أدونيس : إعلان فشل الثورة
لسوريا دور قيادي في كامل منطقة الشرق الاوسط، هذا ان لم يتعدها. وهو دور ذو طابع سياسي ولا يمت بصلة للربيع العربي. لم يسبق ان حدثت ثورة في سوريا كما في مصر. ان ما حصل في سوريا ويحصل حتى هذه اللحظة هو مؤامرة استراتيجية مخرجوها من الخارج حيث ترسل الميليشيات من الخارج لاسقاط سوريا الدولة
لمصر دور ريادي في المنطقة. فاذا نجحت الحكومة في مسعاها من اجل الحرية وتشكيل مجتمع مدني، مستقر وحديث فسينعكس ذلك بالضرورة على دول عربية اخرى. اما اذا كان الفشل حليفها وغرقت في وحل الاستبداد فلن يقوم للعالم الاسلامي قائمة على مدى خمسين سنة وسيكون الضياع هو مصير العالم العربي
أجرت صحيفة دي فيلت الالمانية واسعة الانتشار قبل مدة وجيزة عبر مراسلها كلاس روليتيوس مقابلة مع الشاعر السوري المرموق أدونيس في باريس تحدث فيها عن الانتفاضات العربية، عن الحرب في وطنه سوريا وعن جبروت الكلمة.
• دي فيلت: سيد أدونيس، عندما بدا الربيع العربي قبل ثلاثة اعوام اطلق الكثير من المثقفين العرب العنان لابتهاجهم اما أنت فقد التزمت الصمت بشكل لافت للنظر. ما الذي جعلك تتشكك؟
- أدونيس: انا ايضا وقفت في ذلك الوقت ودائما الى جانب التغيير. تغيير يفسح الطريق امام خلق مجتمع حديث يحرر المرأة من قيود الشريعة. اذ ما الفائدة من استبدال نظام بآخر؟ هذا السؤال كنت اطرحه على نفسي عندما كنت اشاهد هتاف الجماهير في ميدان التحرير.
• دي فيلت: لقد تعرضت بسبب تحفظك الى انتقاد لاذع من قبل زملائك الكتاب. والكل يعلم ان الآمال التي عقدت على الربيع العربي لم تتحقق. هل تشعر الآن بصواب موقفك؟
- أدونيس: وكأنه لم يكن لي انا ايضا آمال في ان تتغير الامور الى الاحسن. الا انه ساورني الشك بصحة مسار الاحتجاجات بعد ان تأكدت من تدخل اوروبا وامريكا وقطر والسعودية بعد اسابيع قليلة من اندلاع الازمة ومدّهم لبعض التيارات بالمال والسلاح. هذا التدخل كان بمثابة اعلان فشل الثورة.
• دي فيلت: او بسبب انقسام التحرك الثوري على نفسه؟
- أدونيس: لم يكن لهذه الدول يوما مصلحة في انتقال العالم العربي الى الحداثة. قطر والسعودية كانتا دوما حجر عثرة امام أي توجه نحو الحداثة. واوروبا؟ حسنا، اوروبا ايضا لا تريد للعرب ان يتغيروا. ديمقراطية؟ نعم. اما ان يتقدم العرب ويتطوروا صوب مجتمع حديث فلا. ذلك ان تطور العرب وتقدمهم قد يضر بالمصالح الاوروبية. من الافضل لاوروبا ان يبقى العرب اسرى ماضيهم ينظرون الى الوراء وليس الى الامام. الحقيقة ان السبب الرئيس في تغيب دعمي هو انني غير مستعد في أي حالة من الحالات ان ادعم ثورة تبدأ في الجامع او تنتهي فيه.
• دي فيلت: هل هناك تناقض مبدئي بين الدولة ذات الطابع الديني والديمقراطية؟
- أدونيس: الدين كمؤسسة فاعلة كان دائما مصدرا للطغيان. بعد ان انتزع "الاخوان المسلمون" الحكم اثر سقوط مبارك بات جليا للعيان انه لن تكون هناك اصلاحات حقيقية. منظمات مثل جماعة "الاخوان المسلمون" لم تضع صوب اعينها تغيير المجتمع انما تغيير النظام ليس الا. وهذا هو بالذات السبب الذي جعل الاوضاع في العالم العربي على مدى عشرات السنين تراوح مكانها. وطالما ان القائمين على الثورة هم من المتدينين سيبقى الوضع على حاله. الدين ليس فقط لا ديمقراطيا بل هو ايضا واصلا لا ثوريا.
• دي فيلت: مع ذلك يرى الساسة الغربيون في الاسلام مفتاح الحل للمشاكل والصراعات في المجتمعات العربية. أليس هذا من التباين بمكان؟
- أدونيس: في نظري ان الدين ليس حلا لاية مشكلة – بالنسبة لي هو المشكلة بعينه.
• دي فيلت: هل استحالة فصل الدين عن الدولة في الكثير من الدول العربية امر مبرر اسلاميا؟
- أدونيس: هذا صحيح الى حد ما. فالنبي محمد (صلعم) ومنذ فجر الاسلام لم يكن زعيما روحيا فقط، بل كان الى جانب ذلك ايضا قائدا ومشرِّعا. وهذا ادى منذ البداية الى اختلاط الدين مع الدولة. وهذا ما لا نجده في المذهب المسيحي مثلا. ومن وجهة نظر عصرية ثمة سبب آخر وهو ان العلمانية تعتبر في اجزاء شتى من العالم العربي كفرا. من لا يؤمن بالله يعتبر هنا لا اخلاق له ولا قيم. غني عن القول ان مثل هذا الكلام ان هو الا لغو وهراء. ولكن وللاسف هذا هو التفكير السائد. ولتكتمل الفكرة اقول: ان هذا التفسير التخريفي يفتح الباب على مصراعيه الى الابد للانظمة الفاشستية.
• دي فيلت: في مقدمة احد مؤلفاتك كتبت ان الديكتاتورية الدينية ابشع وافظع من الديكتاتورية العسكرية؟
- أدونيس: الديكتاتورية العسكرية تراقب جسدك وافكارك، فيما الديكتاتورية الدينية تسيطر على روحك، تخطف عقلك وتستلبك. وهذا هو الاخطر.
• دي فيلت: من اجل ان تتم العملية الديمقراطية لا بد من وجود طبقة وسطى قوية ومجتمع مدني فاعل. هل تتوفر هذه الشروط في العالم الاسلامي؟
- أدونيس: لنأخذ مصر مرة اخرى كمثال. ان تنحية رئيس اسلامي آخر في مصر هذا العام عن السلطة ما هي في نظري الا دليل على وجود هذه القوى التي تعنيها. لقد ادرك المواطنون ان جماعة "الاخوان المسلمون" هم جماعة فاشية لا يعنيها من الرفاه الاجتماعي شيء انما همها الوحيد هو الجلوس على سدة الحكم. ان قيام المصريين مرة اخرى باسقاط الحكومة واستبدالها باخرى رغم التدخلات والضغوطات الامريكية والغربية وخلافا لما يرتئيه هؤلاء هو مؤشر على ان الشعب المصري سيد نفسه.
• دي فيلت: من الممكن ايضا ان نرى في الانقلاب تعبيرا عن سلطة العسكر وتعطيلا للكفاءة الديمقراطية عند الشعب. ففي الانظمة الديمقراطية كما هو معروف تستبدل الحكومات بواسطة الانتخابات العامة.
- أدونيس: الانجلوساكسون الذين يفهمون ما هي الديمقراطية يدركون تماما عدم جواز الخلط بين الديمقراطية وصندوق الاقتراع. وتجربة الالمان مع هتلر ما زالت حاضرة في الاذهان.
• دي فيلت: ما هي اذًا مقومات المجتمعات الحديثة ان لم تكن البناء الديمقراطي للارادة السياسية التي تضمن بالتالي شرعيتها وحصانتها؟
- أدونيس: اوافقك. لكن أمامنا هنا وضع استثنائي. نسبة المؤيدين "للاخوان المسلمون" لا تزيد على %25. مع ذلك نراهم قد حصلوا على %51 من الاصوات. بعد اسقاط مبارك عمت الفوضى والكثير من المواطنين الذين لا ينتمون الى جماعة الاخوان بهرتهم تصريحات مرسي ووعوده الخلابة بالديمقراطية. وما حصل اخيرا هو ان مرسي هذا وخلال اثني عشر شهرا لم يترك شيئا يبرر تجريده من السلطة والطعن بالاسلام السياسي الا فعله.
• دي فيلت: ما الذي يجعلك متفائلا بان الشعب المصري سيختار قيادته الصحيحة في المستقبل؟
- أدونيس: لا تنس انني رجل متقدم بالسن ومعرض ايضا للخطأ. لكن لدي امل ولو صغير بأن الانسان يتعلم من اخطائه فلو انطلقنا مما قاله المفكر يوسف ماري ميستري فكل شعب يحظى بالحكومة التي يستحقها. بناء عليه لن يصل الاصوليون الفاسدون الى السلطة. حيث ان الشعب قال كلمته واتخذ موقفا صلبا ازاء ذلك وهيأ الطريق من اجل اصلاحات حقيقية ومن اجل انتقال سليم للمجتمع الى ما هو افضل. الآن بدأت فعلا الثورة الحقيقية. ولمصر دور ريادي في المنطقة. فاذا نجحت الحكومة في مسعاها من اجل الحرية وتشكيل مجتمع مدني، مستقر وحديث فسينعكس ذلك بالضرورة على دول عربية اخرى. اما اذا كان الفشل حليفها وغرقت في وحل الاستبداد فلن يقوم للعالم الاسلامي قائمة على مدى خمسين سنة وسيكون الضياع هو مصير العالم العربي.
• دي فيلت: هل لوطنك سوريا ايضا دور ريادي؟
- أدونيس: لسوريا ايضا دور قيادي في كامل منطقة الشرق الاوسط، هذا ان لم يتعدها. وهو دور ذو طابع سياسي ولا يمت بصلة للربيع العربي. لم يسبق ان حدثت ثورة في سوريا كما في مصر. ان ما حصل في سوريا ويحصل حتى هذه اللحظة هو مؤامرة استراتيجية مخرجوها من الخارج حيث ترسل الميليشيات من الخارج لاسقاط سوريا الدولة.
• دي فيلت: ترددت في بداية الازمة السورية وهذه السنة ايضا اقاويل مفادها انه ليس السوريون هم من يريد الاطاحة بالاسد. هل هذا رأيك ايضا؟
- أدونيس: لم تطأ قدماي سوريا منذ ثلاثة اعوام. الا انني اتواصل بشكل مستمر من مقر اقامتي الحالي هنا في باريس مع امي البالغة من العمر مائة وعشر سنوات ومع ممثلي المعارضة، وان يكن مع العلمانيين منهم فقط. وانطباعي من هذه الاتصالات هو انه لم يحدث ان قامت الجماهير يوما بمظاهرات ضخمة كما هو الحال في القاهرة. لقد زُود المتظاهرون في سوريا بسرعة مشبوهة منذ البداية بالمال والسلاح – السعودية وقطر وتركيا والقائمة طويلة كانوا ينتظرون هذه اللحظة. الثورة يجب ان تنطلق من الشعب.
• دي فيلت: مع مرور الوقت اصبحت الحرب الاهلية تشمل كل البلاد. منذ كانون الثاني ولاول مرة اجتمع ممثلون عن الحكومة والمعارضة بهدف وضع حد للعنف في سوريا. هل انت متفائل؟
- أدونيس: ليس بالضرورة. الاتفاق على ايصال المساعدات الانسانية امر مهم. ولكن عدا ذلك؟! ممثلون عن الائتلاف الوطني السوري سبق واعلنوا ان ما يجري في جنيف ليست محادثات سلام انما "تشاور..". في اعتقادي ان كلا الطرفين تنقصهم الارادة السياسية والاستعداد للتضحية والتنازل من اجل الوصول الى حل جذري. هذا بالرغم من الـ 130 الف قتيل خلال السنوات الثلاث الماضية. وان دل هذا على شيء فهو يدل على مدى العمى السياسي الذي اصاب الطرفين بمن فيهم المعارضة.
• دي فيلت: احدى نقاط الاختلاف هي مصير الاسد. الولايات المتحدة والمعارضة لا يرون مكانا للاسد في حكومة انتقالية. بينما روسيا لم تبتعد حتى اليوم قيد انملة عن الاسد.
- أدونيس: روسيا تبحث عن مصالحها. بغض النظر عن ذلك لم يكن متوقعا ابدا ان تفكر الحكومة مجرد تفكير في الاطاحة بالاسد. رغم ان الكثيرين في الغرب لا يريدون ان يصدقوا الا ان الحقيقة الملموسة هي ان الاسد اليوم اقوى من أي وقت مضى. المعارضة منقسمة على نفسها وكثيرين فيها متخوفون من الاسلاميين. حتى في اوساط الامم المتحدة لا يتكلمون بلغة مشتركة. من الصعب احتواء هذا الاشكال ومعالجته من الخارج.
• دي فيلت: من المعروف عنك معارضتك الشديدة لتدخل غربي في الازمة السورية.
- أدونيس: صحيح. اذًا ماذا سيأتي به هذا التدخل؟ لقد روي عن ديغول قوله: كيف تحكم بلدا فيه 400 نوع من الجبنة! انا اتساءل: كيف تريد ان تحكم شعبا فيه 18 مذهبا وطائفة؟ ان عملية النضوج الديمقراطي امر تكمن مقوماته في عمق المجتمع. انه لمن الغرابة بمكان ان تجد بالذات تلك الدول التي استعمرت المنطقة في السابق تريد اليوم تحرير شعوبها.
• دي فيلت: على ضوء موقفك هذا فانت اذًا كنت ترى في تدخل الناتو في ليبيا خطأ كبيرا؟
- أدونيس: اُنظرْ الى ليبيا اليوم. بلاد محطمة ممزقة تتنازعها الجماعات المسلحة وحقوق الانسان فيها في حكم المجهول كما في السابق. ماذا جلب تدخل الناتو لليبيا؟ الديمقراطية ودولة القانون ليستا بضاعتين يمكنك تصديرهما. بدل ان يسعى الغرب الى تأمين محاكمة عادلة للقذافي وجدته يقوم بمساعدة الثوار لقتله كالكلب. هذه مأساة للحضارة. لو كان الغرب معنيا فعلا في تحرير الدول العربية فلماذا لا يبدأ في فلسطين حيث يتعرض الناس هناك منذ عشرات السنين الى ابشع انواع القهر والاضطهاد على يد الاحتلال. وعندما يرتفع في المانيا صوت حامل جائزة نوبل غينتر جراس ليكشف عن حقيقة ما يجري هناك يتهم فورا باللاسامية. يا له من عار.
• دي فيلت: لنتحول الآن الى مكانة الكلمة. رغم التراث العربي العريق في فن الادب والشعر لم نشهد، على الاقل في العشرين سنة الماضية، اعمالا جديدة في مجال الفكر والادب. ما سبب ذلك؟
- أدونيس: شعوري ان احداث سبتمبر 2001 ادت الى تزايد في طلب الشعر. وفي نفس الوقت اخرج هذا التاريخ اشياء كثيرة من بؤرة الاهتمام. كل ما كتب منذ ذلك الحين من شعر ورواية اقتصر على الحروب.
• دي فيلت: كتاب الشعر الذي صدر لك "قبر لنيويورك" في بداية السبعينيات يعتبر تنبؤا شعريا للهجمات الارهابية على مركز التجارة العالمي. الى ذلك تبدي في عملك ذاك رؤيتك حول تراجع الثقافة الغربية.
- أدونيس: بالضبط. لا اعتراض لدي.
• دي فيلت: ما هو اكثر ما يعرض الثقافة الغربية للخطر؟
- أدونيس: انقراض الكلمة التي لا يمكن التعويض عنها بالمادة. في الوقت الذي ترتفع وترتفع فيه ناطحات السحاب في اوروبا واميركا تخبو شعلة اللغة والثقافة. وهذا التراجع الثقافي ينعكس بشكل اقوى على الشرق. ففي الشرق ما زال الناس ومنذ عقود من الزمن يقعون في خطأ انهم يسوون بين الحداثة والازدهار الغربي. في الشرق يستوردون التكنولوجيا بشكل جنوني، اما الانجازات الاجتماعية مثل حق تقرير المصير للمرأة فلا تحظى باهتمامهم.
• دي فيلت: أنت نشأت وترعرعت في سوريا في بيئة قديمة ومتخلفة حيث الانعدام الكامل للبنية التحتية.
- أدونيس: لا كهرباء ولا شوارع. وفي قريتي الجبلية كان الصف الذي تعلمنا فيه عبارة عن ظل شجرة كبيرة. من ناحية تكنولوجية كانت تلك حياة كما قبل الف سنة. ولكن كان هناك كتب تعلمناها. أبي كان إمامًا صوفيا. وفي سن السادسة عشرة قرأت بودلير.
• دي فيلت: وكنت بذلك اقرب الى الحداثة من بعض شيوخ العربية السعودية اليوم الذين يمنعون النساء من قيادة السيارة؟
أدونيس: بدون ادنى شك. ثمة اجماع ان الثقافة العصرية تعتمد على الحضارة التكنولوجية. وكل واحد منهما قائم بذاته ومستقل عن الآخر. فاذا استمر العرب في تبني الانجازات التكنولوجية فقط دون تطوير ثقافتهم فمعنى ذلك ان ثقافتهم ستكون مستقبليا مهددة بالاندثار تماما كما حصل مع السومريين والفراعنة واليونان.
• دي فيلت: كثيرا ما ركزت في شعرك على موضوع المقارنة بين فلاسفة الشرق وفلاسفة الغرب. كيف تتلائم نظرة نيتشه الحياتية عندما يقول مات الاله مع الواقع الديني للمجتمعات الاسلامية؟
- أدونيس: لقد شرح نيتشه دور الانسان بعيدا عن الميتافيزيقا وكانت مواقفه مليئة بالهزء والسخرية من المعتقدات التقليدية لدرجة انه قال: اما ان تلغوا مقدساتكم او تلغوا انفسكم. ومع ذلك فقد حظي نيتشه باهتمام العرب اكثر مما فعله كانت وافلاطون. والامر يرجع هنا الى اعتماد الكثير من الشعراء العرب عليه واتخاذهم من افكاره المتطرفة وسيلة لمكافحة التخلف في العالم الاسلامي.
• دي فيلت: لقد احتل ايضا الشعراء العرب من القرون السالفة مكان الصدارة في اعمالك. ما هي اهمية اغراض الشعر في تلك الفترة بالنسبة للحاضر؟
- أدونيس: الشعراء العرب ما بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر كانوا من اوجه عديدة اكثر ليبرالية من بعض الشعراء في عصرنا. ذلك انهم كانوا صوفيين ملتزمين بامتياز. لقد انتهجوا البحث عن الحقيقة لا في السطور بل بين السطور – الامر الذي فتح باب التحليلات والنظرات على مصراعيه – لقد كان ذلك مجازا وتصورا من الصعب ان نجده اليوم في زمن التشبث بالنص.
• دي فيلت: وهذا ينطبق على القرآن ايضا؟
- أدونيس: بالتأكيد. لقد رأى الصوفيون في علاقة الانسان بالله علاقة ديناميكية قابلة للتطوير. ان ما يحدث في العالم العربي اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. رغم ما قد يبدو غريبا في الامر تبقى نظرة الشعراء في تلك الحقبة الزمنية الى الحياة نظرة تحررية وعصرية اكثر مما هي عليه اليوم.
• دي فيلت: ومن هو المسؤول اليوم عن تقزيم دور الشعر وتأثيره الدين ام الشعراء انفسهم؟
- أدونيس: كلاهما. المتشبثون بالتقاليد هم اصحاب الكلمة اليوم ويرون في ضمان بقاء التقاليد الاسلامية فاعلة في المستقبل هدفهم الاسمى. الشعر والادب يقومان دوما بطرح الاسئلة. المتمسكون بالتقاليد – والصورة على ما هي منذ قرون – يملون عليك الاجوبة والتوجيهات.
• دي فيلت: أي ان الدين يعطي الجواب قبل ان يطرح السؤال اصلا؟
- أدونيس: من يضع ثقته وايمانه في الدين فقط لا يحتاج الى العلم. وفي هذه الحالة يتعثر التقدم ولا يمكنك الاستمرار. وهذا ما جعل المجتمعات العربية تراوح مكانها منذ قرون وتكون بذلك اقرب الى العصور الوسطى منها الى العصر الحديث.
• دي فيلت: ماذا يتعين على الغرب ان يتعلم من براعة الشعر العربي؟
- أدونيس: لا اظن ان للشعر الغربي اليوم تطلعات متميزة تربطه بالقصيدة. علاوة على ذلك لا نلمس فيه سعيا او قصدا لتجاوز حدود الغرب. اضف الى ذلك ان الصور اللغوية للشعر ليست موجودة. في هذه النقطة تحديدا سيبقى العرب متفوقين. يؤسفني انعدام الوعي في اوروبا من ان التبادل الثقافي ليس طريقا ذا اتجاه واحد انما عمل دعامته التبادل.
• دي فيلت: في هذا الصدد كتب غوته: "لا يمكن فصل الغرب عن الشرق".
- أدونيس: من المحزن المبكي انكار هذه الحقيقة لان الغرب عندها يفوِّت على نفسه الكثير.
• دي فيلت: إنك تتأرجح طيلة حياتك بين ثقافتين. مكان ولادتك سوريا، تحمل الجنسية اللبنانية وتعيش منذ مدة ليست بالقصيرة في فرنسا. هل تشعر ان لا وطن لك؟
- أدونيس: لا بالعكس. اوديسيوس في إلياذة هوميروس، ذلك المسافر الابدي الهائم على وجهه، يعطيني دوما الشعور بالتحرر والمعافاة.
ترجمة واعداد: سامح الناشف: الاتحاد، نقلا عن صحيفة دي فيلت الالمانية
إضافة تعليق جديد