أمريكا تسير بعيون مفتوحة نحو الهاوية

30-07-2007

أمريكا تسير بعيون مفتوحة نحو الهاوية

الجمل ـ د. ثائر دوري : كان أوديب يعرف ما سيحل به فقد قرأ العرافون مستقبله مرتين:مرة عند ولادته ، و مرة في شبابه . فعندما قال العرافون لأبيه الملك أن ابنه أوديب سيقتله و سيتزوج من أمه،زوجة الملك،أمر بالتخلص منه لكن الحراس لم ينفذوا أمر الملك بل تركوا أوديب عند مزارع ليربيه . ثم عرف أوديب ثانية بمصيره من عراف آخر بعدما صار شاباً . لكن هل أفادته هذه المعرفة بشيء ؟
أبداً . فقد بدأ يسير كالمسنمر إلى قدره و هو يحاول أن يهرب منه . فالحراس بدل أن يقتلوه طفلاً سمحوا له بالحياة،و عندما سمع نبوءة العراف الثاني هرب من بيت المزارع ليفر حسب ظنه من قدره ، فذهب إلى مدينة تيبس مسقط رأسه و هناك تتحقق النبوءة ، فيقتل أباه الحقيقي ثم يتزوج أمه ليقع كل ما هرب منه .
هل كان قادة جيش الاحتلال الأمريكي يمشون إلى حتفهم في مستنقع العراق كأوديب و هم على دراية تامة بما سيحدث معهم ؟ هذا سؤال صار يستوجب وقفة في ضوء ما تسرب عن أن جنرالات البنتاغون قد شاهدوا قبل بدء غزو العراق عام 2003 فيلم "معركة الجزائر العاصمة" من إخراج جيلو بونتيكورفو، وهو فيلم يحكي قصة سيطرة القوات الفرنسية على العاصمة الجزائرية في المعركة الشهيرة التي بدأت عام 1957 بقيادة وحدة المظليين الثامنة التي كان يقودها الجنرال ماسو و انتهت في نفس العام المعركة بنصر عسكري كامل للجنرال ماسو فقد فكك كل خلايا جبهة التحرير في العاصمة و اعتقل أو قتل قادتها لكن الثمن كان انهياراً أخلاقياً و سياسياً ، فقد استعمل الجنرال ماسو كل أساليب التعذيب و الإعدامات  كما ظهر في اعترافات لاحقة للجنرال سوروس ، و من هنا بدأ نصر جبهة التحرير فقد بدأت الجبهة الداخلية الداعمة للحرب في فرنسا تتفكك إذ كتب سارتر عن عار الفرنسيين في الجزائر و نشأت حملة مناهضة للحرب في الأوساط اليسارية الفرنسية . ثم انهارت الجمهورية الفرنسية الرابعة و جاء ديغول على رأس الجمهورية الخامسة ليجد حلاً للمستنقع الجزائري ، يقول المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا في رده على أسئلة ''ليكسبريس'' أن ''القمع الذي مارسه ثمانية آلاف مظلي فرنسي بقيادة الجنرال ماسو، والآلاف من المفقودين الذين راحوا ضحايا له، لطخ وللأبد شرف الجيش الفرنسي، وأدى ذلك إلى استقلال الجزائر''• وأوضح بأن ''المسؤولين الفرنسيين الذين خططوا لمعركة الجزائر لغموا نهائيا الجمهورية الرابعة باعتمادهم على المؤسسة العسكرية في حل المشاكل••''• وشبه ما يحدث اليوم في العراق بذلك الذي شهدته الحرب في الجزائر، عبر لجوء القوات الأمريكية لنفس أساليب التعذيب التي استعانت بها السلطات الفرنسية آنذاك•
و قبل أشهر قال الرئيس الأمريكي جورج بوش أنه قرأ خلال الآونة الأخيرة كتاباً للمؤرخ البريطاني "أليستر هورن" حول الحرب الجزائرية، الذي يحمل عنوان "حرب وحشية من أجل السلام". وفي الخريف الماضي (خريف 2006) ، ألقى "كريستوفر هارمون"، الذي يُدرس مادة حول الحرب الجزائرية في "جامعة القوات البحرية" (إم. سي. يو) في واشنطن، محاضرة حول النموذج الجزائري على قوات "المارينز" في العراق. وانضم إلى ركب دراسة التجربة الجزائرية قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال بيتراوس الذي بهره كتاب نشره الكولونيل، ديفيد كالولا،أحد الضباط الفرنسيين أثناء حرب الجزائر و يقترح فيه عزل المتمردين عن السكان بواسطة قرى محصنة فنفذ ذلك مباشرة في الأعظمية !
و في استنساخ لخطة إعادة السيطرة على العاصمة الجزائر أطلقت القوات الأمريكية منذ بداية عام 2007 ما أسمته خطة أمن بغداد و هدفت هذه الخطة،التي ما زالت مستمرة لكنها ماتت دون أن يعلن أحد وفاتها و دون أن تجد من يدفنها ، هدفت هذه الخطة كما هدفت خطة الجزائر العاصمة لإعادة السيطرة على العاصمة بغداد . و الفرق بين الخطتين هو أن الأولى نجحت عسكرياً و فشلت سياسياً أما خطة بغداد فقد فشلت سياسياً و عسكرياً .
لكن إذا كان الأمريكيون و منذ ما قبل بدء غزوهم للعراق مصابين بهاجس بل بعقدة التجربة الفرنسية في الجزائر فدرسوها و حللوها و فككوها ، و حاولوا التعلم منه ، فكيف إذاًَ نسوا أن ينظروا إلى المآل النهائي للتجربة و هو الهزيمة ؟  فرغم كل النجاحات العسكرية للجيش الفرنسي في مواجهة جبهة التحرير الجزائرية ، حيث أحكم الجيش السيطرة على العاصمة و أحكم السيطرة على الحدود و اعتقل أو قتل أغلب قادة الثورة إلا أن الثورة انتصرت في النهاية هذا مع العلم أن وضع الفرنسيين في الجزائر كان أفضل بما لا يقاس من وضع الأمريكيين في العراق ، لأن الجزائر كانت تعد تسعة ملايين نسمة و الجيش الفرنسي يعد خمسمائة ألف في حين أن الجيش الأمريكي يعد مائة و خمسون ألفاً و عدد سكان العراق ستة و عشرون مليوناً . و في الجزائر كان هناك كتلة من المستوطنين المتطرفين إيديولوجيا المؤمنين أن الجزائر فرنسية ، وكانوا مستعدين للقتال في سبيل ذلك إلى آخر لحظة فشكلوا رصيداً إضافياً لعمليات القتل و القمع حتى كادوا أن يأخذوا فرنسا بكاملها رهينة لمشروعهم الاستيطاني لولا حنكة ديغول و تاريخه العسكري ، و أهم من كل ذلك أن في العراق مقاومة نوعية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل . مقاومة تتبع في إدارة العمليات أسلوباً لا مركزياً و هذا ما يشبهه الكاتبان أوري برافمان، ورود بيكستروم (الكتاب الذي عرضه أحمد موفق زيدان في القدس العربي بتاريخ السبت 14/7/ 2007) بنموذج نجمة البحر المتكونة من خمسة أطراف فليس لها رأس أو مخ، فكل طرف من أطرافها يملك مخه ورأسه الخاص به، وبالتالي فحركة نجمة البحر توافقية بين الأطراف الخمسة، والقضاء علي طرف واحد لا يعني القضاء علي هذا المخلوق، كما أن القضاء علي طرف يعني فرزه لطرف آخر ،و يقابل ذلك نموذج العنكبوت الذي يمكن التخلص منه بضربة قاضية علي الرأس فقط، فتتوقف حينها الأطراف عن العمل، إذ تُشل حركة الجسم كاملة، لكون المخ في الرأس . و تعكس بنية هذه المقاومة المعقدة و انجازاتها الميدانية السريعة تعكس التغير النوعي الذي طرأ على بنية الأمة خلال الزمان الممتد من الجزائر إلى العراق ، فالعراق يملك قاعدة بشرية كبيرة و متطورة علمياً و تقنيا ، كما أن  هويته الحضارية لم تتعرض للمسح الذي تعرضت له الجزائر ،  فالجزائر عشية الاستقلال لم تكن تملك مهندساً واحداً كما يذكر الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا ، في حين أن العراقيين كانوا ، رغم دمار عام 1991 و رغم الحصار  و العقوبات ، كانوا يصنعون كل شيء من الرصاصة إلى الصاروخ ، و بالتالي فإن قدرتهم على المقاومة أكبر بكثير .
 كل النقاط السابقة التي في غير صالح الأمريكان  لم ينتبه لها خبراء البنتاغون ، فكل ما شاهدوه هو النجاحات العسكرية الفرنسية الجزئية التي أفضت في النهاية إلى هزيمة شاملة لأن حرب العصابات لا تقاس فيها الأمور بالقدرة على النصر بمعارك صغيرة ، بل بقدرة الخصم على إدامة القتال حتى إنهاك الفيل الكبير الذي يشكله جيش العدو ثقيل العدة و العتاد المجهز بما يناسب حرباً نظامية . كما أن مكمن القوة الآخر لحرب العصابات هو قدرتها على إحداث نزف دائم في اقتصاد العدو ، و ثالثاً توريطه في انهيار أخلاقي بسبب ما يرتكبه جنوده من تعذيب و قتل . و هذا ما لخصه الجنرال ديغول في مؤتمر صحفي في 11 نيسان 1961 حين قال إن ما يدعوه للموافقة على استقلال الجزائر هو أن الجزائر تكلفنا أكثر مما نربح منها.و الحل هو انفصال الجزائر عنا.
(( بدا لي أن إبقاء فرنسا مرتبطة بالتزامات وأعباء تتعارض مع مقتضيات عظمة فرنسا وإشعاعها، لا يتفق مع مصلحتها الحالية، وطموحها الحديث))
الجزائر تكلفنا أكثر مما تربحنا هذا هو مفتاح الفوز في حروب العصابات . أن تجعل الاستعمار عملية خاسرة و قد جعلت المقاومة العراقية الاستعمار الأمريكي عملية خاسرة اقتصادياً لذلك يتصاعد الصراخ في واشنطن اليوم من أن المغامرة العراقية قد فشلت ، فلم يتمكنوا من وضع اليد على النفط الأمر الذي لا يمكن أن يتم بدون إخماد المقاومة ، و لم يحولوا العراق إلى منصة انطلاق للسيطرة على المنطقة الممتدة من الأطلسي إلى قزوين بل إن انشغال الجيش الأمريكي في العراق أدى إلى تحرر أمريكا اللاتينية من يد أمريكا ، و إلى استعادة روسيا لقوتها ، و دخول الصين بقوة لمواقع أمريكا و فرنسا في إفريقيا و أمريكا اللاتينية ، فبات النظام الكوني في لحظة ما قبل انبثاق نظام دولي متعدد الأقطاب .كما أدت فضائح أبو غريب و المعتقلات الأخرى و التعذيب و القتل إلى انهيار أخلاقي لصورة أمريكا في العالم .
لقد تجمعت في الحالة الأمريكية في العراق كل خصائص الحالة الأوديبية لأن كثر من السياسيين و الخبراء حذروهم من هذا المصير ، كما أن مشاهدة الجنرالات لفيلم معركة الجزائر قبل بدء الحرب ، و دراستهم للتجربة الاستعمارية في الجزائر يعني أنهم كانوا يعرفون بمصير هذه التجربة النهائي  . فهل فكروا أن يتفادوا نفس المصير ؟ ربما ...لكنهم فعلوا كما فعل أوديب فكي يتفادى مصيره ذهب إليه بقدميه ! لذلك تتهكم الأسبوعية الفرنسية "لو كانار انشينيه " على ما تسرب عن دراسة صقور البنتاغون للتجربة الاستعمارية في الجزائر ، فتقول :
-إنهم يريدون معرفة الكيفية التي من خلالها يمكنهم خسارة الحرب*


*( راجع مقال د. بهنام نيسان السناطي -الصحف الفرنسية تتهكم على فطحل مكافحة التمرد الغبي الأمريكي بيطراوص!-شبكة البصرة )     

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...