الإسلام السياسي يحجز «الثورة»
أماّ وقد قطع مجرى الحراك عامه الأول، صار في مُكنة الناظر إليه أن يقاربه في صورة أكثر إيفاءً بطبيعته وبقواه أو مكوناته، ومن ثم بتشابك عوامله وأبعاده على غير صعيد. وأي صورة يُراد لها أن تتساوق مع الموضوعية لا بدّ لها من أن تراعي أقلّه شرطيْن: الأول، الأخذ بمنطق التمرْحل في الحراك أو مقاربته منذ انطلاقه إلى اليوم من منظار مرحلتيْن: مرحلة تونس ومصر ومرحلة ليبيا واليمن وسوريا والبحرين. ذلك أن الحراك أتخذ طبيعة مختلفة بين الأولى والثانية وأشكالاً متباينة سواء فيما خص علاقته بالنظام الاستبدادي أم بالتدخل الخارجي- والثاني، عدم تقديس الحراك أو تنـزيهه عن النقد بذريعة شغفنا المفرط إلى التغيير. لأن الحراك هو مسار تغييري يصنع البشر من خلاله تاريخهم بأنفسهم، ولأن الصانعين قد يقعون في التباس أو في خطأ أو في انحراف؛ ما يجعل الكشف عن الثغرات والعيوب والسلبيات حاجة ضرورية تنبع من شروط الصناعة الواقعية بالذات.
ومن خلال هذه الواقعية يمكن للحراك أن يعرّف وإن بحذر معرفي، «ثورة» ديموقراطية، وهي «ثورة» تتوسل التغيير الجذري في السُلط العربية، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم. أو بمعنى آخر، إنها تنشد تغيير النظام الاستبدادي وبناء نظام ديموقراطي مدني وتعددي يقوم على تداول السلطة، ويحرّر المحكوم من أسره الوجودي المزمن ويضعه في نطاق وجودي تشاركي ومنفتح.
هكذا، انبنى المعنى الحقيقي للحراك الذي ابتدأ في تونس ثم انتقل إلى الفضاء العربي كله. وقد حملته كتل مدنية ديموقراطية تتشكّل من مستقلين ويساريين وليبراليين وطنيين.. لكن المعنى المذكور أخذ يتعرض للتحريف والتشويه من حركات وقوى إسلامية اقتنصت فرصة الحراك في مرحلتيه بكفاءة انتهازية عالية. فالتحقت به بعد تصاعد وتيرته، واستبطنت حسابات «شرعية» مغايرة لحسابات الكتل المدنية.
وما انكشف في هذا المساق أن الحراك انتظم في مرحلته الأولى على قواعد شبه صافية في طابعها السلمي والحضاري. فأمكنه ذلك أن يُسقط في فترة قياسية رأسيْن من رؤوس الاستبداد العربي، وأن يبرهن على نحو قاطع أن الداخل هو العامل الحاسم في أي مسار تغييري منشود. وكانت صدمة الغرب الكولونيالي إزاء الحراك وموقفه الداعم لرأسي الاستبداد إلى ما قبل سقوطهما بأيام معدودة، يعبران عن الاستدلال الصريح لصدق هذا البرهان «الثوروي» الواقعي.
غير أن الأمر أخذ يتبدّل في المرحلة الثانية. فمع اندلاع الحراك الليبي، كان الغرب الكولونيالي قد وضع «بالتعاون» مع أتباعه، ملوك وأمراء الأنظمة السلالية في الخليج، خطة لاحتواء الحراك أو توظيفه في خدمة مصالحه في الأمن والاقتصاد والسياسة. ومذ ذاك، حضر الخارج الإقليمي والدولي في ساحات الحراك كلها. فنشأت جدلية صراعية معقدة أدخلت «الثورة» الديموقراطية في توازنات جديدة ترسم مشهدها قوى الخارج ودوله. هنا يجدر التوكيد على أن التدخل الخارجي وجد بيئته الملائمة في النهج القمعي للنظام الاستبدادي إزاء الحراك؛ كما في استدعائه من بعض أطراف المعارضة بحجة حماية المدنيين من القمع الوحشي الرسمي... بيد أن ذلك لا يعني أن الخارج لم يكن لديه رغبة أصلية للتدخل التي لا تعنى كثيراً بالحجج الإنسانية والأخلاقية؛ بل تهتم أكثر بآداب المصلحة، الروح الدنيوية الدائمة للغرب الرأسمالي. وسرعان ما أخذ ذلك يتبدّى في التدمير المنهجي للدولة الليبية من قبل الحلف الأطلسي و«إمبراطورية قطر»!، باستثناء مؤسسات النفط وخزائنه الأرضية. وكانت ثمرة التدمير تتمثل في أن الحراك الليبي الذي تعسكر بقوة، حصل على سقوط النظام الاستبدادي في بلاده، وتالياً على صندوقه الاقتراع. لكنه خسر في المقابل دولته واستقلالها الوطني، مثلما كانت عليه الحال في عهد القذافي أو ربما أسوأ؛ إلى أمد لا يقررّ نهايته إلا «محررّو» ليبيا وأصحاب نفطها الحقيقون. وعلى هذا، يكون الحراك قد أذعن لاستتباع ليبيا وانزلق إلى معادلة متفارقة في حدّيْها، وهي أن الديموقراطية تتلازم مع التبعية. وتلك معادلة تُسقط الوطنية ولا تنتج ديموقراطية حقة.
وحين اندلع الحراك في سوريا، لم يقف نظامها على معاني المشهد التغييري وأبعاده في المنطقة، من أجل إنتاج تسوية وطنية داخلية، بل انتهج سبيل القمع ضد الحركة الاحتجاجية السلمية في بلاده. ومع تنامي الوتيرة القمعية، توفّرت الفرصة المثالية للخارج لكي يتدخل في الساحة السورية بأشكال شتى. هنا انكشفت هذه الساحة على تدخلات كثيفة من الغرب والشرق في آن. فالغرب الكولونيالي والخليج السلالي وتركيا، نادوا بإسقاط النظام ودعموا المعارضة وبخاصة صنعيتهم المجلس الوطني، كما امّدوا بعض الجماعات بالمال والسلاح، وجندو آلة إعلامية هائلة من أجل تحقيق أهدافهم. والشرق، أي روسيا والصين وإيران، دعموا النظام وأيّدوا الإصلاحات «الفوقية» التي أجراها. وأُستخدم الفيتو الروسي والصيني المشترك مرتيْن لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن يتيح بصيغة أو بأخرى التدخل العسكري في سوريا. وإزاء ذلك، دخلت الأزمة السورية في طور من التدويل الكامل. وانحكم الموقف منه إلى مفارقة صارخة. فالنظام يرفض التدخل الغربي ويصنّفه في خانة «المؤامرة» على سوريا. لكنه يوافق على التدخل الروسي والصيني ويعتبره مشروعاً. وثمة اطراف في معارضة المجلس الوطني تستدعي التدخل العسكري الغربي وتجد فيه الحل المنشود للأزمة. لكنها تعترض على التدخل الروسي والصيني ما لم يخدم أهدافها في إسقاط النظام.
