«علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة»
يعتبر كتاب «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة» بأجزائه الستة، من أهم أعمال المستشرق الألماني جوزيف فان أس، وصدرت أخيراً ترجمة الجزء الأول منه إلى اللغة العربية عن «منشورات الجمل» وترجمة سالمة مصالحة، ويتناول فيه ملامح التدين الإسلامي في القرن الأول للهجرة، وفي مختلف المقاطعات الإسلامية في القرن الثاني.
ويرجع جوزيف فان أس، وهو أحد كبار المستشرقين الألمان، إلى القرون الأولى للإسلام، كي يبحث في التفكير الديني والاجتماعي والسياسي للمسلمين خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، مثيراً جملة من الموضوعات والمفاهيم المتعلقة بالدين وبالمجتمع، والتي تمس جدل العلاقة بين الإسلام والمجتمع.
وينظر هذا المستشرق الكبير إلى الفقه بمعناه الأوسع، بوصفه الحديث عن الواقع الذي يحدده الدين والذي يستهدي بالوحي، مع إقراره بصعوبة الإمساك بقطبي العلاقة بوضوح، نظراً لأن الفترة المدروسة كان المجتمع فيها والفقه يبحثان عن هويتهما. لذلك يلجأ إلى تناول هذه العملية بحسب المدن والمناطق بشكل منفصل، محاولاً إعادة تشكيل الوضع الديني في المناطق المنفردة، ثم يحصر نظره في بغداد بوصفها حاضنة بلاط الخليفة في ذلك الوقت، ويبدأ من الأشخاص الذين يمتلكون تعليماً دينياً في القرن الأول، والذين كانوا يسمون القراء. ثم جرى التمييز تدريجاً بين الفقهاء والمفسرين والمتكلمين، حتى بقي من القراء فقط المتخصصون بقراءة القرآن. ويعدّ تفسير القرآن من أقدم فروع العلوم التي تتداخل فيه أعمال القراء والقصاص أو الرواة معاً. وكان الحجاج أول من أعطى موافقته على قيام أفراد بقراءة القرآن في المسجد خارج أوقات الصلاة، ثم قام الرواة بدورهم بإحاطة النص القرآني بتفسير تأويلي.
ويتتبع فان أس نشوء علم الكلام التناظري، إذ كانت المناظرات هي الوسيلة الحاسمة في نشر وتكريس وجهات النظر الدينية، وأدت إلى تطور فقه إسلامي بالمعنى الصحيح وهو علم الكلام. وكان على مبعوثي واصل بن عطاء أن يقدموا أنفسهم إلى الجمهور من خلال تقديم الاستشارات القانونية، واستمرت هذه الممارسة في التعليم القانوني قروناً، لكن من الصعب معرفة الفترة التي أجريت فيها المناظرات للمرة الأولى بين مسلمين وغير مسلمين أو بينهم وبين إخوانهم في العقيدة، إلا أن الواضح هو أن المناظرة استخدمت كسلاح من قبل جماعات المعارضة، لأنها كانت تعاني من مشاكل الشرعية. أما تسمية المتكلمين، فإن الحديث كان يجري في البدايات عن المتكلمين بين القادة، أي «الذين يدلون بالتصريحات تحت أمر القائد»، ولم يصبح المصطلح بعد مكتملاً، مع أن المتكلم ظهر مبكراً بمعنى متحدث له وظيفة معينة، أو تكلم بمعنى ظهر كمتحدث.
وكان يقصد بالمتكلم ذلك الشخص المتحدث باسم وفد أو جماعة، وقد يكون شاعراً او خطيباً أو حكيماً أو قاضياً، وقد نقل عن مفسر القرآن المكي مجاهد قوله: «اختفى العلماء ولم يبقَ سوى المتكلمين»، وكان يقصد بالمتكلمين مجرد أبطال اللسان، وحين كان المرء يتعلم الكلام، أي يتعلم اللباقة في الكلام، وفي زمن أبي حنيفة، أي منتصف القرن الثاني للهجرة كان الفقه يسمى الفقه الأكبر، ومن كان عالم دين ورجل قانون كان يسمى فقيهاً. أما في زمن الجاحظ فقد استخدم مصطلح «المتكلمون» بشكل واسع، إذ كان الأطباء أيضاً متكلمين إذا اهتموا بالفلسفة وعبروا عن أرائهم في العلن، وأحياناً لا يكاد يعني المتكلم بالنسبة إلى الجاحظ أكثر من «مثقف»، ولكن بالنسبة إلى الفقهاء تعتمد الكلمة من دون النظر إلى المدرسة من الأرازقة إلى المعتزلة. وكان الجدل مع غير المسلمين من أكثر المجالات التي أظهر فيها المتكلمون كفاءاتهم، الأمر الذي أفضى إلى اكتساب الفقه الإسلامي ملامحه في الطرق.
ويرى فان أس أن طريقة علم الكلام كانت تعتمد في البدايات على بنية المحاججة في القرآن، التي يكمن أصلها في المناظرات، حيث الأسئلة المستفزة والمسرّة التي تنشأ عن الدفاع حول المسائل الدينية بطريقة ديالكتيكية مع الآخرين، ورأى الجاحظ «من البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم». لكن كلما أصبح علم الكلام الإسلامي قضية متخصصين، أي متكلمين، كلما تسربل بلغة متخصصة وأصبح غير مفهوم للهواة حتى للمتعلمين منهم. ويعتبر فان أس أن سورية والحجاز كانتا منذ العصر العباسي زاويتين ساكنتين، لم تعودا تؤثران في تطور الفقه، في حين أن العراق وإيران طبعتهما تناقضات مثمرة، فاستخدم الخلاف في الآراء أدوات الكلام بصورة متزايد. وتدفق المثقفون من جميع المناطق والمراكز الحضارية الأخرى إلى بلاط الخليفة في بغداد، لإجراء المناظرات الفكرية التي تحولت إلى تقليد ثقافي نهض على التسامح والحوار، وساعد على تنشيط الحركة الثقافية والعلمية وفجر إشكاليات تأويلية نقدية تخص حقيقة التراث، وأدى إلى قيام المدارس والجامعات، فتطور علم الكلام ليصبح مناظرة بطولة فكرية، وعليه يدرس فان أس مختلف هذه المناطق متتبعاً ملامح تطور علم الكلام والمجتمع فيها.
ويطاول البحث دور المثقــــفين في نشأة علم الكلام منذ الخلافة الأموية حتى نهاية القرن الثالث للهجرة، حيث دخل الاعتزال آخر مراحله المدرسية، لتبدأ مرحلة مهمة أخرى في تاريخ علم الكلام وهي علم الحديث. لكن فان إس يشير إلى أن جميع ما يرتبط بالقرن الأول للهجرة من أحاديث كان يدخلها الشك لاختلاف الآراء حولها، وعليه فإن من الصعب إصدار حكم، وإذا صدر أي حكم فهو غير دقيق.
والحاصل هو أن علم الكلام ارتبط، منذ نشأته، بإشكاليات وقضايا المجتمع المتعدد الثقافات، ولم يقتصر هذا العلم على البحث في ذات الله، كما لم يكن مجرد تأمل تجريدي للعلماء، أي لم يكن بمنأى عن كل ما كان يحدث في المجتمع من صراعات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، فكان علماء الكلام أناساً يعيشون في المجتمع، يتأثرون به ويؤثرون فيه، ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات. وارتبطت التطورات بوحدة الأمة ووحدة الفكر الإسلامي، وأثرت بدورها على تطور علم الكلام في بغداد وسواها، مثلما أثرت على تطور المعارف والعلوم. وأنتجت القرون الأولى من العصور الإسلامية مجتمعاً، كان في بداية تكونه ووحدته، وفي بداية انفتاحه على الآخر، وتمكن من أن يستمع إلى ما يقوله علماء الكلام وأن يتقبله برحابة، وأن يجعله محوراً لتشكيل مختلف مناحي الحياة.
ويبدو أن فان إس انطلق في كتابه إلى التساؤل عن الأشياء ذاتها، وإلى كتابه ما يشبه سيرة جماعية لمختلف الفاعلين الاجتماعيين في الفترة المدروسة، وذلك بغية معرفة دور الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قامت منذ بداية تكوين الفرق الإسلامية وتحديد أهميتها. بمعنى أن بحثه استند إلى منهج يجمع بين السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، مع ميله الشديد إلى الدقة الأكاديمية. ونظر وفق ذلك إلى مختلف المقاطعات أو الأمصار في الإسلام، بوصفها دوائر حضارية متداخلة في ما بينها، وينطبق ذلك على دراسته للإسلام ومراكزه الدينية وتطور العقيدة والفرق والمدارس الفقهية.
عمر كوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد