«داعش» يستغل الفسحة الأميركية: هجوم في العراق لتوسيع حزام الأمان حول معاقله
التلاعب بالوقائع على الأرض من قبل واشنطن، والإصرار على ممارسة التقديم والتأخير في تنفيذ بعض الخطط العسكرية، وربط محاربة الإرهاب بأجندات سياسية تخدم مصالحها، عواملٌ تسببت في خلق فسحة من الاسترخاء العسكري التي سارع تنظيم «داعش» إلى التسلل منها، لتوجيه ضربة قوية من شأنها إرباك المشهد، تمهيداً لقلبه رأساً على عقب في حال استمر التراخي الأميركي في مواجهته.
وبحسب مصادر مقربة من تنظيم «داعش» فإن الهجوم على مواقع البشمركة الكردية على أطراف الموصل، فجر أمس، ليس هجوماً عادياً يأتي في سياق الهجمات «الانغماسية» التي اعتمد عليها التنظيم خلال الأشهر الماضية بهدف إشغال خصومه ومنعهم من تهديد «منطقة القلب» بالنسبة إليه، المتمثلة بمدينتي الموصل والرقة.
وتؤكد المصادر أن هذا الهجوم هو إعلان «بداية مرحلة جديدة سيحاول التنظيم من خلالها الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، بهدف السيطرة على مناطق جديدة وتوسيع حزام الأمان حول معاقله الأساسية».
وأكد الصحافي العراقي خالد القيسي، المعروف بلقب «أبو الوليد السلفي» وهو خبير متابع لشؤون «داعش»، أن التكتيكات التي استخدمها التنظيم في الهجوم تؤكد ذلك، وأهمها الهجوم من عدة محاور، وهو ما لم نشهده في العراق منذ عدة أشهر، واستخدام تقنية السيارات المفخخة المسيرة عن بعد». وأشار إلى أن هذا الهجوم يثبت أن «الدولة الإسلامية» ما زال يمتلك كوادر قيادية على مستوى عالٍ من الخبرة العسكرية، وأن اغتيال قادته الكبار لم يؤثر عليه كثيراً، كما تحاول الإدارة الأميركية أن توحي، معتبراً أن من أهم هذه القيادات «أبو فاطمة الجبوري، وأبو صالح العبيدي».
وقد أدت سياسة الولايات المتحدة المتناقضة وغير الواضحة، إلى خلق العديد من الثغرات التي أدت إلى ضعف فعالية الحرب ضد تنظيم «داعش» والتقليل من تأثير الهزائم الأخيرة عليه وعلى بنيته العسكرية وقدراته القتالية. فمن جهة أوقفت واشنطن تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية غرب نهر الفرات في سوريا، مستجيبة بذلك لضغوط تركية معروفة، كما أنها استاءت من تقدم الجيش السوري في تدمر والقريتين، وعملت على عرقلة تقدمه باتجاه دير الزور والرقة، حيث أرسلت عدداً إضافياً من جنودها إلى شمال سوريا في رسالة واضحة أنها تعتبر الرقة معركتها هي.
كذلك لم تكف الإدارة الأميركية عن معاكسة الخطط العسكرية التي يضعها الجيش العراقي و «الحشد الشعبي» بخصوص الموصل، وهي أعلنت أكثر من مرة عن شكوكها حول الموعد الذي تضعه القيادة العراقية لبدء المعركة. كل ذلك منح التنظيم فسحة للتحرك بروح جديدة ربما يكون قد اكتسبها من دماء القيادات الجديدة التي حلّت مكان تلك التي قتلتها طائرات التحالف.
واللافت في هجوم أمس، أنه أوسع هجوم من نوعه يقوم به تنظيم «داعش» في العراق منذ حوالي عام كامل، وتحديداً منذ سيطرته على مدينة الرمادي. ولم تكتف خطة التنظيم بوضع عدة محاور لتنفيذ الهجوم ومباغتة قوات البشمركة، ومن ورائها الوحدات الأميركية التي تساندها، بل تعمد أيضاً شن هجمات متزامنة في مناطق أخرى بهدف تشتيت قوات خصومه وممارسة أعلى ضغط ممكن عليها. فقد هاجم عناصر «داعش»، الذين لا يتجاوز عددهم 400 مقاتل، مواقع البشمركة من محور الكوير والخازر بين الموصل وأربيل، ومحور بعشيقة، وتلسقف وبادوش وناوران بين الموصل ودهوك. كما هاجم القوات العراقية في شمال مدينة بيجي، كذلك اشتبك معها في جنوب الفلوجة وغرب هيت لصد هجماتها ضده.
ويمكن التأكيد أن الهجوم من حيث سرعته وتكتيكه كان مفاجئاً وغير متوقع، حتى من قبل أشد أنصار «داعش» ممن كانوا يحاولون التعايش مع مرحلة انحسار تنظيمهم وتراجعه عن العديد من مناطق سيطرته بفعل «تحالف كل العالم» ضده، بحسب اعتقادهم.
لكن المفاجئ أكثر هو عدم قدرة الاستخبارات الأميركية على التنبؤ بهذا الهجوم قبل وقوعه، وعجزها عن رصد حشود التنظيم التي كانت تستعد لتنفيذه. ثم سرعة تقهقر قوات البشمركة وفرار قادتها منذ اللحظات الأولى للهجوم، بالرغم من أن هذه القوات مدربة بشكل جيد وتمتلك أسلحة حديثة ومدعومة من واشنطن. ونتيجة هذا التقهقر اضطرت على ما يبدو الوحدات الأميركية، التي يفترض أنها تقوم بدور استشاري فقط، أن تنزل إلى الميدان في محاولة لسد الفراغ الذي خلفته القوات الهاربة، وهو ما أدّى إلى مقتل مدرب أميركي من «المارينز» وإصابة آخرين من الجنود الأميركيين والبريطانيين، بحسب تأكيدات مصادر إعلامية مواكبة لعمليات التنظيم.
وقد أكد «البنتاغون» مقتل الجندي الأميركي، مشيراً إلى أنه قتل نتيجة نيران معادية. وحول ملابسات مقتل الجندي، قدم مسؤول عسكري في التحالف الدولي رواية مخالفة لرواية إعلام «داعش» حيث أكد أن الجندي الأميركي قتل بنيران مباشرة من قوة معادية تسللت خلف خطوط الصد لقوات البشمركة التي تنتشر على أطراف محافظة نينوى التي يسيطر «داعش» على مركزها الموصل. وقال مسؤول عسكري أميركي إن الجندي هو من قوات العمليات الخاصة التابعة للبحرية.
وعن سبب هذا التقهقر الذي أصيبت به الوحدات الكردية المقاتلة، أكّد عمر الفلاحي، وهو باحث عراقي متابع لشؤون التنظيمات الإسلامية، أن «الهجوم الشامل على أكثر من محور، شرق الموصل وشمال شرق وشمال، لعب دوراً في تشتيت جهود التصدي وفي إبطاء سرعة استجابة طائرات التحالف الدولي جوياً». واعتبر أن هذا الهجوم «يتطلب إعادة النظر في مقولة أن التنظيم فقد القدرة على القيام بعمليات هجومية واسعة».
وكانت القيادة المشتركة لعمليات التحالف الدولي أعلنت مؤخراً أن «الحرب ضد داعش دخلت مرحلتها الثانية التي ستركز على تفتيت التنظيم وتفكيكه في العراق وسوريا»، وذلك بعد إنجاز المرحلة الأولى التي يفترض، بحسب المتحدث باسم التحالف ستيف وارن، أنها أدت إلى «إضعاف التنظيم».
ومع ذلك يرى الفلاحي أنه من المبكر الحديث عن «مرحلة جديدة»، لكنه شدد على أن الهجوم يعتبر لافتاً، سواء من حيث عنصر المفاجأة أو التكتيك العسكري أو من حيث الفشل الأميركي والكردي.
ومما لا شك فيه أن الهجوم الذي حصل فجر أمس وما رافقه من تقهقر كردي سريع، أدّى إلى ضياع جهود عامين كاملين عملت خلالهما واشنطن بالتنسيق مع البشمركة للتحضير لمعركة الموصل، عبر خلق نقاط ومراكز للتحشيد والانطلاق تكون جاهزة عند تحديد موعد بدء المعركة، إلا أن ذلك أصبح من الماضي، ويبدو أن على الأميركيين وحلفائهم أن يبدأوا العمل من نقطة الصفر. ولن يغير من الأمر شيئاً أن يضطر «داعش» للتراجع عن النقاط التي سيطر عليها في تلسقف وغيرها بفعل الغارات الجوية المكثفة لطائرات التحالف التي لم تهدأ عن التحليق فوق مناطق القتال منذ سيطرة التنظيم عليها. لأن الهجوم خلق واقعاً جديداً لن يكون بإمكان واشنطن وحلفائها القفز من فوقه، بل سيتعين عليهم وضعه تحت المجهر ودراسته بإمعان لأخذ العبر منه قبل اتخاذ أي خطوة جديدة نحو الموصل.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد