و الكره و الغضب الى صيغ كيميائية رياضية، و أصبح الحب يرد الى مرض او حاجة او تضخم في أحد عناصر الشخصية. و هكذا تم اسقاط كل النتاج الثقافي المرتبط بالحب- مثلا لا حصراً- تحت مبضع التحليل النفسي و الكيميائي و الاقتصادي بالنتيجة.
السياسة في سوريا و الخيار السياسي يقع في نفس الخانة، لا يمكن الذهاب بعيداً في التفاصيل يجب ان تستثمر الدولة في العنصر المنتج و ترسل غير المنتج الى الثلاجة. لم يعد المفهوم الكلاسيكي للمجتمع هو محرك الدولة او منطقها، بل منطق المعادلة الاقتصادية. لهذا تتهالك طبقات بالجملة لأن تكلفة قبرها أرخص من تكلفة تطويرها.
السيد سماوي يقول أن العمل الفني هو في النهاية سلعة، و في الحقيقة يصعب توصيف أي شيء في العالم على أنه ليس سلعة. فالكلمة جامعة و معقدة، و لهذا فإني أعتقد ان هذا الكلام يفتح باب الفن المفاهيمي أو الصيغ الأكثر اختلافاً للفن أكثر مما فتحتها المحاولات الأوروبية المثيرة للضحك في محاولتها تلقيح المشهد السوري بأشكال تعبيرية حداثوية تم استهلاكها في اوروبا منذ 50 عاما على أقل تقدير.
لست مؤرخاً, و لكن أمام ناظري، هذه المرة الأولى التي يقف الفن ليجيب عن سؤال هوية بدون مواربة، رغم انها ليست المعركة الأولى للفن، فمن قبل قامت الأصولية الدينية بصفع الفن. و لكنه لم يرتكس كما ارتكس في حالتنا هنا.
واحدة من نقاط الضعف في خطاب الفنانين السوريين تأتي من حقيقة ان الثقافة – القبلية – التي ينتسبون اليها لم تتمكن من قراءة مشروع السيد سماوي منذ البداية، رغم ان المثقفين هم المعنيون بالمعرفة الكلية – قدر الامكان – و السيد سماوي هو الطارئ ، و بالتالي لقد أخذت الثقافة 5 سنوات قبل أن تكتشف أن قيادتها لنفسها بعينين مفتوحتين تسببت بخسارة و فشل كبيرين. فكيف لها ان تقود مجتمعا - نصف ضرير لأسباب سياسية - . هنا يمكن ان أضع اسم صريحا هو( فراس شهاب ) كلاعب محترف في المشهد الثقافي المحلي، لأنه ميز منذ البداية بين إدارة الفن و إدارة الغاليري. فمنطق إنتاج الفن (آليات تشكله و بالتالي حضوره و تحوله الى ثقافة) , تختلف عن منطق إدارة لأعمال : أي تامين منح مالية , تأمين صرفها، إقامة مهرجان، السفر رحلتين في السنة .
لم يخطئ السيد سماوي بحق نفسه، بل ساعد الفنانين في اكتشاف أناهم و اكتشاف الشكل الاقتصادي لعالم الفن و هو ما يجب ان يعود بالفائدة هنا على الطرفين.
على الفنان الحقيقي- لا أعرف ما هي علامات أحقيته- أن يرفض التزوير كأبسط مقاربة ليحقق أصالته، لأن الفنان العاقل لن يرضى بالتفاهة . من طرفه، على السيد سماوي أن يقف قليلاً أمام المعرض الذي أقامه اليوم لفنانين من حصته في الفن السوري و هما عمار البيك و تمام عزام.. عمار البيك : يعمل على التقديم , و بغض النظر عن تسمية العرض – عرض تركيبي إنستاليشن- إلا أنه فعلياً لا يقفز فوق الصيغ الأساسية لهندسة التصميم الداخلي- الديكور- و هذا ليس انتقاص للعمل، بل تأكيد على تأثير خط السيد خالد سماوي في أن الفن سلعة، فالفنان عمار يقدم عمله باعتبار الشكل هو النتيجة النهائية لجملة القيم الداخلية و التي لم يكن حضورها في العمل إلا لإلغائها.
فعلياً هذا هو الشكل الذي ينتهي إليه منطق السيد سماوي. إنه منطق العمارة الداخلية التي سينتهي إليها العمل الفني باعتباره سلعة. لهذا فإنه قد يكون من مصلحته أن يعيد تشكيل مجموعته الفنية بحيث تكون قادرة على تقديم فنون قابلة للإندماج بالشكل الاقتصادي للدولة و الذي يعد الاستثمار العمراني أهم تجلياته. فمن الواضح أن البحث عن –براند- او علامة تجارية هو المحرك الأساسي , وهنا لا أصيغ ما يقوله الفنان بل ما يريده.
في القسم المجاور يعرض الفنان تمام عزام أعماله التي تعكس الأثر السلبي لموديل السيد سماوي على طيف آخر من الفنانين. فأعمال الفنان عزام القديمة هي بما لا يقارن أفضل مما ينتجه اليوم.
أعتقد ان ما ساعد الفنان البيك على النمو في بيئة أيام غاليري هو أنه في الأساس صانع صورة، و هذا يمنحه الحكمة اللازمة للفصل بين الشخصي و الموضوعي. فمن أساسيات التصوير الضوئي هو استقلالية الموضوع الفيزيائية- على أضعف تقدير- عن المصور، وهذا يحمي هوية المصور عندما تتشابك ظروف الانتاج.
في الطرف الآخر الفنان تمام عزام رسام, و ليس فقط، بل ذو نزعة تعبيرية شديدة الذاتية- ليس تجريدي – هذا يجعل في داخله تحدٍّ عندما يحاول ان يتمثل منطق السيد سماوي. ينعكس هذا على الأريحية التي يستشعر فيها الفنان مواضيعه و على الحرفية التي ينتجها بها.
لقد قال السيد عبدلكي للسيد سماوي ان يترك الثقافة للمثقف و أن يعيد النظر في علاقته مع الفن، و هذه النصيحة تنطبق على الجميع فالكل مدعو ليعيد النظر في معنى العمل الفني، و في دور الفنان.
و لن أكون أيهم ديب إن لم أقحم السياسة في الخاتمة، و لكن سأذكر الجميع بأن الفنان السوري بكل أشكال التعبير – كتابة, تمثيل, رسم- تم عزله عن السياسة من خلال إغراقه في البحث عن الخلاص المادي. ليس المطلوب ان تكون موضوعة الفن هي السياسة و لكن من المعيب أن يهجر الفنان عجلة القيادة في المجتمع و يتركها لساسة يقرؤون المجتمع بآلة حاسبة.
الجمل
التعليقات
شكرا يا أيهم
كتاباتك يا
إضافة تعليق جديد