الإنشاد الصوفي والمولوية.. بروح دمشقية عطّرها التراث

11-09-2008

الإنشاد الصوفي والمولوية.. بروح دمشقية عطّرها التراث

في دراسة تحت عنوان «صورة جانبية للأدب الصوفي» للباحث واصف باقي يقول فيها: «اعتُبر التصوف ظاهرة إنسانية عرفتها الحضارات البشرية المتعاقبة، كنزعة روحية، تنهل من ينبوع الدين الحنيف، وثمرة وجدانية تعتدّ بالقلب وإلهاماته لا بالعقل وتصوراته، والمعرفة عند الصوفية هي نشدان الحقيقة، فهي ضالة الصوفي وهدفه لأنها وليدة الإلهام، ولا تدرك إلا بالبصيرة وليست بالبصر، أي عالمها هو القلب والتأمل وليس الفكر والمنطق».

والإنشاد الصوفي هو حالة تجسيدية لسموّ هذا الأدب وروعته، يهدف إلى دغدغة المشاعر الإنسانية وملئها بالقيم الروحية الخالصة. ويعد من أرقى الفنون، لأنه يعتمد على عناصر متينة لا يمكن زعزعتها كالصوت الشجي، والكلمة الطيبة الشفافة، واللحن المتوهج بالإبداع والجمال.

تعتبر رابطة المنشدين السوريين في دمشق، المدرسة الأولى في الوطن العربي لتعليم فنّ الإنشاد الصوفي الذي ينبع من مسجد بني أميّة الكبير، منذ زمن العلامة الشيخ عبدالغني النابلسي، أي منذ ما يزيد عن 350 سنة، وهو صاحب كتاب (الدالات في سماع الآلات بالإنشاد الصوفي) وملحن موشح (اسق العطاش)، كما أنه ملحن الأذان الجماعي بمسجد بني أميّة الكبير في دمشق.

وبعد وفاة العلّامة النابلسي، ظهر الشيخ سعيد فرحات في بداية القرن العشرين الذي أحيا، من جديد، فن الإنشاد الديني. وكان علّامة في فنه الخاص، ولحّن لمجموعة من الأساتذة الذين اعتبروا من رواد هذا الفن كـ(توفيق المنجّد، سليمان داوود وحمزة شكّور) ولكل من هذه الأسماء الكبيرة دور شديد الأهمية في استمرار الرابطة وتطورها، وبالأخص الشيخ حمزة شكّور الذي بدأ هذا الفن مع والده، مؤذن ومنشد الجامع الكبير في دمشق، بدأ شكور وهو في سن السابعة متتلمذاً على يد الشيخ سعيد فرحات، وبتشجيع من الدكتور محمد حمزة القابوني.

ثم أصبحت رابطة المنشدين من أشهر الفرق التي تؤدي هذا النوع من الفن عربياً وعالمياً، وقد أضفى على جمالها جمالاً أكبر وجود (المولوية) وكلمة المولوية تعني (الدراويش الراقصين)... هذا الطقس الذي تقول المراجع إنه يعتبر من طرق التعبّد، وقد ابتكره جلال الدين محمد بن الحسين الخطيبي، المعروف بجلال الدين الرومي، إكراماً لمعلمه وصديقه الروحي شمس تبريز.

وتوصف الرقصة المولوية بأنها أجمل طرق الرقص المتعلق بالإنشاد الديني حيث يرتدي مجموعة من الرجال ملابس فضفاضة في القسم السفلي من الجسد وتحتها سروال فضفاض أيضا، ويبدأون بالدوران حول أنفسهم فترتفع تلك الملابس نتيجة الحركة الدائرية مشكلة حلقة حول الجسد في مشهد جميل، ويقال أن هذا الدوران يعني التعبّد لله لدرجة الفناء من أجله، وربما دلالة الأزياء المستخدمة تؤكد ذلك، والتي تتألف من قبعة طويلة مصنوعة من اللبّاد تسمى (السكّة)، وتمثّل شاهدة قبر النفس الأمّارة بالسوء، والرداء الأبيض الفضفاض الذي يمثّل كفن النفس، والجبّة تكون على شكلين : سوداء لشيخ الطريقة، وزرقاء لباقي الدراويش (الراقصين) والتي ترمز للحقيقة المبهمة، وعندما يخلعها الدرويش ويظهر في الثوب الأبيض الفضفاض، يكون قد بُعث في عالم الحقيقة. ويتميز شيخ الطريقة عن باقي الدراويش بلفةٍ خضراء توضع على القبعة الاسطوانية، وترجع اللفة الخضراء إلى عمامة النبي الخضراء، وإلى راية الإسلام، ويستخدمها جميع شيوخ الطريقة.

أمّا بالنسبة لانتقال المولوية من الزوايا والتكايا إلى المسرح فكان لا بدّ من سؤال مولوي مخضرم عاصر الجيل القديم والجديد، ذلك لأنه بدأ كمولوي في سن الثامنة، هو الأستاذ هشام الخطيب، المدير التنفيذي لرابطة المنشدين السوريين، والمدير التنفيذي لمؤسسة (تهليله) للإنتاج الصوفي والأندلسي، الذي قال إن المولوية انتقلت بالفعل من الزوايا والتكايا والجوامع إلى المسرح في دمشق بفضل الشيخ حمزة شكّور، الذي كان منشداً في فرقة أميّة، وكانت هناك فقرة مخصصة للمولوية، يقوم بأدائها راقصون من فرقة أميّة، فاقترح الشيخ حمزة أن يؤدي هذه الفقرة المختصرة (مولوي) حقيقي، وبالفعل كان ذلك. وكانت البداية من هناك، إلى أن صارت المولوية ترافق الإنشاد في الأماكن الخاصة وأماكن العبادة وحتى على المسارح، ويكمل الأستاذ هشام الخطيب قائلاً:

« إنّ مؤسس المولوية في دمشق هو (قردل دادا)، حيث مقامه الآن في جامع المولوية في حي الحجاز، وفي زمنه كانت المولوية تؤدى في ليلة القدر (27من رمضان) في الجامع المولوي، وفي زاوية هاشم العيطة والزاوية السعدية في حي القيمرية، والزاوية النقشبندية في شارع بغداد.

وقد ظهرت أربعة طرق في بلاد الشام هي الرفاعية، القادرية، الجيلانية، والنقشبندية. تعتمد كلها على الذكر والحضرة والموسيقى، وكانت المولوية هي الطريقة الخامسة التي تعتمد على الدوران. تفرعت عن الطرق الأربعة السالفة الذكر 120طريقة مختلفة.. والجدير ذكره أن في أوروبا الآن جامعات تدرس الطرق الصوفية.

ومن أهم شيوخ المولوية في دمشق: شمس المولوي، فايق المولوي، أحمد الجمل، محمد الجمل، حاتم الجمل وهشام الخطيب».

فالإنشاد الديني والمولوية هما أحد الروافد الثقافية التي تزخر بها مدينة دمشق، وبكل هذه الفنون يتشكل موزاييك تراثي يجذب كل متعطش للنهل من ثراه.

- ثمة هنالك من يشعر بحنين للماضي كما يقول السيد محمد عقيل «عضو رابطة المنشدين لاكثر من 30 عاما».. فقد أخبرنا كم يحن إلى أيام الأستاذ توفيق المنجد ويعتقد أن ليالي رمضان في تلك الفترة كانت أكثر رهبة وخصوصية، ويعتبر أن الفضل في وجوده ضمن رابطة المنشدين يعود إلى الأستاذ حمزة شكور الذي كان سببا في ذلك، ويتمنى السيد محمد في الأيام القادمة أن تنضم أصوات شابة إلى الرابطة تتربى في عهدها لتصبح جزءاً منها واستمرارا لها.

أما الأستاذ سليمان الخشن وهو من مواليد 1933 فقال: كان الإنشاد يقام في أماكن محددة ومخصصة له (زوايا –تكايا)، أما الآن فقد أصبح مسرحيا أكثر، ولدى سؤاله عن البلدان التي كانت تقدم دعوات لرابطة المنشدين أجاب: كانت أغلب الدول التي تستضيفنا دولا عربية، وباستثناء ذلك كنا نتلقى الدعوة من فرنسا فقط، ويختتم الخشن قوله بأنه سعيد جدا لدخول العنصر النسائي إلى فرقة رابطة المنشدين. كما التقينا الاستاذ محمد الشيخ، وهو عضو في الفرقة منذ العام 1985 وفي لقائنا معه يقول: الفرقة هي فرقة تراث والتراث لا يتغير إنما يضاف إليه، والمضاف حاليا هو الإيقاع والموسيقى والمسرح، ويتذكر الشيخ في شهادته الأستاذ توفيق المنجد بكثير من الحب والاحترام، وفي الوقت ذاته يفخر بما وصلت إليه الرابطة منذ تسلمها الأستاذ حمزة شكور، ويرغب في أن تدخل الرابطة عناصر جديدة تمتلك موهبة الصوت ولديها رغبة صادقة في أداء هذا النوع من الغناء. وإذا كنا تحدثنا آنفاً عن الإنشاد الصوفي، واستعرضنا عظمة الكلمة المغناة، فحري بنا أن نختم بإحدى أجمل الأبيات التي تؤديها باستمرار رابطة المنشدين السوريين:

«بلبل الإنشاد غرّد

وبشير السعد قال

ظهر الهادي محمّد

شمس أفلاك الكمال

فزهى الكون وأشرق

بمصابيح الجمال

والهدى لما تحقّق

زال ديجور الظلام

وعلى الدّنيا تجلى

كوكب الشرع المنير

و به الدهر تحلى

واكتسى ثوب الجمال».

عاصم جمول

المصدر: أوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...