ومع استمرارية هذا الانقسام تفاقمت الازمة الوطنية في سوريا بعد أن تسلّحت أطياف من المعارصة، وتوسّعت دوائر العنف والعنف المضاد، وبعد أن ارتبطت بتوازنات إقليمية ودولية ليس من السهل على طرفي الأزمة الداخليْين الفكاك من تداعياتها عليهما. وفي داخل هذا المشهد حوصر الحراك السلمي في شروط توسّعه وتناميه حتى لا يفرض توازناً أرجحياً لصالحه يعطّل من خلاله الآلة القمعية للنظام؛ وبالتالي وُضعت سوريا أمام ثلاثة خيارات: تدخل عسكري قد يستولد حرباً إقليمية واسعة. وهو خيار ليس ممكناً أقلّه في المدى المنظور. او إنتاج تسوية سياسية برعاية إقليمية ودولية؛ وهو غير متاح راهناً في ظل تداخل الانقسام الوطني وتشابكه بالتوازنات الخارجية غير المستقرة. أو الدخول في طور مديد من الاستنـزاف والفوضى الكيانية؛ وهو ما تعيشه سوريا أوتذهب إليه بخطى حثيثة. أما حصيلة الخيارات المطروحة، فهي ان النظام كسب مؤقتاً في التدويل وخسر دائمًا في سوريا. وأن معارضة المجلس الوطني لم تجنِ بعد مأمولها من التدويل. لكنها أفلحت في كسب «ود إنسانية» الغرب الكولونيالي، ومحاكاة «الديموقراطية السلالية» في الخليج. وفي الحاليْن، يكون صناع الأزمة قد أدخلوا سوريا في مسار خطير من العصف البنيوي الذي يضرب عميقاً في وحدتها الوطنية.
وتوسّعت الجدلية إلى البحرين واليمن، فتجنّد الخليج من أجل احتواء الحراك في كلّ منهما بكيفية مختلفة عن الأخرى، ولقي الدعم «الإنساني» غير المشروط من متبوعه الكولونيالي. وهكذا أسرع أهل «النخوة والشهامة» إلى نصرة ملك البحرين. فأرسلوا قوات درع الجزيرة لقمع الحراك السلمي في المملكة، لئلا يعبث «بالاستقلال الوطني» للخليج وبأمنه «القومي»، وبخاصة أنهم صنفوه حراكًا طائفيًا مدّبرًا من إيران يخضع لإمرتها وينضبط وفاق سياستها الإقليمية. ولذلك، كان لا بدّ من ترهيبه وتطويقه بحزام من القوة. ومن ثم سد المنافذ على أي تسوية حقيقية معه بغية أن يصل إلى طريق مسدود.
أما الحراك اليمني، فقد أقلق الخليج ووجد فيه خطراً جدّيا على أمنه الاستبدادي! فعمل على دفع مصدر الخطر عنه، ما جعله يضع خطة لاحتواء الحراك وإجهاض مقاصده الديموقراطية. وحافظت على تركيبة النظام وقواه وشخوصه بعد أن حظيت بالدعم الأميركي «الديموقراطي»، لئلا يخرج اليمن من دائرة التبعية إلى الغرب، ومن كونه جرماً مطيعاً في فلك النفوذ الخليجي ذلك أن يمناً ديموقراطياً مدنياً هو يمنٌ سعيد، تفضح سعادته سياسة الوجوه البائسة في الخليج.
إذن لقد تشابك الداخل مع الخارج بقوة في المرحلة الثانية من الحراك التغييري. لكن فعل الخارج داخلياً يتحدد بالقدْر الذي يتيح له الداخل (نظام استبدادي ومعارضة)، ان يفعل. ولعل هذا ما تجلّى في الحالات المعروضة آنفاً. فخطة الاحتواء ما كانت لتجد فعلها المؤثر ما لم يندرج فيها طرف داخلي ما ويوفر لها شروط تأثيرها بصورة أو بأخرى. وبالفعل وجدت تلك الخطة ضالتها في عدد من أطراف الحراك. اذ استطاعت أن تجتذب حركات من الإسلام السياسي إلى سبيل ما تنشده أو تسعى إليه. وهكذا اغتنمت تلك الحركات فرصة ذهبية. فحظيت بالغُنم السخي من الخليج. ونالت الرضى والتأييد من الغرب، ومن ثم بقي أمامها أن تبادل «المعروف» بأحسن منه.
وانتهج «معروفها» طريق التعويق في السياسي، والهدر في الوطني. فعلى المستوى الأول، حجزت الحركات المذكورة، الحراك داخل قوالب قسرية. اذ راحت تروّج بعد فوزها في الانتخابات النيابية في تونس ومصر، لمعادلات متناقضة تعيق الديموقراطي والمدني، كالحديث عن التوافق بين الديموقراطية والشورى، وعن دولة مدنية بمرجعية إسلامية. وعلى المستوى الثاني، تعهّدت بالحفاظ على معاهدة، «كامب ديفيد» مع إسرائيل وحاذرت فلسطين في خطابها، وأهملت العروبة اعتقاداً منها أنها بدعة غريبة؛ من دون أن تستشعر التناقض في اعتقادها حين تزعم انها قطعت أشواطاً في التحديث الغربي. كما تعرّت في مواقفها من المقاومات العربية، بين صمت شائن وتطييف بائس مردود عليها لأنها من طبيعة طائفية لا بل مذهبية صافية!
ولقد لاقت المواقف أعلاه تبريرها من حركات الإسلام السياسي تحت عنوان أولوية ترتيب البيت الداخلي على الخارج. وكأن الاستقلال الوطني في مصر يتحقق في ظل استمرار معاهدة كامب ديفيد أو كأن فلسطين خارج يماثل أيّ خارج آخر، أو أن العروبة رابطة خارجية عن بينية وجود المجتمع الذي لن يجد تماسكه أو وحدته لا بالإسلام المذهبي أو بالقبلية أو بالجهوية.
أما موقفها التوفيقي بين الديموقراطية والشورى، والدولة المدنية والمرجعية الإسلامية، فذاك ما يقع في باب التناقض التنابذي. ذلك أن الثنائية الأولى تنتمي إلى حقلين معرفييْن وتاريخين مختلفين. فالديموقراطية تنبنى على وجود فرد مواطن حر وسيّد نفسه، وعلى شعب تنبع سيادته على ذاته من ذاته. في حين أن الشورى تقوم على وجود مؤمن «حر وسيد» من مصدر خارجي عنه؛ وعلى جماعة الحل والعقد التي لا تنبع سيادتها على ذاتها من ذاتها. ولذلك فالسلطة تتولد من الانتخاب في الديموقراطية، بينما تتأسس على التعيين في الشورى. والثنائية الثانية تنتمي إلى حقل المتغير والثابت. فالمدني وضعي يتغير مع المتغير الواقعي، بيد أن الإسلامي حين يتغيّر يبقى محدوداً في نطاق ثوابته الإيديولوجية أو مقدسه. وبين هذا وذاك يكمن التفارق بين بناء الحاضر بأدوات الحاضر نفسه، وبين بنائه بأدوات الماضي.
على أي حال، لقد كشفت جدلية الداخل والخارج، وبخاصة بعد الانتخابات النيابية في تونس ومصر، أن حركات الإسلام السياسي تُعدُّ لمرحلة من الحكم الإسلامي يتحصّل منها بناء نظام عربي يتبوأ فيه الخليج موقع الصدارة ويحظى بالدعم والتأييد من الغرب. لكن ما يخشى من المرحلة المنشودة أن تستولد إمارات إسلامية هنا أو هناك، تستند إلى فقه «القرْضنة والعْرعرة» وتحاكي بلهجة «حديثة» زمن السلاجقة قبل نور الدين وفي المقابل، كشفت الجدلية ذاتها أن الحامل الحقيقي «للثورة» الديموقراطية، هو الكتلة المدنية الديموقراطية، وأن استمرار «الثورة» في الميدان أو الساحة، لا بدّ له من أن يتنظم في موقع المعارضة لحركات الإسلام السياسي بصفتها مشاريع سلطوية في مبتدئها وخبرها على السواء.
فؤاد خليل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد