الحوار الإسلامي الإسلامي (الاختلاف الجميل والقطع المحرم)
اللافت فيما يتعلق بدراسات الحوار «الإسلامي- الإسلامي» ميل معظم البحوث والمداخلات إلى الارتكاز على المشكلات المذهبية، بوصفها المنصة الظرفية لمشكلات الحوار الإسلامي-الإسلامي نفسه
اللافت فيما يتعلق بدراسات الحوار «الإسلامي- الإسلامي» ميل معظم البحوث والمداخلات إلى الارتكاز على المشكلات المذهبية، بوصفها المنصة الظرفية لمشكلات الحوار الإسلامي-الإسلامي نفسه، وبطبيعة الحال فإن هذا المنحى من المعالجات والمقاربات سيعاود استهلال المراحل التاريخية السابقة التي كانت تربط باستمرار أزمة العقل الإسلامي بأزمة الفقه والأدلجة وعلم الكلام، وفي هذا السياق ستظل محنة الحوار عالقة في فخ الاجتهاد وأطواره ساحبة معها ذيول النصوص وتأويلاتها وانقساماتها لينتهي الأمر بنا إلى تعطيل الحوار وإغلاق نوافذه، لأننا ببساطة انطلقنا بمنهجية الحوار من أدوات المشكلة دون أي اهتمام بأدوات التغيير التي لا معنى لمفهوم الحوار في غيابها. ولئن كنا لا نملك أن نماري في أن حالات عدة من إخفاق مشاريع التقريب بين المسلمين قد سُجلت في تاريخ الحوار فليس لنا أن نتجاهل أن مصادرة فكر التغيير الاجتماعي واستبعاد المثقف عن عملية التغيير قد جرّت حواراتنا الفقهية والكلامية إلى مزيد من السجال العقيم المتسلط بأحكامه المسبقة بين سلطوية النفي وسلطوية الإثبات وبذلك بقيت إشكاليات الحوار وأسئلته مطابقة لذهنيات التفكير المذهبي وقائمة عليه، ومن ثم تراجعت قضايا الوحدة والحرية والثقافة والتنمية على حساب المقولات المذهبية، وهي مقولات كان بإمكانها أن تثري تطلعات الحوار وآماله، فيما لو انطلقنا بتوظيف تراكماتها لمصلحة قضايا الوجود والمصير، فتتكامل مع قوى التغيير في أمتنا العزيزة بدل أن تخوض فجاعة الصراع مع المذاهب الدينية المخالفة، أو المذاهب الأيديولوجية النقيضة.
الحوار الإسلامي- الإسلامي نحو صياغة جديدة
هل يعيد الحوار الإسلامي- الإسلامي صياغة نفسه؟ فيبتدئ من نقد الواقع الراهن لمحاكمة تاريخيه وماضيه بدل أن يبتدئ من نقد الموروث ويستغرق فيه ليتنصل في النهاية من مواجهة العصر وتحدياته. فإذا أردنا أن يقاس الحوار بمنجزاته فلا بد من استحضار هذا السؤال لتحديد الحوار الحضاري لحوارنا وتفهم معطياته لنقدم من خلاله الفرص الجديدة لبناء الذات ومواجهة التحديات. ذلك أن أي حوار يتورط في معركة المغالبات المذهبية هو حوار خاسر لأنه حوار بين كتب السلف الصالح وليس حواراً بين عقولنا نحن ومواجعنا نحن.
لذلك فإن أي تنظير لموضوعية الحوار الإسلامي- الإسلامي خارج ميدان النهوض الثقافي والاجتماعي المقاوم لاستلاب الهوية وخارج النهوض السياسي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي لأرضنا العربية الإسلامية هو حوار ناقص مبستر وعاجز عن الاستمرار في الزمان والتاريخ لأنه يفصل إسلام الفكر والعقيدة عن وظيفته الربانية في الشهودية على الناس والتاريخ. ومن إهمالنا الواضح لمحددات الحوار وموضوعيته وأولوياته وقعنا في واحدة من أعظم المفارقات الساخرة، ففي الوقت الذي تمادى فيه علماؤنا ومفكرونا ومثقفونا في التحاور مع الاستشراق وفي الوقت الذي سقطنا في شبكة التحاور مع الصهيونية كان دخان الحروب الداخلية بين المسلم والمسلم يحجب أبصارنا عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل يومياً.
ومن المؤسف المؤلم أن المقاومة التي تحصّنا بها لعدة أجيال تكاد تتبدد في هذا المدى الغائم من لا موضوعية الحوار الغائب أو المغيب. وأغلب الظن أن الحوار الذي أخطأ وجهته وساريته منذ أن طرد آخر عربي مسلم من غرناطة عام 1492م قد انتهى بنا إلى هذه الحروب الخادعة فيما بيننا لتمنعنا رغم أنوفنا من خوض حربنا الحقيقية وربما الوحيدة على أرض فلسطين، لنجد أنفسنا ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين جاهزين تماماً للالتحاق الكامل بمراكب الغرب عبر وسيطه الصهيوني. ترى ألا يستفزنا هذا الواقع المرير إلى البحث عن وظيفة الحوار وفق التصور القرآني للإنسان والحياة، ليتمحور العقل الإسلامي حول تحليل المشكلات الأساسية لمجتمعاتنا المتنوعة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فنستدرك ما فاتنا من أسباب النهضة والكرامة بدراسة نقدية شاملة لمكامن التخلف الحقيقي في البلدان الإسلامية كافة والتي تتشابه ظروف تخلفها على الرغم من تعدد مدارسها الفقهية ومذاهبها الدينية. لذلك يبدو لي أنه من الضروري فض الاشتباك بين الحواريات المهتمة بتطوير الوعي المذهبي ونقديات التراث وبين الحواريات المهتمة بنقد نظريات التنمية والخيارات المتاحة في ظل الهيمنة الاستعمارية.
وإذا كان من الوارد هنا إرجاع مأزق الحوار الإسلامي- الإسلامي إلى اعتماده على مسلمات التراث كمادة أساسية لموضوعاته، فإن هذا الخطأ المنهجي لا يبرر التقاعس الثقافي والسياسي عن الاهتمام بتطوير الاهتمام بالجانب التنموي من الحوار، ولعل أبرز ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن رفض تمطيط المشكلات من الماضي إلى الحاضر والدعوة إلى تعميم عادة الحوار بين المثقف والسياسي والديني، يجب أن يتمثل بطريقة إيجابية تنطلق من مجانبة التشكيك ونبذ الخصومات المجانية بين قوى التغيير في مجتمعنا المتصدع. لأن افتراض سوء النيات سواء التقييم لأوضاعنا العامة، وافتراض سوء التقدير لأي حلول مقترحة لن تخدم إطلاقاً أغراض الحوار ومنطلقاته.
ومن نافل القول أن أشير هنا إلى أن التحولات الجذرية والعميقة، التي شهدها عالمنا الإسلامي بعد سقوط نظام الجامع والخلافة تتطلب الوقوف على وعي المساواة بين المؤسسة الدينية ومؤسسات المجتمع الأهلي لمعالجة قضايانا الحياتية بعيداً عن لعبة التصادم بين المواقع والأدوار لأن معركة التحرر من أخطبوط التبعية لاقتصاديات العالم الجديد وسياساته تخص الواقع الإسلامي كله على اختلاف اتجاهاته ومواقعه.
من هنا نسجل أن الحوار الإسلامي- الإسلامي ما لم يحسم أمره في بلورة مفاهيم الحرية والتعدد وحق الاختلاف ووعي التمايز والتنوع المحسوم بعقيدة التوحيد سيظل حواراً سكونياً لا يتجاوز ذاته إلى الآخر، ففي غياب مفهوم الحرية والحرية السياسية بالتحديد غابت الأعمال النقدية وارتمينا من وراء الشعور بالغبن الاجتماعي والاضطهاد الرسمي في قعر الانغلاق على خصوصيات الذات المذهبية أو الحزبية، ومن هذا الخندق بدأنا نخوض معركة الإصلاح والتغيير بسيل جارف من الممنوعات والمحرمات في ضوء فتاوانا المستندة إلى نظرة أحادية لمشكلات المجتمع الإسلامي فقلنا بوجوب قتال الطائفة الممتنعة عن الشريعة وقلنا بتحريم دخول البرلمان والأحزاب الوطنية وقلنا بتكفير الحاكم المبدل لشرع اللـه دون أن نبذل أي جهد يذكر في مجال الوعي التطبيقي للنصوص الشريفة، أو في تحديد مصطلحاتنا الشائعة، كمصطلحات الفقه والشريعة والحاكم والمنكر والطائفة والمواطنة «لا تبقرن بأيديكم بطونكم فثم لا حسرة تغني ولا جزع».
تجديد وظائف الحوار
وقد يؤخذ على مشروع البحث عن وظيفة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي في دائرة الدعوة إلى الانخراط في مشروع الداخل الإسلامي المتنوع والمتعدد مذهبياً وسياسياً، إشكالية التأخر الزمني، بمعنى أن هذه الدعوة سابقة لأوانها إلا أنني لا أرى أننا بمقدار ما نوفق في حسم إشكاليات العلاقة بين الإسلام ومعارضيه في الداخل سنقترب كثيراً كثيراً من حسم إشكاليات العلاقة بين الإسلام ونفسه انطلاقاً من حرص القرآن الكريم على خط الاتصال بالآخر، كموضوع للهداية الربانية ليضيء من خلال ذلك أهمية الجدل والتعارف بعيداً عن لجاجة العناد الذي لا يحترز من الكذب والبهتان والافتراء وبعيداً عن لغة الازدراء بجهود الآخرين وتضحياتهم في بناء الأوطان والمجتمعات، لأن من شأن هذا المستوى من المناقضة في الجدال أن يعمق حالة الانفصال الداخلي وتوسيع شروخاته وتناقضاته لا يرجى معه أمل من آمال الأهداف المشتركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومجابهة أي عدوان خارجي بوجه عام عسكريا، وسياسياً، وثقافياً ومن حقنا أن نبحث عن معيارية ما ومرجعية ما في هذا العصر الذي يتعرض فيه كل شيء للتسييس والاستغلال، ومن حقنا أن نتساءل من أين ننطلق؟ من السياسة لضبط أجهزتنا الدينية والسياسية أم من الدين لحمايته من أبنائه؟ إذ إننا وبسبب فقدان الضوابط والمعايير في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية ظلت أزمة الحوار الإسلامي- الإسلامي مجالاً سائباً يخترقه المرتزقة من رجال الثقافة والدين والسياسة.
إن السنوات المئة الماضية بما شهدت من تقلبات وانعطافات مهمة في العالمين العربي والإسلامي دفعتنا إلى إعادة تفحص مفهوم الحوار ووظيفته كيما نقف على شروطه الموضوعية برؤية واضحة المعالم والأهداف.
فهل أخطأت بعض الأنظمة في تقليل شأن الإسلام العقيدة والفكر حيث افترضت بلا وعي أن الدين هو مجرد عنصر تكميلي من مئات العناصر المكونة للأفق السياسي؟
وهل أخطأنا نحن بشعار استحالة التعايش بين الأنظمة والحركات الدينية فاعتبرنا أن المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تكون نموذج الغرب المسيحي الذي فرض العلمانية مبدأ وفلسفة، ولا حتى نموذج اليابان حيث تتكامل الروحانية البوذية مع البراغماتية الاقتصادية دونما توتر أو صدام؟
لقد أشار القرآن الكريم إلى ظاهرة الخبث في الجماعة الإسلامية الأولى واعتبر الامتحان ضرورة لتصفية الواقع المخلط لتمييز الشخصية الخبيثة من الشخصية الطيبة. فقال سبحانه: «ما كان اللـه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان اللـه ليطلعكم على الغيب ولكن اللـه يجتبي من رسله من يشاء». الـعمران 179.
لذلك وبغض النظر عن الأخطاء التي احتملناها صواباً فالحقيقة المرة أن حروبنا الداخلية كانت من أبشع الأخطاء التاريخية الحديثة لأن سفك الدماء المجانية لم يحقق إطلاقاً قيمة التمييز بين الخبيث والطيب.
قال رسول اللـه (ص) في وصيته الخالدة لأصحابه معترضاً على إلحاحهم عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين: «فكيف بالعرب إذا قالت إن محمداً يقتل أصحابه؟».
فكيف نسقط هذا الجدار المصطنع في حين سميناه نقلاً عن الإعلام الغربي التنويريين والظلاميين؟ إذن لقد قمنا بعملية استنساخ كربوني واضح لعوامل الانحطاط في الماضي والحاضر دون أن نلتفت إلى أن تمسك الذهنية الإسلامية بنقل الماضي ومحاكاته جعلها عاجزة أو قاصرة عن مواجهة تحديات الواقع. كما أن الذهنية العلمانية التي لجأت إلى نقل الفكر الغربي ومحاكاته دون دراسة ودون تحديد الجوهري والثانوي منه ما جعلها عاجزة هي الأخرى وفاشلة عن تأمين الحد الأدنى لرفاه أمتنا ووحدتها وتقدمها. صحيح أن أشياء كثيرة قد امحت من قسماتنا وملامحنا، من خصائصنا وخصوصيتنا غير أن ذلك لا يسوغ شعورنا بالإحباط وحتى لا تستثمر الاختلافات فيما بيننا لمصلحة مشروع المتوسطية الجديدة يجب أن نحدد وظيفة الحوار وآفاقه من واقع حياتنا ومن واقع الاعتراف بتطويع الاختلاف وترويضه لمصلحة أهدافنا العليا في الحياة، ولمصلحة عروبتنا، وأقول عروبة عند هذا المنعطف الحرج من مصيرنا لأن العروبة هي العنصر الأثقل في إسلامية حوارنا ووحدتنا.
فهل ينجح الاستنفار الإسلامي الآن لدعمها في تحرير القدس الشريف؟ نكون قد تجاوزنا فعلاً وحدة الحبر على الورق، ووحدة الجامعة العربية، ووحدة منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى أرضية اختبار هذه الوحدة وتحدياتها في الموقف التاريخي من مستقبل القدس الشريف على جبل أبو غنيم. هذا لو أردنا أن تعيش مهمومة بهموم جيلها وتاريخها. وبهذا الوعي سيصبح الحوار الإسلامي- الإسلامي قاعدة صلبة للحوار المسيحي- الإسلامي وامتدادها إلى الحوار الإنساني- الإنساني. وبهذا الوعي نكون قد ساهمنا فعلاً من جهة أخرى بإعادة تفسير وتركيب المفهوم النبوي لحديث الفرقة الناجية بتفسير كينونتها ومضمونها بشهود الأمة وشهدائها وثقاتها الأحرار بعيداً عن التفسير المذهبي الطائفي النرجسي الضيق المحدود. ولا يخفى على إخواننا وأبنائنا في المؤسسات والحركات الإسلامية أن الإسلام لا يمنع المسلم من إثبات وجوده ما دام هذا الإثبات مستنداً إلى الاعتراف بحق الآخر في الوجود وحقه في الاختلاف. بيد أن أزمة المقبول والمرفوض من الخلاف ستظل عالقة في أزمة التنابذ بالنصوص الشرعية في حوارات عقيمة تنطلق من احتكار الحقيقة المطلقة وتحتمي بشرعية التخطئة والتصويب بغطاء من الحديث النبوي عن الفرقة الناجية، وهو من الأحاديث التي لم تثبت عندي صحة نسبتها إلى رسول اللـه (ص). «اختلاف أمتي رحمة» ولكن في غياب الحديث النبوي الآخر: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» ترتكب المؤتمرات الإسلامية والحوارات الإسلامية ورطة الخلط بين مفهوم الاختلاف كمصدر للثراء الفكري ومفهوم الخلاف كمصدر للتباغض والقطيعة المعرفية، وتدمير الذات والهوية.
ألم نرتكب في الماضي خطأ فادحاً بتقسيم وجودنا السياسي إلى تقدمي ورجعي، ثم اتضح لنا بعد سلسلة فجائعية من الهزائم أن هذا التقسيم لا معنى له على الإطلاق. ثم ارتكبنا خطأ مماثلاً بتصنيف وجودنا الفكري والثقافي إلى ديني وعلماني. وفي ظل الحوار الإسلامي يرتكب أفكاره الملتبسة بتجاوزه لوظيفته التي لا يمكن فصلها عن عالمية الإسلام فضلاً عن مشكلات الحضارة وقضايا الإنسان..
الشيخ حسين أحمد شحادة
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد