«معركة الرقة»: العرب يُمهّدون... والحصاد بعيد
يُشبه سير «معركة الرقة» الأوراق التي يحتاجها الصحافي لأخذ موافقة لتغطية العملية العسكرية. بطء وانتظار ومسافات.
في عامودا، العاصمة السياسية لـ»الإدارة الذاتية» في «كانتون الجزيرة»، تنتقل بين مباني «الإدارة» لمتابعة «الملف». في مجمّع «الهيئات» ندخل مجلس الاعلام. تنتظر دورك عند «الهفال» (رفيق بالكردية) آرشاك. بعد القهوة يُرسلك نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون حيث يَنتظر هفال آخر لأنك صحافي «أجنبي». تستحصل على أمر مهمة لتسهيل تحركّك في «الجزيرة» وورقة أخرى تُرفع إلى «مقاطعة كوباني» طلباً لمتابعة «حملة الرقة».
تعود إلى القامشلي، قبل أن تهمّ صباحاً لاجتياز 260 كلم على طول الحدود التركية نحو عين العرب. في كوباني، تدخل مباني الإدارة الذاتية حيث مقرّ الحكومة والوزارات وباقي «المؤسسات» التنفيذية والتشريعية والاعلامية.
«ورقة عامودا» يُوافق عليها هنا. «الهافال» المسؤولة، خريجة كلية الاعلام في جامعة دمشق، تجد صعوبة بالغة في طباعة الورقة باللغة الكردية. تطلب المساعدة من إحدى زميلاتها. تتكلم اللغة المحكية لكن المكتوبة ما زالت صعبة بالنسبة لها.
في طريق العودة نتذكّر أنّنا قطعنا أكثر من 60 كلم بين تل أبيض وكوباني لانهاء الأوراق اللازمة قبل العودة إلى تل أبيض (ريف الرقة) والانطلاق نحو الجبهة. البيروقراطية تأكل «الدولة» الفتية، والأجواء الرتيبة تهيمن على المعركة أيضاً.
في تل أبيض (أو كري سبي بالكردية) حيث 70% من السكان من العرب، ندخل مقر «لواء صقور الرقة» (فصيل تأسّس في تل أبيض مطلع العام الحالي). خريطة «الجمهورية العربية السورية» وصورة «آبو» (القائد الكردي عبدالله أوجلان) ترتفعان في الخلفية. التشكيل العربي الأساسي في «قوات سوريا الديمقراطية» تقع على عاتقه حالياً محاور أساسية في المعركة ريف.
في الطريق نحو الجبهة، عشرات السيارات والشاحنات تنقل أكثر من ألف مدني خارجين من قرية الهيشة. يرفع مئات الأطفال إشارة النصر. يعرفون أنهم سيفترشون العراء وأن طائرات «التحالف الأميركي» بدأت تدكّ أطراف القرية حيث قتل أكثر من 20 مدنياً في القصف. لا فرق. يبدو أنهم حاولوا تقليد ما رأوه وسمعوه سابقاً... نبتسم ونرفع أصابعنا أمام المسلحين حتى لو كنا هاربين نحو المجهول.
مع الاقتراب نحو الهيشة تتواصل جموع المواطنين الخارجين. عشرات اختاروا النزوح سيراً على الاقدام مع مواشيهم. «هي كل ما نملك» يقول الشاب المثقل الخطوات بين الغبار الكثيف الذي تخلّفه حركة الآليات. على بعد أمتار، مقرّ لـ»الوحدات» الكردية، حيث ينتشر المقاتلون والمقاتلات على السطح وأمام المبنى يتابعون تغريبة الأهالي. يظهر جندي أميركي ليتأكد من مقاطع الفيديو المأخوذة.
لم يرَ سحنته الشقراء وعتاده المختلف بين الصور، يهزّ برأسه للعساكر الأكراد ويعود إلى المقر.
بحثاً عن الاشتباكات
جوّ المعركة لا يوحي بحافزية كبيرة على صعيد الاستعدادات أو العناصر المشاركين. لا رايات موحّدة لـ»قوات غضب الفرات» (اسم الحملة) كما الحال في منبج، أو أرتال من القوات المتحركة. الطائرات الحربية فقط، لا تغيب عن الأجواء، بوتيرة قصف مرتفعة والحوامات تهبط في المقار القريبة لتفرغ حمولتها من الذخيرة.
مصادر قيادية في «قسد» ترفض وصف المعركة بالاعلامية، لكنها تعتقد أنها ستكون صعبة وطويلة. مصدر آخر أبلغ أن «الأميركي أبلغ القيادة الكردية أنه إذا لم تُطلق المعركة، سيدخلها الأتراك عبر الجيش الحر». ويتابع أن القوات العربية ضمن «قسد» بُلّغت من جانب «وحدات حماية الشعب» الكردية قبل أربعة أيام من بدء الحملة.
«مو بخاطرهم الأكراد رايحين على المعركة»، يقول قائد في «قسد»، ليجزم مسألة الضغط الأميركي الهائل في هذا المجال. «منبج أخدت معنا شهران و20 يوما، فكيف الرقة» يضيف.
عناصر في «قسد» في مدينة عين عيسى (57 كم عن مدينة الرقة)، تؤكد أن القرى المحررة حديثاً لم يحدث فيها اشتباك حقيقي واحد: «الأميركي يقصف مع تمهيد مدفعي ويدخل المشاة من جانبنا». ويلفت إلى أنّ «المفخخات والألغام هي العائق الوحيد أمام أي تقدم سريع للقوات».
هذه القوات هي من «لواء صقور الرقة» و»لواء التحرير»، و»كتائب أحرار الرقة»، و»شهداء حمّام التركمان»، و»شهداء تل أبيض»، بينما «الوحدات» الكردية تمثّل قوّة تثبيت تدخل القرى المحررة بالتنسيق مع طائرات التحالف وضباطه الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين المنتشرين في المنطقة. أحد العسكريين يخبرنا عن تعرّض 3 سيارات بريطانية محمّلة بالذخيرة للتدمير بصواريخ حرارية: «كانوا العناصر خارجها لكن أحدهم أصيب بعينيه». ماذا فعلوا نسأل، ليجيب: كما فعل الأميركيون يوم قتل جنود لديهم في منبج... «حرقوا المنطقة».
محاور الهجوم
«قوات سوريا الديمقراطية» بدأت هجومها من محورين، الأول انطلاقاً من مدينة عين عيسى، ونجحت بالتقدم مسافة 10 كلم وصولاً لقريتي الطويلعة والهيشة. أمّا المحور الثاني من الكنطري بعمق 5 كم، يهدف للسيطرة على كامل ريفيّ سلوك وتل أبيض الجنوبيين وصولاً لمدينة عين عيسى، لرسم قوس من الكنطري وصولاً الى بلدة تل السمن، لإنهاء تطويق الرقة من جهة الشمال. المعارك كان يتوقع أن تنطلق من محور ثالث أيضاً، هو محور المكمن على مثلث ارياف الحسكة ــ الرقة ــ دير الزور، والذي يهدف لتطويق الرقة من الجهة الغربيّة، وقطع طرق الإمداد مع دير الزور والحدود العراقية. ويفسّر تأخّر فتح هذه الجبهة لدفع التنظيم للانسحاب من الرقة باتجاه دير الزور والبادية، وحصر وجوده في نقاط مفتوحة على الجيش السوري في البادية.
المعركة حالياً، إذاً، تهدف في الحد الأقصى الى تطويق مدينة الرقة، وهو ما يحتمّ الوصول إلى بلدة تل السمن (تبعد عنها القوات المتقدمة من عين عيسى قرابة 3 كم)، فالسيطرة عليها تعني اقتصار خط دفاع تنظيم «داعش» عن المدينة من الجهة الشمالية على قرية الحزيمة و»الفرقة 17»، إذ لا تجمعات سكنية بين «التل» و»الحزيمة».
هدايا «السماء»
في انتظار انتهاء الطائرات الأميركية من قذف حممها نحو بعض القرى الصغيرة لتهيئة المجال لانسحاب «داعش» ودخول القوات الراجلة، تظهر الحركة عادية في إحدى النقاط المتقدمة لـ»قوات سوريا الديمقراطية». وحده «أبو عرب» يفترش محمولة «رشاش الـ23»، معلّقاً «مفتاح الجنة» على الرشاش. «هذا المفتاح غير مفاتيح داعش» يقول. الرجل يريد أن يقاتل وهو مشارك في أكثر من معركة ضد التنظيم.
دقائق من الحديث عن جدوى المعركة الحالية وآفاقها، تجعله يؤكد «وين في داعش أقاتل... لا يهم مع من». ثأر شخصي يحمله الرجل الذي قتل التنظيم أخاه وهجّر عائلته.
لا «تحرير» دون أنقرة
مع انطلاق الحملة يوم السبت الماضي، أعلنت الناطقة باسم «غرفة عمليات غضب الفرات» جيهان شيخ أحمد، أن «حوالى 30 ألف مقاتل يشاركون في الحملة... وأكثر من 80% منهم من أبناء منطقة الرقة».
لكن الواقع الحالي مختلف على نحو لافت، فعدد القوات العربية حسب معلومات لا يتعدى الألفين («لواء صقور الرقة» يُعدّ الأكبر ويضم زهاء الـ500 مقاتل)، كما توجد بضعة آلاف من القوات الكردية ما زالت في الخطوط الخلفية.
واقع الجبهات، يؤكد أنّ مدينة الرقة ستبقى هدفاً صعب الوصول. يعلّق قيادي في «قسد» بأنه «نحتاج لأضعاف القوات الحالية، لنتمكّن من دخول الرقة»، فيما تقول مصادر عسكرية إنّ «الأميركيين يبحثون عن فصيل عربي لقيادة المعركة الكبرى». وفي هذا السياق، جاء تصريح رئيس هيئة الأركان الأميركية جوزيف دانفورد، قبل أيام، حين أكد «الحاجة إلى وجود قوات عربية على نحو أكبر... هناك قوات منها المعارضة المعتدلة، وقوات سورية جرى تصنيفها».
لكن الدور التركي الذي نفى وجوده مراراً قادة «الوحدات» و»قسد»، متكلين على وعد أميركي بذلك، يبدو أنّ لا حاجة أميركية له حالياً، إذ إنّ «التحالف سيعمل مع تركيا على إعداد خطة بعيدة المدى من أجل تحرير الرقة وإدارتها... فقوات سوريا الديمقراطية ليست كافية لتحرير الرقة وما بعدها...»، بحسب دانفورد. وفي هذا الإطار، تشير مصادر في «درع الفرات» (القوات المدعومة تركياً في معارك ريف حلب الشمالي والشرقي) إلى أنهم يعملون على تدريب قوات من المنطقة الشرقية (الحسكة، دير الزور، والرقة) في معسكرات داخل تركيا. وأضاف أن هذه القوات هدفها قتال «داعش» و»الوحدات الكردية»، و»طردها من المناطق العربية التي هُجرت، وإعادة سكانها إليها».
إلى أين التغريبة؟
نزح أكثر من ألف شخص من قرية الهيشة في ريف الرقة الشمالي، باتجاه مواقع سيطرة «قسد» في تل أبيض وريفها، وهو عدد قابل للزيادة في ظل تصاعد القصف في المدينة. عشرات الآلاف مهددون بأن يلقوا المصير ذاته، والنازحون سيفترشون الأرض في ريف تل أبيض، في ظل غياب أي خطط لهيئات «الإدارة الذاتية»، لاستيعاب المدنيين الفارين.
الأهالي في الرقة وريفها باتوا أمام خيارات صعبة، فإما النزوح نحو مناطق سيطرة تنظيم «داعش» في الرقة أو باتجاه مواقع «قسد». والخيار الأخير أمر يعده العديد من أهالي تلك القرى مخاطرة، وخاصة في ظل منع «قسد» سكان كل من مدينة سلوك وبلدة عين عيسى، من العودة لمنازلهم، وتحويلهما إلى مناطق عسكرية.
إيلي حنا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد