الدبلوماسية المصرية والحصاد المرّ
الجمل: اكتسبت مصر قوتها الإقليمية من خلال سياستها الخارجية إزاء منطقة شرق المتوسط ومنطقة حوض النيل، ولكن بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديڤيد وإدماج سياستها الإقليمية ضمن السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية المرتبطة بإسرائيل، برزت في الآونة الأخيرة تطورات تشير إلى فشل السياسة المصرية إزاء منطقة شرق المتوسط، وإلى فشل السياسة المصرية أيضاً إزاء منطقة حوض النيل، فهل يا تُرى بدأت السياسة المصرية الدخول في مرحلة الحصار المُر؟ وما هي تداعيات هذا الحصار المُر على مستقبل مصر في المسرحين الإقليمي والدولي؟
* السياسة المصرية إزاء منطقة شرق المتوسط:
راهنت السياسة الخارجية المصرية في السنوات الأولى التي أعقب اتفاقية كامب ديڤيد على أن خروج مصر من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي سوف يشكل عاملاً ضاغطاً على سوريا والفلسطينيين والمقاومة اللبنانية لجهة القبول بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل والدخول في علاقات التطبيع مع الإسرائيليين، وتأسيساً على ذلك، فقد اعتمدت القاهرة نموذج «السمسار الذكي» الإقليمي، والذي يضع أمام الأطراف الشرق أوسطية المتصارعة مع إسرائيل خيارين لا ثالث لهما:
• القبول بتوقيع اتفاقيات السلام والتطبيع، وبالتالي عدم مواجهة إسرائيل.
• عدم القبول بتوقيع اتفاقيات السلام والتطبيع، وبالتالي مواجهة إسرائيل.
وبمرور الزمن، أكدت معطيات الخبرة، أن رهان القاهرة أصبح خاسراً، وبعد ذلك، تحول رهان القاهرة ، ليس إزاء القيام بالضغط على الأطراف الشرق متوسطية وحسب، وإنما أيضاً إزاء التنسيق مع أطراف محور تل أبيب – واشنطن إزاء كيفية القيام بإضعاف الأطراف الشرق أوسطية الرافضة بما يجعلها أكثر انكساراً إزاء القبول بشروط السلام الإسرائيلية التي أصبحت أكثر إجحافاً.
* السياسة الخارجية المصرية إزاء منطقة حوض النيل:
راهنت السياسة الخارجية المصرية، على أن ملف منطقة حوض النيل سوف يظل تحت يد القاهرة، ورهن إشارتها وذلك للأسباب التالية:
• اعتماد القاهرة على فكرة أن تحالفها مع محور واشنطن – تل أبيب سوف يترتب عليه زوال الخطر الذي ظلّ ماثلاً في منطقة حوض النيل، وذلك طالما أن السلام والتطبيع مع إسرائيل سوف يدفع إسرائيل باتجاه صرف النظر عن استهداف مصر عبر منطقة حوض النيل.
• ارتباط مصر بعلاقات استراتيجية مع السودان، وبالتالي، فإن السودان سوف يظل بشكلٍ دائم قوة مضافة لصالح السياسة المصرية في منطقة حوض النيل.
• اعتماد القاهرة على فكرة أن حوض النيل لا تتمتع بأي قدرات حقيقية تؤهلها للوقوف في وجه القوة المصرية، وذلك طالما أن حسابات الميزان العسكري تشير إلى أن معارك توازن القوى في منطقة حوض النيل تميل دائماً إلى ترجيح وزن القوة العسكرية المصرية.
لم تهتم الدبلوماسية المصرية بتوطيد الروابط مع دول منابع النيل الأفريقية الرئيسية مثل أوغندا وأثيوبيا وكينيا، واكتفت بالاعتماد على الخرطوم لجهة القيام بدور الـ «بروكسي» الذي يقوم بدور القائم بأعمال الدبلوماسية المصرية بالوكالة عن القاهرة في منطقة حوض النيل، ويمكن اعتبار هذا الدور سارياً بقدرٍ كبير طوال فترة حكم الرئيس السوداني «جعفر النميري» الذي شكّل مع الرئيس المصري السابق أنور السادات ما أطلق عليه الخبراء تسمية محور السادات – النميري، والذي وزعا فيه الأدوار، بحيث من جهة يقوم جعفر النميري بدعم مصالح القاهرة في بلدان حوض النيل، إضافةً إلى القيام بدور حصان طروادة المصري داخل الجامعة العربية، التي رحلت آنذاك من القاهرة بسبب الرفض العربي لاتفاقية كامب ديڤيد، ومن الجهة الأخرى، يقوم أنور السادات بحماية مصالح الخرطوم في الساحة الأمريكية والأوروبية الغربية.
اغتيال أنور السادات، والذي أعقبه سقوط نظام جعفر النميري، ترتب عليهما صعود الرئيس محمد حسني مبارك في القاهرة، وصعود خصوم جعفر النميري إلى السلطة في الخرطوم. وكان أول ما حدث، هو تبادل الاتهامات على خط الخرطوم – القاهرة، بما دفع الخرطوم إلى الإعلان رسمياً عن إلغاء كافة الاتفاقيات التي سبق أن وقعها الرئيس النميري مع القاهرة. ثم أعقب ذلك، في منتصف العام 1989م صعود نظام الرئيس عمر البشير في الخرطوم، والذي بدا واضح العداء لواشنطن وإسرائيل. بالمقابل، سعت القاهرة إلى الضغوط عليه، وتصاعدت خصومته إلى الحد الذي أدى إلى الآتي:
- استضافة القاهرة للمعارضة المسلحة السودانية، وعلى وجه الخصوص «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وبقية أحزاب التجمع الوطني السوداني.
- استضافة الخرطوم لحركات المعارضة المسلحة المصرية، وعلى وجه الخصوص عناصر تنظيم «الجهاد المصري».
تصاعدت التوترات إلى حد حشد القوات على خط الحدود السودانية – المصرية في منطقة مثلث «حلايب» المقابل للبحر الأحمر بعد محاولة اغتيال حسني مبارك التي اتهمت فيها القاهرة المخابرات السودانية بالتورط فيها، وبعد ذلك سعت القاهرة إلى الوقوف إلى جانب واشنطن في برامج فرض العقوبات الدولية ضد السودان.
* الدبلوماسية المصرية والحصاد المرّ:
سعت القاهرة إلى إبعاد الفلسطينيين عن دمشق، تحت مزاعم أن السبيل الأمثل لقيام الدولة الفلسطينية هو السير في خط السياسة الخارجية الأمريكية، طالما أن القاهرة هي التي تملك مفاتيح البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي.
وبالفعل، فقد أدت الضغوط والإغراءات المصرية إلى دفع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لجهة التخلي عن التعاون مع دمشق، إضافةً إلى القيام بالتوقيع على اتفاقية أوسلو.
سعت القاهرة إلى دعم حركة جون غرنج الجنوبية السودانية المتمردة، وأيضاً دعم فصائل المعارضة السودانية الأخرى، وكانت تتوقع أن تستطيع من خلال تلك الحركات إما إسقاط نظام الرئيس عمر البشير بما يجعله يعود إلى حظيرة النفوذ المصري. ولكن لم يحصل لا هذا ولا ذاك، فقد توجه نظام الرئيس عمر البشير إلى عقد اتفاقية سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، بما جعل السودان إزاء خط التقسيم والانفصال، وذلك على النحو الذي سوف يهدد مصالح مصر المائية في حوض النيل بالخطر الشديد.
أما بقية دول حوض النيل، فقد سعت القاهرة إلى دعوتها لاجتماع قمة في مصر، وخططت القاهرة لجهة تمرير اتفاقية تضمن مصر حصتها المائية، وأيضاً ممارسة حق «الڤيتو» على المشروعات التي يمكن إقامتها في حوض النيل. وفي الاجتماع الوزاري الذي عقدته دول حوض النيل في القاهرة، رفضت دول الحوض الموافقة على المطالب المصرية، الأمر الذي سوف يترتب عليه تعزيز المخاطر المحدقة بالمصالح المائية المصرية في منطقة حوض النيل.
ثم جاء بعد ذلك وزير الخارجية الإسرائيلي ومعه مندوبو شركات إنتاج الأسلحة الإسرائيلية، في جولة شملت دول حوض النيل الأفريقية، وتم خلال هذه الجولة توقيع عقود تزويد كل من إثيوبيا وكينيا ورواندا والكونغو بالأسلحة الإسرائيلية، وذلك على النحو الذي سيترتب عليه تغيير أوضاع الميزان العسكري في منطقة حوض النيل.
وبالنتيجة، ومع تزايد «الحصار المر» والذي سوف تتزايد ثماره كلما تزايدت أخطاء الدبلوماسية المصرية، فإن هذه المخاطر لن تكون موجودة ضمن بلدان منطقة شرق المتوسط، وبلدان حوض النيل وحسب، وإنما، وكما تشير المعلومات، فقد بدأت تداعياتها تنتقل إلى داخل مصر نفسها، وذلك بشكلٍ أصبح يهدد بتحول مصر إلى دولة فاشلة في المنطقة، ومن أبرز المؤشرات الدالة على ذلك:
• تزايد وتائر الأزمة الاقتصادية والفقر ومعدلات البطالة وحالياً، فقد أصبحت مصر أكثر دولة مصدرة للعمالة في المنطقة.
• تزايد وتائر المديونات الخارجية ، بشكلٍ أصبح أكثر خطورة، فمصر أصبحت أكثر تورطاً في استدانة القروض السلعية الاستهلاكية مثل القمح والدقيق، وليس السلع الرأسمالية مثل الماكينات والمصانع التي تساعد في تحقيق التنمية وتدر العائدات والأرباح للاقتصاد المصري.
• تزايد وتائر حالة عدم الاستقرار السياسي، فحتى الآن، لا يوجد أي نظام ثابت واضح المعالم إزاء كيفية القيام بعملية تداول السلطة بعد خروج الرئيس حسني مبارك.
• تزايد الاختلافات في أوساط الرأي العام المصري، وتحديداً الشرائح الدنيا والوسطى.
وإضافةً إلى ذلك، فقد كانت مصر، خلال فترة ما قبل كامب ديڤيد من البلدان النامية القائدة في العالم الثالث، ولكنها بعد توقيع اتفاقية كامب ديڤيد تحولت إلى دولة تابعة.. وبعد أن تزايدت التبعية أكثر فأكثر، بدأت رحلة التحول من «نموذج الدولة التابعة» إلى «نموذج الدولة الفاشلة». فهل سوف تسعى النخب المصرية باتجاه إنقاذ مصر عن طريق إخراجها من معسكر المعتدلين العرب، وإعادتها إلى الصف العربي؟ أم أن هذه النخب سوف تسعى إلى المزيد مما ظلت تقوم به حكومة الرئيس حسني مبارك الحالية ؟!!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد