إشكالية العقلانية عند الجابري
"كل فلسفة معاصرة، هي إما سياسية أو بوليسية" نتشه، الاعتبارات اللاوقتية، ج.2.
أودّ ونحن اليوم نحتفي بالذكرى الأولى لوفاة الجابري، أن أستهلّ كلامي بالتوكيد بداية، على أنّ الوفاء للأموات، لا يتجلّى في مدى إخلاصنا لأرواحهم، سواء بتمجيد خصالهم أو ذكر مزاياهم، بل يتجلّى في ذلك القدر من التعاطي مع الحياة، الذي جعلوه ممكنا من بعد رحيلهم.
لذلك، ارتأيت أن تجيء ورقتي هاته تفكيرا في استشكالات تخترق كلا منا، ليس فحسب لأننا نتقاسمها جميعا، بل أيضا لأنّه على منوالها صار كلّ منّا، بهذا النحو أو ذاك، منغمسا من حيث لا يدري في مشروع صاحب نقد العقل العربي. إنّ هذا المشروع الذي استطاع أن يفرض ذاته لا على المستوى العربي فحسب بل العالمي، هو ما يتسمّ بنوع من الغواية والفتنة، يستشعرها كلّ قارئ ما أن يدلف بابه، بحيث يشدّه إليه شدّا عزّ نظيره، وذلك من جهة أولى، جراء أسلوب صاحبه المتميز بأناقة ودقّة قلّما نجدهما عند كاتب من الكتاب، كما من جهة ثانية جراء سلاسة التحليل ويسر بسط الأفكار على نحو متسلسل منطقيّ تكاد لا تشوبه شائبة. ذلك لربما هو ما جعلني، أقرأ للجابري منذ عقد من الزمن أو يزيد، بل وأكتب ضدّه ومعه؛ لا بل وكذا القضايا التي أخضعها للتمحيص من قبيل : قضية التراث والحداثة، الهوية والاختلاف، أو بتعبيره نفسه الأصالة والمعاصرة… إلى غيرها من القضايا التي نكاد نجملها في إشكالية واحدة، هي إشكالية الدين والعقل.
وبالمناسبة فالجابري إذ لا يصرّح بذلك جهرا، يسلك نهج اللفّ والدوران، مقحما الديني في سياق ثقافي عامّ يدعوه بالثقافة العربية تارة وبالتراث العربي المعاصر تارة أخرى. وفي سياق الهوس بالتراث وهاجس كيفية التعامل معه، يجيء إذن مشروع الجابري الذي هو نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة.
لكنّ ما يلفت النظر في هذا العمل الضخم جراء استنفاده جهد حياة الرجل بأكملها (أزيد من ربع قرن) إنما هو عدم قدرته رغم ذلك على تفكيك ما رمى إلى سبر أغواره وهو مع ادّعائه "تجاوز الفهم التراثي للتراث" بغاية الفهم الحداثي له والعصريّ، ظلّ طيلة هذا المسار حبيس نظرة لا هي برافضة للتراث ولا هي بمتجاوزة له. نظرة أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها نظرة دينية لاهوتية تعتمد العقلانية انتصارا للروح ضد الجسد ونشدانا للآخرة بدل الحياة الدنيا.
يتجلى ما نحن بصدد قوله في التخريجات التي تصدر عن الرجل بين الفينة والأخرى، هنا وهناك في هذه الصحيفة العربية أو تلك (أنظر مقالة له بصحيفة إيلاف، نقلا عن الإتحاد الإماراتية بتاريخ 2 فبراير2010 بعنوان:"الشهادة والشهداء والحور العين")، والتي هي في مجملها، تخريجات فقهية لا ترقى أو تليق بأن تنسب لمفكّر من عيار الجابري، على اعتباره هنا، ويا للعجب، يسلك مسلك الفقهاء لا المفكرين، شارحا ومفسّرا مقصد القرآن من الاستشهاد على أنه مجاز بنية الترغيب ولا يصحّ أخذه مأخذ الدلالة المادية اللفظية.
فبين مسعاه العقلانيّ الذي يتوخى "تحرير تصوّرنا للتراث من البطانة الإيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه داخل وعينا طابع العامّ والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية"(1)؛ وبين منهجه القائل بأن التغيير، تغيير التراث يجب أن يتمّ من الداخل، قلت بين هذا وذاك، نتفاجأ بنقد يروم المصالحة إن لم نقل التزكية، ونلفي أنفسنا وجها لوجه أمام تحليل إبستمولوجي مبطن بدسم تيولوجي.
إن الجابري إذ يتبنى النقد الإبستمولوجي كما يقول لا النقد اللاهوتي(2) ، يسقط من حيث لا يدري في مطبّ المنافح عن مملكة الله، مبشرا بالماورائيات والجنة والنار وحور العين وشجرة الزقوم ولو مجازا. وهو بذلك لا يكاد يختلف في شيء عن باقي تجار الدين وهم كثر.
وفضلا عما سلف يمضي بنا في خضم نقده لبعض مدعي الحداثة، في العالم العربي، إلى التوكيد على أنهم مجرد" مقلدين لبعض فروع تيار الحداثة في الغرب غافلين أو متغافلين عن الفارق الهائل بين وضعيتنا ووضعية الغرب."(3)؛ ليس هذا فحسب بل حتى هؤلاء الغربيون، انصرفو ا، هم أيضا، بحسب الجابري عن العقلانية كلية بعدما أتخمتهم، فتمرّدوا عليها."
وقد ذهب التمرّد ببعضهم، لأسباب مختلفة، ذاتية في الغالب، كالفشل في تأكيد الذات اجتماعيا، إلى السقوط في مخالب نزعة صوفية دينية أو ملحدة، والوقوف بالتالي موقف العداء للعقلانية جملة وتفصيلا"(4).وههنا يحق لنا مساءلة صاحب نقد العقل العربي مرة أخرى، عما إذا كان الإلحاد ضدّ العقلانية؟ أليس الإلحاد انتصارا للشك بدل اليقين، ورغبة في شقاء السؤال عوض طمأنة الجواب؟ أليس الإلحاد مسعى تنويريا راديكاليا، يروم أوّل ما يروم التخلص من الدين باعتباره أفيون الشعوب، ومن التراث كمفهوم إديولوجي، يعلي من شأن الخرافة على حساب العقل؟ لكن قبل هذا وذاك، متى تحقق الإلحاد في أوربا؟ أليس عصر الأنوار نفسه عصر ألوهية، حارب الملاحدة على قلتهم، وصان عهد البرجوازيين والمحافظين، والملوك؟ فهل يشارك الجابري هنا كل أولئك الذين ولئن شنّوا حربا ضروسا ضدّ التنوير والعقلانية، أمثال فولتير وغيره، ظلوا يُحسبون خطأ ضمن التيار العقلاني التحرري؟ الحاصل أن الجابري لا يتوقف عند هذا الحدّ في إقصاء المغاير والمختلف عن حقل العقلانية كما يفهمها بل يسترسل في نهجه ذاك لينحي جانبا كل العقول التي لا تتطابق وما سماه بالعقول الثلاثة التي هي العقل العربي واليوناني والأوربي، مبرّرا انتقاءه ونزوعه المركزي هذا بـقوله "أن المعطيات التاريخية التي نتوفر عليها اليوم تضطرنا إلى الاعتراف للعرب واليونان والأوربيين بأنهم وحدهم مارسوا التفكير النظري العقلاني بالشكل الذي سمح بقيام معرفة علمية أو فلسفية أو تشريعية منفصلة عن الأسطورة والخرافة ومتحررة إلى حد كبير من الإحيائية التي تتعامل مع أشياء الطبيعة كأشياء حية، ذوات نفوس تمارس تأثيرها على الإنسان وعلى إمكانياته المعرفية."(5).
هكذا يتحول المنهج الإبستمولوجي إلى إيديولوجيا ويضحى منطق التحليل العلمي الموضوعي الذي صرّح الجابري باقتفاء أثره، منطقا إقصائيا، اختزاليا أحيانا، وتحريفيا، تضليليا أحيانا أخرى.لكن لنا ألا نستغرب الأمر لأن صاحب النقد يقرّ بممارسة السياسة في الثقافة ونحن معه في هذا الطرح لا لشيء إلا لأنه قبل الوجود ثمّة السياسة على حد تعبير فليكس غاتاري.
لست أدري لماذا عزم الجابري وأصرّ، على تأثيث العقل العربي بتحف مخصوصة، على نحو يليق لوضعها في الواجهة؟ فالرجل إنْ راح يصنّف مجموعة من الكتاب والمؤلفين كعقلانيين، فليس إلا من أجل الزجّ بآخرين في صفّ الخرافة واللاعقلانية؛ وإذا كان التيار الأول بحسبه يتزعمه ابن رشد فالثاني يتصدره أبو بكر بن زكريا الرازي.
كيف؟ لأن هذا الأخير ينطوي على نوع من النزوع الهرمسي بنظر صاحب "نحن والتراث" ويستحسن روحانية غنوصية . "لقد أنكر الرازي النبوة، يكتب صاحب نقد العقل العربي ، ولكن لا من موقع عقلاني مادي، بل من موقع غنوصي روحاني"(6)؛ ههنا تشتد الحبال، ويتعثر بنا النقد في ترهات التلفيقية، إذ كيف لصاحب "الطبّ الروحاني" أن ينقلب بين أنامل الجابري بين عشية وضحاها إلى صاحب عقل مستقيل، ويُنعتَ بالفيلسوف اللاعقلاني؟ لكنه، يكفينا تفنيدا لهذا الزعم أن نستأنس بنص لعبد الرحمن بدوي يؤكد فيه أن"عقلانية الرازي، تتجلى في كونه انتقد الأديان كلها دون تمييز، معنى هذا أن إلحاد الرازي لم يكن باسم مذهب ديني معين ولم يكن متوجها إلى الإسلام وحده"(7)؛ بله هل من يقول بصريح العبارة :"إن البارئ –عزّ اسمه – إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه"(8) يحق تنزيله ذات المنزلة؟ الحقيقة أن الرازي لم ينتصر للعقل إلا دفاعا عن العدالة مابين سائر المخلوقات؛ ولئن فضح التناقض القائم مابين الأنبياء، فليس إلا إيمانا منه بأن العقل وحده يكفي لتنوير سبيلنا في الحياة خارج كل وصاية أيا كانت وأنى تكون. شأن ما حدث للرازي(864م-923م) في السياق العربي يكاد يوازي في نظري ما جرى لـجان ميسلي(1664م-1729م) في السياق الأوربي.
كلاهما ترك قنبلة فلسفية موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، لكن شريطة إيقادها. وإذا كانت قنبلة الأول هي "مخارق الأنبياء" فقنبلة الثاني هي "الوصية". لكن يلزمنا، والحالة هاته، التحلي بنوع من خصال الدقة في التصويب لإلحاق أقصى ما يمكن من الخسائر بالطرائد المستهدفة والتي هي : الله، الدين، الكهنة، رجال السلطة، الحكام، المستغِلون وكل صنوف رموز الانحطاط. من أجل ماذا؟ من أجل العقلانية والحرية، الفقراء والمهمشين، النساء والأطفال، وبلفظة واحدة الحياة.
إنها العقلانية التي ما أحوجنا إليها، اليوم، حتى لا تبقى حضارتنا حضارة فقه بتعبير الجابري نفسه، وتضحى الفلسفة بالتالي فلسفة حياة متحررة من كل نصية ووثوقية.
الهوامش:
1- محمد عابد الجابري، التراث و الحداثة، دراسات…ومناقشات، ط.1، بيروت 1991 ، ص.16، مركز دراسات الوحدة العربية.
2- نفسه، ص.131.
3- نفسه ، ص.17-18 .
4- نفسه، ص.18 .
5- محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991 ، ص.17 .
6- نفسه، ص.198 .
7- عبد الرحمن بدوي، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، سينا للنشر، ط.2 1993 ، ص.242.
8- رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، ج 1 ص .17 س 16 ، نشرها باول كروس ، القاهرة سنة 1939 .أوردها بدوي ضمن كتابه السالف الذكر، ص .235.
حسن أوزال
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد