البترو- يورو في مواجهة البترو- دولار

14-01-2007

البترو- يورو في مواجهة البترو- دولار

كان العام 2006 هو عام التوتر الإيراني- الأميركي بامتياز، ففيه دخل الملف النووي الإيراني مرحلة جديدة بقرار مجلس الأمن رقم 1737 الذي فرض عقوبات دولية على إيران لأول مرة في تاريخ جمهوريتها الإسلامية.

وشهد العام المنصرم أيضا اختلاطا غير مسبوق للأزمات الإقليمية في العراق ولبنان وفلسطين، ومناورات عسكرية في الخليج من جانب الولايات المتحدة الأميركية كما من جانب إيران جعلت التصعيد بينهما علامة فارقة على خريطة المنطقة السياسية.
وفي غمار التصريحات والمناورات العسكرية والدبلوماسية بين الطرفين أدخلت طهران، قبيل نهاية العام وبالتوازي مع قرار فرض العقوبات عليها، إلى المواجهة الناشبة بينها وبين واشنطن سلاحا جديدا هو سلاح الاحتياطات النقدية.

إذ ألزم صانع القرار في طهران البنك المركزي الإيراني (بنك ملي إيران) اعتماد العملة الأوروبية "اليورو" بدلا من الدولار الأميركي في سلة احتياطاته بالعملة الأجنبية، وأصدر توجيهاته إلى كل الوزارات الإيرانية بتقويم معاملاتها باليورو بدلا من الدولار واعتماد ذلك في موازنة السنة الإيرانية الجديدة التي تبدأ في مارس/ آذار من العام الحالي.

ومن شأن هذا القرار أن يجعل العام 2007 مرشحا لتصعيد أكثر حدة بين الطرفين، خاصة في حال أدرج النفط الإيراني ومبادلاته الدولية في قرار التحول عن الدولار والاتجاه شطر اليورو.

وتفوق هذه الخطوة التصعيدية الجديدة في خطورتها كل ما أظهرته إيران حتى الآن من "وسائل تحدٍّ" عسكرية وإقليمية للولايات المتحدة الأميركية، لأنها لا تستهدف إحراج واشنطن في الإقليم وحسب، بل تضع "الإمبراطورية الأميركية" أمام تحديات حقيقية هذه المرة.

وإذ استعرضت إيران في غير مناسبة تشابكاتها الطائفية والسياسية في كل من العراق وأفغانستان، فضلا عن قدراتها العسكرية سواء أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف العام الماضي أو عبر مناورات "النبي الأكرم" في مياه الخليج ملوِّحة بورقة إغلاق مضيق هرمز الذي يمر منه 40% من نفط العالم، فإنها بقرار التحول إلى اليورو تجتاز خطا أحمر أميركيا، لأنها تتحدى بذلك السيطرة العالمية للدولار وهي شرط بقاء الإمبراطورية الأميركية.

وهذا التحدي هو الأخطر الذي تواجهه أميركا منذ اعتماد الدولار عملة الاحتياط الدولية.

- اعترف العالم للدولار الأميركي بمقتضى اتفاقية "بريتون وودز" في العام 1945 بصفة عملة الاحتياط الدولية، ولكن بشرط دوام قابلية الدولار للتحويل إلى ذهب.

وكان أن توسعت واشنطن في الإصدار النقدي لتمويل الإنفاق العام فيها، معتمدة في ذلك على حقيقة أن الطلب على الدولار لم يعد أمرا يخص السوق المحلية الأميركية وحدها، بل بسبب نشوء طلب دولي على العملة الوطنية الأميركية (الدولار) أخذ يتوسع بتوسع حجم التجارة الدولية.

وفي 15 أغسطس/ آب 1971 رفضت الولايات المتحدة الأميركية تحويل الدولار إلى ذهب، ما عنى وقتها إفلاسا ماليا أميركيا وتملصا من التزاماتها التعاقدية بموجب اتفاقية "بريتون وودز".

ساعتها ظهر بوضوح أن الولايات المتحدة الأميركية استوردت كميات ضخمة من السلع والخدمات دون نية إعادة مبادلتها مدفوعة بالذهب، ولم يستطع العالم مترابط المصالح والمقيمة تجارته بالدولار أن يفعل شيئا حيال ذلك.

ولما لم تستطع أي دولة في العالم إضفاء صبغة دولية مشابهة على عملتها الوطنية، استمر الدولار نافذاً عملة الاحتياط الدولية. ثم لم تعدم واشنطن الوسيلة لإسناد عملتها الوطنية، فدعمتها باتفاق مع الدول المصدرة للنفط الأعضاء في "أوبك".

ويقضي الاتفاق القائم منذ العام 1972 بالتزام دول "أوبك" بألا تقبل أي عملة غير الدولار في مبادلاتها النفطية، وهو ما أسس لظهور مصطلح "البترو-دولار" وما يعنيه من دلالات سياسية-اقتصادية.

ولأن العالم كان -ولا يزال- مضطرا لشراء النفط لتدوير آلته الصناعية، فقد كان مضطرا أيضا إلى حيازة الدولار، وبزيادة الطلب على النفط مع نمو الاقتصاد العالمي زاد بالضرورة الطلب على الدولار.

منذ ذلك الوقت لم يعد الدولار مرتبطا بالذهب بل بالنفط، ووفق هذه الآلية نجحت واشنطن في ترسيخ وضعها الإمبراطوري مقابل الأقطاب الاقتصادية الأخرى في العالم، بحيث صار النفط ضامنا لبقاء الدولار عملة الاحتياط العالمية.

ولا يفوت في هذا السياق ملاحظة أن سوق النفط والغاز هي السوق السلعية الأضخم في العالم، وأن البورصتين اللتين تحتكران بيع وشراء النفط والغاز في هذه السوق هما بورصة نيويورك الأميركية NYMEX)) وبورصة لندن للنفط London’s International Petroleum Exchange، والأخيرة مسيطر عليها أميركيا وتقودها احتكارات مالية ونفطية عالمية مثل "بريتيش بتروليوم" و"غولدمان ساكس" و"مورجان ستانلي".

والملاحظة الأخرى الجديرة بالاعتبار هي أن إنجلترا ثاني أكبر اقتصاد أوروبي بعد ألمانيا لم تتحول إلى اليورو حتى الآن بضغط أميركي، لأن هذا التحول سيترتب عليه أن تتحول بورصة لندن للنفط أيضا إلى اليورو، وهو ما سيهز من وظيفة الدولار كعملة النفط الدولية.

وفي حين خاضت "أوبك" صراعات سياسية من أجل تأكيد استقلالية نسبية في تسعير النفط، كانت هذه الصراعات ومازالت مسموحا بها في حدود. أما مبادلة النفط بعملة أخرى غير الدولار فهي خط أحمر أميركي ثقيل لا تختلف حوله الإدارات الأميركية على اختلاف ميولها ومشاربها ديمقراطية كانت أم جمهورية.

ومرد ذلك أنه في حالة كسر العلاقة العضوية القائمة بين النفط والدولار، فإن الدولار سيغادر موقعه كعملة الاحتياط الدولية، وستهدد مغادرته لهذا الموقع الإمبراطورية الأميركية بشكل يفوق ما مثلته لها التهديدات السوفياتية إبان الحرب الباردة.

لم يحدث هذا التهديد المباشر لوضع الدولار سوى مرة واحدة من قبل، حين تجرأ الرئيس العراقي السابق صدام حسين في العام 2000 على اعتماد اليورو والتخلي عن الدولار مقابل نفط العراق.

ولهذا لم تكن الحرب على العراق من أجل "أسلحة الدمار الشامل" التي زعم أنها كانت بحوزة العراق، ولا من أجل "نشر الديمقراطية" في بلاد الرافدين، بل للدفاع عن الدولار وسيطرته على النفط وبالتالي الحفاظ على الإمبراطورية الأميركية.
والإجراء الأهم بعد احتلال العراق من قبل الحاكم العسكري وقتذاك بول بريمر كان إعادة معادلة النفط-الدولار إلى سوق النفط العراقية. قد يبدو للكثيرين وكأن أميركا قامت بغزو العراق من أجل السيطرة على النفط، في حين أن واشنطن تستطيع -نظريا- طبع البنكنوت وشراء كل نفط العراق، أما الحرب على العراق فقد شنت في الواقع بهدف إعادة الهيمنة المطلقة للدولار على النفط دون شريك.

وحتى الحجم المتدني لصفقة "النفط مقابل الغذاء" الشهيرة الذي لم يتعد أربعة مليارات دولار أميركي كل ستة أشهر، كان يشكل تهديدا للاقتصاد الأميركي المحسوب بالتريليونات وليس المليارات بسبب عامل السابقة التاريخية. فلو حذت دول نفطية أخرى وقتها حذو العراق لشهدنا ظهور "البترو يورو" ليزاحم "البترو دولار".

تبتعد قدرات إيران الحالية سياسيا واقتصاديا وعسكريا بفارق شاسع عن مثيلاتها لدى العراق في العام 2000، كما أن احتياطياتها النقدية أضخم، فضلا عن أن النفط الإيراني يضخ كاملا في الأسواق العالمية ولا يفرض عليه حظر أو تضييق من أي نوع.

ولو أرست إيران سابقة اليورو واتبعتها دول مناوئة لسياسات واشنطن مثل فنزويلا لأصبحت ظاهرة "البترو يورو" أمرا واقعا يتعايش بجوار "البترو دولار"، بحيث يمكن لليورو بمرور الوقت سحب البساط من تحت أقدام الدولار.

ولئن شرعت مؤخرا دول كثيرة في تحويل قدر من احتياطياتها من العملات الأجنبية إلى اليورو مع استمرار هبوط الدولار أمامه، فقد فضلت الدول التي تواجه ضغوطا أميركية تنويع سلة عملاتها الأجنبية قدر الإمكان، ولا تستثنى من ذلك إيران التي فرضت واشنطن عليها منذ أكثر من ربع قرن ومن جانب واحد حظرا اقتصاديا واستثماريا وتكنولوجيا وجمدت أرصدتها الموجودة لديها.

وطبقا لملامح النظام المصرفي العالمي الحالي تتم المقاصة على التحويلات العالمية بالدولار في نيويورك غالبا وهو ما يعرض الأرصدة الإيرانية في الخارج إلى ضغوط أقوى.

لذلك من المفهوم أن يعدل البنك المركزي الإيراني من نسب احتياطياته بالعملات الأجنبية والذهب (يمثل الدولار 30% فقط من احتياطياتها على الأرجح) لمصلحة اليورو.

ولا يشكل هذا التعديل أزمة من المنظور الأميركي نظرا للمحدودية النسبية للاحتياطيات الإيرانية التي لا تمثل بأي حال ظاهرة دولية، ولكن تقويم النفط الإيراني باليورو بدلا من الدولار هو أمر دولي -وفق تشابك العلاقات بين النفط والدولار- يمس الولايات المتحدة الأميركية ووضعيتها العالمية في الصميم.
صعدت إيران بخطوة تقويم النفط باليورو من مواجهتها لواشنطن بشكل غير مسبوق، وهو التصعيد الذي يتجاوز الخطوط الحمر التي برعت إيران في مناوشتها.

ولئن برعت طهران في إيصال الرسائل السياسية والإقليمية وفي اختيار القدر المناسب من التصعيد المحسوب بمواجهة واشنطن، وغازلت إيران بلباقة اللوبي النفطي في واشنطن، لأنها تعلم أنه يتحرق شوقا للظفر بجزء كبير من كعكتها النفطية، في حين يمنعه الحظر الأميركي من الوصول إلى غايته، وهذا اللوبي بالتحديد هو ما ترتكز إليه الأصوات الأميركية المطالبة بحوار إستراتيجي مع إيران بدلا من مواجهتها.

ولكن ربما فات على طهران أن اللوبي المذكور هو جزء من منظومة أكبر تضبط مصالح القطاعات المختلفة وتتحكم في إيقاعها وتحدد أماكنها في سلم أولويات الأجندة الأميركية والعالمية.

ولأن أميركا تتحكم في الشطر الأعظم من موارد العالم النفطية، فيمكنها بسهولة توفير بديل للنفط الإيراني في غير مكان من العالم، ولكن سيطرة الدولار على سوق النفط هي بمثابة كلمة السر لبقاء واستمرار الإمبراطورية الأميركية.

لا يصنع جورج دبليو بوش السياسة في أميركا كما لم يصنعها بيل كلينتون من قبله، ولكنه يظهر فقط رئيسا للجمهورية في واجهة المشهد السياسي والدبلوماسي الأميركي، أما أصحاب القرار الحقيقي فهم حماة الإمبراطورية الأميركية من ممثلي الكارتيلات والاحتكارات العالمية الذين يبقون خارج المشهد مع أنهم يتحكمون بالمطلق فيه.

ومع الاعتراف لطهران بالبراعة في استنزاف واشنطن واستثمار إخفاقاتها في المنطقة من أجل الوصول إلى ما تراه هي "حقا إقليميا" لها، سيستعدي قرارها الاقتصادي الأخير عليها قوى كونية وأسطورية يمكن تصور أنها تنفلت الآن من مكامنها غير المنظورة لمواجهة التحديات لما تعتبره "مصالحها الوجودية".

مصطفى اللباد

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...